الولايات المتحدة تستعد لتقليص علاقتها مع باكستان

مرحلة جديدة بعد مشاكل أمنية وفقدان الثقة بين الطرفين

TT

في الوقت الذي أيقنت فيه الولايات المتحدة بأن شراكتها الأمنية واسعة النطاق مع باكستان قد انتهت بالفعل، يسعى مسؤولون أميركيون لإنقاذ تحالف واشنطن وإسلام آباد المحدود في مجال مكافحة الإرهاب، وهو ما يراه المسؤولون بأنه سيحد من قدرتهم على شن هجمات ضد المتطرفين ونقل الإمدادات إلى داخل أفغانستان.

وصرح مسؤولون أميركيون وباكستانيون بأن الولايات المتحدة ستضطر للحد من الهجمات التي تقوم بها الطائرات بلا طيار، إضافة إلى تقليص عدد أفراد الاستخبارات والجنود على الأرض، وإنفاق المزيد من الأموال لنقل الإمدادات عبر باكستان إلى قوات التحالف في أفغانستان. وأشار المسؤولون إلى أن المساعدات الأميركية لباكستان سوف تنخفض بشكل حاد.

وقال أحد كبار المسؤولين الأميركيين، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لتجنب الدخول في عداء مع المسؤولين الباكستانيين: «لقد طوينا صفحة ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، غير أن باكستان قد قالت بكل وضوح إنها تقوم بإعادة تقييم العلاقة برمتها».

ويرى مسؤولون أميركيون أن العلاقات سوف تستمر بشكل أو بآخر، إلا أن ملامح تلك العلاقات لن تكون واضحة قبل أن تقوم باكستان بإعادة النظر في علاقتها مع الولايات المتحدة على نطاق واسع خلال الأسابيع المقبلة.

وقد توترت العلاقات الأميركية الباكستانية في أعقاب الهجمات الجوية الأميركية التي أدت إلى مقتل 26 جنديا باكستانيا بالقرب من الحدود مع أفغانستان الشهر الماضي، حيث قامت إسلام آباد بإغلاق طرق الإمدادات إلى القوات في أفغانستان، علاوة على مقاطعتها للمؤتمر الذي عقد في ألمانيا حول مستقبل أفغانستان، وإجبار واشنطن على إخلاء القاعدة الجوية الأميركية للطائرات بلا طيار جنوب غربي باكستان. ومن جانبه، لخص مشاهد حسين سيد، وهو الأمين العام لحزب الرابطة الإسلامية الباكستانية المعارض، الغضب الباكستاني بقوله: «لقد شعرنا بأن الولايات المتحدة تعامل باكستان ككم مهمل تستفيد منه عند اللزوم».

وأيا كان ما ستتمخض عنه المرحلة المقبلة فلن يكون سوى مجرد صورة باهتة للعلاقة الاستراتيجية القوية التي دافع عنها ريتشارد هولبروك، مبعوث الرئيس أوباما الخاص لأفغانستان وباكستان، قبل وفاته العام الماضي. وقد عكف مسؤولون من كلا الجانبين خلال السنوات الماضية على تعزيز العلاقات بين البلدين من خلال تكوين العديد من اللجان في مختلف المجالات مثل الصحة، وسيادة القانون، علاوة على التنمية الاقتصادية.

وقد تم التخلي عن كل ذلك وسيتم استبداله على الأرجح بمجموعة أقل بكثير من الاتفاقات التي تتعلق بالأولويات الأساسية - مثل مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في أفغانستان وضمان سلامة ترسانة باكستان النووية التي تصل لأكثر من 100 قنبلة نووية - والتي يريد الباكستانيون توضيحها كتابة والاتفاق عليها مسبقا.

وفي الوقت الذي ينتظر فيه الدبلوماسيون الأميركيون بهدوء، ومع توقف هجمات الطائرات بلا طيار التي تشنها وكالة الاستخبارات الأميركية منذ السادس عشر من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) - وهي أطول فترة توقف منذ عام 2008 - تقوم الحكومة الباكستانية بوضع ما وصفه رئيس الوزراء الباكستاني يوسف رضا جيلاني بـ«الخطوط الحمراء» في العلاقات الجديدة التي ستحمي سيادة بلاده وسلامتها الإقليمية.

وقال مسؤول أميركي: «يدرك كلا البلدين فوائد الشراكة ضد التهديدات المشتركة، ولكن يجب أن يكون هناك توازن بين تلك الشراكة والمصالح الوطنية أيضا. ويعد هذا التوازن بمثابة عملية مستمرة».

وفي البداية، حسب تصريحات المسؤول، من المرجح أن تكون هناك سلسلة من الاتفاقات التي سيتم اتخاذها خطوة خطوة بشأن التعاون العسكري وتبادل المعلومات الاستخباراتية وعمليات مكافحة الإرهاب، بما في ذلك إعادة النظر في «مربعات القتل»، وهو مصطلح يطلق على مناطق الطيران فوق المناطق الحدودية الباكستانية التي يتم السماح فيها لوكالة المخابرات المركزية الأميركية بشن عمليات بطائرات بلا طيار لملاحقة عدد من قادة تنظيم القاعدة وغيرهم من المتشددين.

يذكر أن وكالة الاستخبارات الأميركية قد شنت 64 هجمة صاروخية على باكستان باستخدام طائرات بلا طيار خلال العام الجاري، مقارنة بـ 117 العام الماضي و53 في عام 2009، وفقا لموقع «لونغ وور جورنال» المختص في الشؤون الحربية.

وفي واحدة من العلامات الأكثر وضوحا على تصاعد المشاعر المعادية للولايات المتحدة في باكستان، خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى شوارع لاهور وبيشاور خلال الشهر الجاري، كما تجمع 100000 شخص يوم الأحد الماضي في كراتشي، أكبر المدن الباكستانية، لدعم عمران خان، وهو أحد نجوم لعبة الكريكيت وأحد السياسيين الواعدين الذي ينتقد صراحة الهجمات التي تشنها الولايات المتحدة بطائرات بلا طيار، وكذلك العلاقات مع الولايات المتحدة.

وقد تحدث بعض الضباط الباكستانيين علنا عن إسقاط أي طائرات أميركية تنتهك السيادة الباكستانية. وقال مسؤول أمني باكستاني بارز: «لا شيء يحدث بشأن مكافحة الإرهاب في الوقت الراهن، ولن يعود الأمر أبدا إلى ما كان عليه في الماضي».

وعلاوة على ذلك، فإن أي إطار أمني جديد سيتطلب زيادة رسوم العبور لآلاف الشاحنات التي تزود قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان، وهو القانون الذي يقول مسؤولون في قوات التحالف إنه سيكلفهم عشرات الملايين من الدولارات.

ويتوقع مسؤولون باكستانيون وأميركيون خفض المساعدات الأمنية الأميركية لباكستان، بما في ذلك استمرار تعليق أكثر من مليار دولار في هيئة مساعدات عسكرية ومعدات، والذي تم تجميده منذ الغارة الأميركية التي قتل فيها زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن في باكستان في شهر مايو (أيار) الماضي.

وقد انخفض عدد الضباط والقوات والمقاولين الأميركيين في باكستان إلى نحو 100 شخص، من نحو 400 شخص منذ أكثر من عام، بما في ذلك عشرات من المدربين الأميركيين الذين عادوا للولايات المتحدة. وفي المقابل، تقوم باكستان هي الأخرى بفرض عدد من القيود على منح تأشيرات لعشرات من الدبلوماسيين الأميركيين، بدءا من أفراد الاستخبارات وحتى عمال الإغاثة.

ومن بين نحو عشرين مسؤولا أميركيا وغربيا وباكستانيا تم إجراء مقابلات شخصية معهم في هذه المقالة، سعى عدد قليل منهم لتحسين صورة الوضع المتفاقم بين البلدين. وفي الوقت الذي ستكون فيه باكستان عضوا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمدة عامين ابتداء من الشهر المقبل، قال هؤلاء المسؤولون إن هناك احتمالا كبيرا لحدوث قطيعة في العلاقات بين البلدين بشكل كامل. وقال أحد المسؤولين الغربيين: «إن وجود علاقات أكثر تركيزا ويمكن التنبؤ بها أفضل من مجرد وجود علاقة خارج نطاق السيطرة». وقال دبلوماسي غربي آخر بصراحة أكبر: «إنها صورة قاتمة إلى حد ما».

وقبل شهرين فقط من الآن، بدت الزيارة التي قام بها كل من وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، وديفيد بترايوس، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، والجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، وكأنها ستعمل على تحسين العلاقات التي كانت قد تجمدت تقريبا منذ قيام ريموند ديفيس، وهو أميركي عمل في شبكة للتجسس على باكستان، بقتل رجلين باكستانيين في لاهور في شهر يناير (كانون الثاني)، ومقتل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن في شهر مايو (أيار) الماضي.

وقال مسؤولون أميركيون إن المصنعين الباكستانيين لسماد نترات الأمونيوم، وهو مكون للقنابل محلية الصنع التي تستخدم ضد الجنود الأميركيين في أفغانستان، قد وافقوا مبدئيا على صبغها بمادة معينة تسهل من عملية اقتفاء أثرها، كما تعهد مسؤولون في وزارة الداخلية بتعقب المشتريات الكبيرة وغير المبررة لتلك المادة.

وفي الوقت ذاته، أشار مسؤولون باكستانيون إلى أنهم سيعملون على كبح جماح الهجمات التي تشنها شبكة حقاني، وهي جماعة متمردة تعمل على قتل قوات التحالف في أفغانستان. وكانت هناك تلميحات إلى أن باكستان سوف تمهد الطريق لإجراء محادثات سلام مع حركة طالبان في أفغانستان، غير أن الغارة الجوية الأميركية في السادس والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) قد محت هذا التقدم الأولي، ووجهت ضربة قاسية لمحادثات المصالحة التي تشمل باكستان. وقال أفتاب أحمد شيرباو، وهو وزير داخلية سابق: «لا يحدث هذا الآن».

ويأتي كل هذا في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الباكستاني من تدهور سريع، وفي ظل الصدامات والمناوشات بين القادة المدنيين والعسكريين فيما يتعلق بمؤامرات مزعومة للقيام بانقلاب، وفي ظل وجود 150 ألف جندي باكستاني على طول الحدود الأفغانية لقتال المسلحين هناك.

وقال جاويد أشرف قاضي، وهو جنرال متقاعد ورئيس سابق لجهاز المخابرات الباكستاني: «هؤلاء الناس عالقون هناك بصورة سيئة للغاية».

وقد ارتفع عدد الهجمات بالقنابل محلية الصنع في جميع أنحاء البلاد، لا سيما على المناطق الحدودية، إلى 1036 هجمة خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الجاري، مقارنة بـ 413 هجمة طيلة عام 2007، وفقا لما أعلنه الجيش الباكستاني. يذكر أن أكثر من 3500 جندي وشرطي باكستاني قد لقوا مصرعهم منذ عام 2002.

وتحاول إدارة أوباما يائسة الحفاظ على ما تبقى من علاقتها بباكستان. وقد سأل الجنرال ديمبسي قائد الجيش الباكستاني الجنرال أشفق برفيز كياني، في مكالمة هاتفية الأربعاء الماضي، عما إذا كان من الممكن إصلاح العلاقة بين البلدين، ورد كياني قائلا إن ذلك ممكن، ولكن باكستان بحاجة إلى بعض الوقت، حسب ما صرح به شخص مطلع على المكالمة.

وكشفت روبين رافيل، وهي دبلوماسية أميركية رفيعة المستوى ومتخصصة في شؤون منطقة جنوب آسيا، والتي تم إيفادها من قبل الإدارة الأميركية إلى باكستان الشهر الماضي لمعرفة ردود أفعال المسؤولين هناك في أعقاب الهجمة الجوية الأخيرة - كشفت النقاب عن أن معظم المسؤولين في إسلام آباد لن يمضوا قدما في العلاقات مع واشنطن بدون اعتذار رسمي من قبل الرئيس الأميركي باراك أوباما عن الهجمات الأميركية الأخيرة. وقد استبعد مسؤولون في البيت الأبيض إمكانية حدوث ذلك في المستقبل القريب.

ومع ذلك، لا يزال المسؤولون الأميركيون يحدوهم الأمل في استعادة العلاقات مع باكستان، حيث صرح مارك تونر، الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، يوم الجمعة الماضي: «إننا صريحون للغاية ونعترف بأن هذه العلاقات تحتاج إلى مزيد من العمل».

* خدمة «نيويورك تايمز»