السلطات العراقية تحول العدالة إلى استعراض واعترافات مرعبة متلفزة

وسط اعتراضات دبلوماسيين غربيين ونشطاء حقوق الإنسان

المشتبه بهم في القضايا الإرهابية يعرضون عادة أمام وسائل الإعلام (نيويورك تايمز)
TT

كانت الكاميرات تدور والمراسلون على أهبة الاستعداد داخل القاعة، ومن ثم، أعطى ضابط الشرطة العراقي الإشارة: أحضروا السجناء. وحضر 21 سجينا متهما بجرائم إرهاب وقتل يجرون أقدامهم وأيديهم مقيدة بالأصفاد وأعينهم تنظر إلى الأسفل. في هذا اليوم، لم يكونوا سيقادون إلى المحكمة، إنما كانوا مصطفين لمواجهة الصحافة. «ارفعوا رؤوسكم»، هكذا صدرت أوامر أحد ضباط الشرطة، بينما احتشد المصورون.

وسط اعتراضات دبلوماسيين غربيين ونشطاء حقوقيين، ركزت قوات الأمن في العراق على إمداد وسائل الإعلام بصور تجسد من خلالها مدى كيفية قمعها الإرهاب، مستخدمة المحتجزين – ومعظمهم من السنة – كخلفيات لأحاديث واعترافات تبث على التلفزيون الحكومي.

بالنسبة للمسؤولين العراقيين، تعتبر صور السجناء إشارة انتصار؛ حيث تعتبر بمثابة دفاع حاد ضد الاتهامات بأن الشرطة والجيش عاجزان عن السيطرة على حالة تمرد جامحة. غير أنه بالنسبة للكثير من المؤيدين للنهج الغربي، تعتبر الطقوس المتبعة مثيرة للاهتياج، بل وغير قانونية، أعراض لنظام عدالة ملوث سياسيا ما زال يعتمد على الاعترافات، يتم انتزاع كثير منها بالإكراه، على الرغم من المعونات الأميركية التي تقدر بالملايين وبرامج التدريب القانونية.

إضافة إلى ذلك، فإن عرض صور السجناء يزيد من حدة التوترات السياسية والطائفية التي انزلقت بالحكومة العراقية إلى حالة من الفوضى فور انسحاب القوات العسكرية الأميركية في ديسمبر (كانون الأول). عندما أصدر مسؤولون من الحكومة التي يترأسها شيعي مذكرة اعتقال بحق نائب الرئيس السني، طارق الهاشمي، قاموا بعرض اعترافات مسجلة على الفيديو لثلاثة من أفراد الحرس اتهموا فيها الهاشمي بتشكيل فرقة موت تشن عمليات ضد ضباط شرطة ومنافسين سياسيين.

وذكرت السلطات العراقية أن الاعترافات كانت بمثابة دليل على الجرم الذي ارتكبه الهاشمي، غير أن ساسة سنة نظروا إليها باعتبارها هجوما يوظف وسائل الإعلام الحكومية للنيل من سمعة سياسي سني بارز والإطاحة به. وأحبط مسؤولون أميركيون ودبلوماسيون غربيون في بغداد حينما شاهدوا الاعترافات تبث على تلفزيون الدولة.

وقال خبير غربي في القانون الدولي: «إن ظهور أشخاص متهمين بجرائم على شاشة التلفزيون أو من خلال اعترافات يتم بثها يعد مخالفة للإجراءات القانونية المعمول بها». وأضاف الخبير، الذي أعرب لمسؤولين عراقيين عن هذه المخاوف: «إنه عمل مهين للكرامة الإنسانية ويخل باحترام سير العدالة». وقال خبراء قانونيون إن استراتيجيات وسائل الإعلام الحكومية تنتهك الاتفاقات الدولية التي قد وقعها العراق، والتي تحدد حقوقا أساسية للمدانين في جرائم.

بل إن بعض مؤيدي رئيس الوزراء نوري المالكي انتقدوا قرار بث الاعترافات المسجلة على الفيديو لأفراد من حرس الهاشمي.

وانسحب مسؤولون تشريعيون عراقيون من مؤتمر صحافي دعت إليه قوات الأمن لإعلان مذكرة الاعتقال؛ نظرا لرغبة هؤلاء المسؤولين في عدم بث الاعترافات تلفزيونيا. وذكر إبراهيم الصميدعي، وهو محلل سياسي مقرب للمالكي، أن بث الاعترافات يشكل انتهاكا للإجراءات القانونية المنصوص عليها في الدستور العراقي ويذكر باستغلال صدام حسين وسائل الإعلام الإخبارية في إرهاب أعدائه والكشف عن مؤامرات لا حصر لها ضد حكومته. وأضاف: «إن بث هذه الاعترافات على شاشة التلفزيون جريمة.. إنه عار وموروث مشين من الديكتاتور السابق. من يبث هذه الاعترافات ينجح في تقسيم الشعب العراقي بين شيعة وسنة. ما الفائدة التي تعود من ذلك؟».

غير أن المسؤولين العراقيين قد ضربوا بالانتقادات عرض الحائط؛ ففي دولة تعد نظريات المؤامرة فيها أمرا مسلما به في الحياة اليومية، تقدم الاعترافات وصور السجناء المكبلين بالأصفاد دليلا مقنعا على أن المسؤولين العراقيين يلاحقون المجرمين.

في هذا السياق يتساءل اللواء عادل دحام، وهو من كبار مسؤولي وزارة الداخلية: «إذا قلنا إننا قد أمسكنا بزعيم تنظيم القاعدة، فمن سيصدقنا؟». وأردف: «هذا الإجراء يهدف إلى إظهار المصداقية. نحن واثقون من أننا ننتهج الإجراء الصائب».

وفي الصيف الماضي، اصطحب مسؤولون أمنيون عراقيون مدعيين اثنين إلى المكان الذي وقعت فيه مذبحة شمال بغداد، وطلبوا من المتهمين استرجاع كيف قاما، منذ عدة سنوات، بإيقاف عدد من الشيعة على طول نهر وأطلقا النار عليهم. وتم بث رواياتهما عن عمليات القتل على شاشة محطة «العراقية» التلفزيونية الحكومية.

وفي سبتمبر (أيلول) 2010، عقدت وزارة الداخلية، التي تدير قوة شرطة تضم 600.000 ضابط في العراق، مؤتمرا صحافيا للإعلان عن إلقاء القبض على عصابة من اللصوص كانت توظف أرباحها في تمويل عمليات إرهابية. وعلى مفرش من الدانتيل الأبيض، رص المسؤولون الأسلحة وأجهزة كتم الصوت والمصوغات الذهبية المسروقة. واصطف المحتجزون في مواجهة حائط وهم ينظرون إلى الأسفل، بينما أخذ المسؤولون يستعرضون جرائمهم. في أحد المواضع في مقطع فيديو للمؤتمر الصحافي، وجه ضابط شرطة لكمة لأحد المتهمين في صدره لإجباره على مواجهة الكاميرات.

وفي مؤتمر صحافي بارز عقد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، اصطحبت السلطات العراقية 24 متهما في جرائم إرهاب إلى قاعة استماع وسط نحيب عشرات الأرامل والأيتام. واستعرض وكيل وزير الداخلية، عدنان الأسدي، تفاصيل جرائم القتل المنسوبة إلى هؤلاء المتهمين، لكن المشهد سرعان ما تحول إلى صرخات. ومع دوران الكاميرات، طالبت نساء يتشحن بالسواد ويحملن صورا لأزواجهن وإخوتهن وأبنائهن المقتولين، بإعدام المتهمين. وأخذ الأطفال يصرخون وينوحون. وقذف بضعة أفراد الأحذية، وتعالت صيحاتهم المطالِبة بالقصاص من المتهمين، بينما جلس المتهمون ملتزمين الصمت. واعترف مسؤولون عراقيون لاحقا بأن الأمور قد خرجت عن نطاق سيطرتهم في ذلك اليوم، غير أن الأسدي قال إنه كان من المهم بالنسبة للجمهور مشاهدة وجوه المسلحين والمجرمين الذين شنوا هجمات ضد العراقيين وسماع اعترافاتهم.

جماعات حقوقية أبرزت الكثير من انتهاكات النظام القضائي العراقي.. فعلى سبيل المثال، يتم احتجاز المشتبه فيهم لعدة أسابيع بل وربما أشهر، أحيانا بشكل سري، وعادة ما يتم ذلك دون توجيه اتهامات رسمية لهم. ويتم إصدار أحكام ضدهم قبل أن يعلم أقاربهم أن ثمة محاكمة تجري مجراها. وفي النهاية، ربما تكون الاعترافات المتلفزة والصور هي المرة الوحيدة التي يشاهد فيها العراقيون هؤلاء المتهمين أو يسمعونهم.

الأسدي بدوره قال: «إننا نريد أن نظهر للشعب العراقي كيف ارتكبوا هذه الجرائم ومدى خطورتهم وتأثيرهم على مسار العملية السياسية». وأضاف: «سيرى العالم».

* خدمة «نيويورك تايمز»