مصر.. المواصلات العامة مطية جديدة للسياسة

أصبحت سوقا للفضفضة ومحاسبة الحكومة والثورة

TT

«على مهلك يا ست.. خففي حماسك شوية علشان صحتك».. لم تفلح هذه الكلمة الحانية التي قالها سائق حافلة شاب في تهدئة حماس سيدة ستينية، فالتفتت إلى جمهور الباص وهي تهم بالنزول: «ربنا أعطاكم هدية جميلة اسمها الثورة فكروا إزاي تحافظوا عليها، وبلاش نختلف عمّال على بطّال».

كانت السيدة، وهي مدرسة «على المعاش» تدخلت في نقاش حاد بين كوكبة من ركاب الباص حول ما آلت إليه أمور البلاد بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) التي أطاحت بنظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك. واستطاعت بصبر وحكمة أن تحقق نوعا من التوافق بين من يرون أن الثورة لم تحقق شيئا، وآخرين يرون عكس ذلك.

وخلال عام من عمر الثورة، ومع تواصل مارثون المطالب الفئوية التي شملت كل فئات المجتمع، أصبحت المواصلات العامة إحدى نوافذ الجدل السياسي المستمر بين غالبية مرتاديها من الفقراء والبسطاء المصريين، فهم يقضون فيها وقتا طويلا من يومهم، إما للذهاب للعمل والعودة، أو لقضاء حوائجهم وشؤونهم اليومية.. طه المرسي، سائق إحدى مركبات النقل العام يرصد هذه الحالة قائلا: «الثورة غيرت حالة الصمت التي كانت تخيم على الركاب؛ ليس فقط الركاب.. ولكن نحن كذلك كسرنا حاجز الخوف ليس فقط في مجرد الحديث، ولكن في المطالبة بحقوقنا والإصرار على مطالبنا المشروعة». ويتابع المرسي: «أيام مبارك كنت تدخل الأتوبيس (لا حس ولا خبر) الناس زحمة وخلاص وكل واحد بيفكر في همه لوحده، بس بعد الثورة الكل بقى يتكلم في الانتخابات والمظاهرات بتاعت التحرير ومفيش حد بقى يتكلم لوحده».

في المشهد نفسه وبعد أن ظل أكثر من خمس ساعات عالقا في أحد القطارات بسبب إضراب الأهالي وقطعهم لشريط السكة الحديد بمحافظة المنيا (250 كلم) بسبب نقص أسطوانات الغاز، هب سيد عبد العظيم موجها حديثه إلى بعض الركاب الذين حاولوا التغلب على طول الانتظار بمزيد من الحديث السياسي: «المشكلة مش في الثورة المشكلة إن الناس دي لها مطالب والحكومة لا تستجيب لها»، ولكن الكثيرين لا يوافقون على هذا الرأي، خاصة بعض الذين يتأخرون على أشغالهم بسبب هذه الاعتصامات ويصبون جام غضبهم على الثورة، ويقول محمد السيد (65 عاما)، اعتراضا على هذا الوضع: «فين بقى شباب الثورة اللي محدش بيشوفهم إلا في التلفزيون ييجوا يحركوا القطر ويوصلونا لشغلنا؟».

ومن جهتها، ترى الدكتورة باكينام الشرقاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الرئيس السابق لمركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات، إن هذه الفترة الانتقالية أحدثت نوعا من حرية إبداء الرأي، وإنها فترة ذهبية «لتعليم وتدريب» الشعب على ثقافة الحوار وقبول الآخر.

وتعتبر الشرقاوي هذا الجدل السياسي الدائر بين المصريين جدلا صحيا، وأكبر عملية ممارسة و«تمرين» للشعب المصري على الحوار، وأضافت: «أكون في غاية السعادة عندما أرى الكل يريد أن يعرف ويستفيد ويشارك، وهو أمر لم يكن متاحا في السابق، مما يزيد من الوعي السياسي لدى المواطن ويدعم ثقافة الحوار وقبول الآخر».

ويرى أحد الناشطين السياسيين أن هذه الوسائل العامة أصبحت شاهدا حيا على تزايد فضفضة المصريين حول الشأن العام، بعد أن أصبحت إحدى أهم المحطات التي لا تتوقف فيها اهتمامات المصريين.