كسر جدار الصمت في إندونيسيا

أعمال أدبية ومساع حقوقية لتسليط الضوء على مجازر عهد سوهارتو

سوهارتو (يمين) خلف سوكارنو (يسار) في عام 1967
TT

ارتفعت عقيرة أحد المغنين بترتيل إحدى الأغاني الإندونيسية التقليدية التي يتم ترديدها في موسم الحصاد، بينما أخذ الراقصون يمثلون عملية جمع محصول الأرز، وشرع بعض المشاهدين في المشاركة في الغناء، إلى أن بدأ قرع الطبول العنيف يغطي على أصوات الغناء.

وعقب ذلك، اقتحمت مجموعة من النساء، اللاتي يرتدين الزى العسكري، خشبة المسرح، حيث أخذت أولئك «المجندات» في «الاعتداء» على «المزارعين»، بينما استمر رجل يرتدى ملابس شبيهة بملابس النساء في قرع الطبل، وفي نهاية المطاف، تناثرت جثث الضحايا في جميع أنحاء خشبة المسرح، وتبعها تصفيق حاد من الجمهور الرصين.

وقد واكب هذا الأداء المسرحي صدور كتاب «كسر الصمت»، الذي يعد نوعا من المذكرات الجماعية لـ 15 رجلا وامرأة من الذين مروا بتجربة عمليات التطهير ضد الشيوعيين والتي حدثت في الفترة من 1965 إلى 1966، وهى العمليات التي أسفرت عن مقتل 500 ألف شخص، وكانت إيذانا ببدء حكم سوهارتو و«نظامه الجديد»، والذي امتد لـ32 عاما.

ورغم أن فترة حكم سوهارتو كانت واحدة من أحلك الفترات، التي نادرا ما يتم طرحها للنقاش، في التاريخ الإندونيسي الحديث، فإن الكتاب الجديد ليس سوى جزء من الدراسة الناشئة لهذا الموضوع الذي تم قمع محاولات دراسته لفترة طويلة، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عرض الفيلم الروائي الطويل «الراقصة»، الذي تدور أحداثة حول قصة حب تجري وقائعها على خلفية أحداث تلك الفترة المضطربة، كما نشرت مجلة «تيمبو» الأسبوعية مؤخرا تقريرا خاصا عن أحد قادة الجيش الذي قاد جهودا للقضاء على الحزب الشيوعي الإندونيسي.

وقد اجتمع أعضاء اللجنة الإندونيسية لحقوق الإنسان (كومناس هام)، الأسبوع الحالي، بالعشرات من ضحايا الانتهاكات التي وقعت في الفترة من 1965 إلى 1966، لمناقشتهم عن حالات القتل الجماعي، في إطار التحقيق الذي يجرى حول هذا الموضوع، والذي لا يزال مستمرا حتى الآن. وقال نائب رئيس اللجنة، نور خوليوس، إن «كومناس هام» قد جمعت شهادات من 350 ضحية، لكنها ما زالت تناضل من أجل العثور على أدلة أقوى، في شكل وثائق وصور فوتوغرافية، وذلك قبل رفع تقريرها إلى النائب العام.

وقد ظلت الأحداث التي وقعت خلال الفترة من 1965 إلى 1966 يكتنفها نوع من «الصمت القسري»، كما يصفه جيفري روبنسون، وهو مؤرخ في جامعة كاليفورنيا، بمدينة لوس أنجليس.

وقد بدأت هذه الأحداث بمحاولة انقلاب ضد الرئيس سوكارنو في 30 سبتمبر (أيلول) 1965، والتي قام من خلالها أعضاء في جماعة تطلق على نفسها اسم حركة 30 سبتمبر، أو «جي 30 إس»، بقتل ستة من كبار الجنرالات، حيث ألقى الجنرال سوهارتو، الذي ساعد في إخماد الفتنة وسيطر على الجيش، باللائمة على الحزب الشيوعي الإندونيسي، وقاد حملة لتطهير البلاد من أعضاء الحزب وغيرهم من اليساريين، حيث قامت قوات الأمن والميليشيات المحلية واللجان الشعبية، في الأشهر التالية، بمطاردة وقتل الآلاف من الأشخاص المشتبه في كونهم شيوعيين.

وقال روبنسون، الذي ركز كتابه «الجانب المظلم من الجنة» على المجازر التي ارتكبت في جزيرة بالي في أعقاب الانقلاب، إن أجهزة الرقابة الحكومية كانت تقوم، بعد تولي سوهارتو الرئاسة في عام 1967، بفحص روتيني للكتب والأفلام، وغيرها من وسائل الإعلام لإخفاء أي إشارة لعمليات القتل التي وقعت. وقد تم تجنب الإشارة إلى هذا الموضوع خلال فترة السنوات الـ 13 التي أعقبت الانتفاضة الشعبية التي ساعدت في الإطاحة بسوهارتو من الحكم في عام 1998، سواء في المدارس أو في المحافل العامة.

ويصف التاريخ الرسمي في الكتب الحكومية المدرسية الانقلاب الذي وقع، بأنه كان بقيادة «حركة 30 سبتمبر-الحزب الشيوعي الإندونيسي»، رابطا بين الاثنين، كما تم تخفيض حجم عمليات القتل الجماعي وجعلها جزءا من حملة وطنية. وبالإضافة إلى ذلك لا يزال الحظر المفروض على المنظمات الشيوعية منذ عام 1966 ساري المفعول.

ولكن الحلقات الدراسية الأكاديمية والمذكرات الشخصية وغيرها من المحافل، قد ركزت، في الآونة الأخيرة، على عمليات التطهير. وقد ألغت المحكمة الدستورية في عام 2010 أحد القوانين التي كانت مستخدمة في فرض حظر على العديد من الكتب التي تدور موضوعاتها حول الانقلاب، على أساس أنها «يمكن أن تخل بالنظام العام». ورغم أن المدعي العام لا يزال بإمكانه فرض حظر على بعض الأعمال لكونها استفزازية أو مضللة – حيث ما زال يتوجب على كتب التاريخ المدرسية الربط بين حركة 30 سبتمبر والحزب الشيوعي - فإن المدافعين الحقوقيين والأكاديميين يقولون إن الإلغاء قد وسع من مساحة الحوار العام. وقد أصدرت دار نشر «ألتيموس» منذ عام 2009، وهي دار نشر يقع مقرها في مقاطعة جاوا الوسطى، أكثر من عشرة كتب تحكي عن التجارب الشخصية للناجين.

ويقول باسكايا واردايا، المؤسس المشارك لمركز التاريخ والأخلاق السياسية في جامعة سانتا ذارما، الذي يقيم ندوات وورش عمل لكتابة التاريخ ومناقشات لكتب تعرض لانتهاكات حقوق الإنسان السابقة «هذه الكتب تحوي شيئا مختلفا». وأشار إلى أن مطبوعات مثل «كسر الصمت» تلبي الطلب المتزايد من قبل الإندونيسيين التواقين للاطلاع على ماضيهم. بيد أن روبنسون أكد على أن عقود الاضطهاد التي تعرض لها كل من كان ينتمي إلى الحزب الشيوعي الإندونيسي ثبطت الكثير من الناجين الإندونيسيين عن الحديث.

ويؤكد عثمان حميد، مستشار المركز الدولي للعدالة الانتقالية، وهي عبارة عن منظمة قانونية تجمع شهادات من الناجين، أن العديد من كبار ضباط الجيش وأعضاء سابقين في الجماعات الإسلامية شاركوا في عمليات القتل رفضوا إخراج هذا الجزء من التاريخ الإندونيسي إلى دائرة الضوء. وأضاف عثمان أن الأمر ذاته ينطبق على بعض الأحزاب السياسية التي تهيمن على البرلمان، لتعكس النفوذ الذي لا يزال يمارسه «غولكار»، الحزب الذي أسسه سوهارتو، والذي يشارك في حكومة التحالف منذ إقصائه عن السلطة. لكن عثمان أكد أن الكشف عن الحقيقة كان ضروريا لتقديم القادة السياسيين الذين كانوا متعاونين مع سوهارتو للمحاسبة. ويقول بوتو أوكا سوكانتا، محرر «كسر الصمت» إن تبادل الروايات عن العنف منح الضحايا الفرصة لرواية ما مروا به وأعطى الشباب الإندونيسيين الفرصة للوصول إلى تاريخ لم يتعلموه في المدارس.

ويقول بوتو، 72 عاما، والذي اعتقل عام 1966 لمدة 10 سنوات دون محاكمة لانتمائه إلى معهد الثقافة الشعبية، حركة اجتماعية وأدبية ترتبط بالحزب الشيوعي الإندونيسي: «إنه تعبير عن النضال كي تصبح إنسانا من جديد».

وكان دجوكو سري مويلجونو، من بين مئات الآلاف من الفنانين والأكاديميين وأعضاء النقابات المهنية الذين تعرضوا للسجن في تلك الفترة بوصفهم يساريين. وفي أعقاب القبض عليه عام 1965 كونه عضوا بإحدى النقابات المهنية وخريج برنامج لصناعة التعدين يدعمه سوكارنو في الاتحاد السوفياتي، قضى ست سنوات في معسكرات العمل القسري ثم تعرض للنفي في جزيرة نائية حتى عام 1978. والآن يأتي دجوكو بين الناجين الذين يشركون الشباب الإندونيسي مع ذكرياتهم في مجموعات مناقشة تنظمها الجامعات والمؤسسات غير الحكومية. وقد أصدرت مفوضية ضحايا ومفقودي العنف، أو «كونتراس» مؤخرا رسما بيانيا يفصل ما يقرب من 20 حالة لا تزال تحول دون حصول السجناء السياسيين السابقين على العمل في مجالات مثل مجالات التعليم والجيش.

ولدفع عملية التطهير إلى الثقافة الشعبية، قدمت الفرق الراقصة ومسارح العرائس عروضا. وقدم مخرج الفيلم الوثائقي «40 عاما من الصمت: مأساة إندونيسية»، المخرج روبرت ليملسون فيلمه عام 2009 يتناول فيه تأثير عمليات القتل على أربع عائلات من جاوا الوسطى وبالي.

وفي عام 2006 رعت المفوضية الوطنية بشأن العنف ضد النساء فيلما وثائقيا أجرت فيه طالبات في المدرسة الثانوية مقابلات ولقاءات مع ناجين. وتقود رانتا هابساري، المدرسة بالمدرسة الثانوية، ورئيس اتحاد مدرسي التاريخ، جهود مراجعة المناهج الدراسية الإندونيسية، لكن العملية لم تمض بسلاسة.

وفي عام 2004، ألغت وزارة التربية والتعليم صفحات تربط الحزب الشيوعي الباكستاني بحركة 30 سبتمبر (أيلول) من الكتب المدرسية. لكن في عام 2007 وإثر ضغوط من الجيش وبعض قادة الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية في البرلمان، أمر المدعي العام بسحب الكتب الجديدة قبل توزيعها في المدارس وتم حرقها علنا في بعض الأماكن.

وتقول رانتا إنها تستخدم نصوصا بديلة في فصولها وتشجع على التعليم خارج نطاق الكتب المدرسية عبر المصادر الأخرى بما في ذلك الإنترنت.

ويرى الكثير من الإندونيسيين من كبار السن، أن اهتمامات الشباب بعملية التطهير مؤشر إيجابي لجهود تصحيح تاريخ بلادهم. وتقول ليلي كابي، 30 عاما، المسؤولة الثقافية في مركز غوته، المركز الثقافي الألماني، الذي استضاف الحدث التي دشن إطلاق «كسر الصمت»: «تعلمنا أن الحزب الشيوعي الإندونيسي كان شيئا شريرا. الآن يتساءل الشباب، لماذا؟». وترى تاريس زكريا علام، ابنة أخت الرسام إيتجي ترمذي، الذي اتهم بمناصرة الشيوعية وقضى شطرا كبيرا من حياته في السجن، ضرورة مناقشة عمليات التطهير وأن نعتذر للضحايا. وتضيف: «علينا كجيل شاب أن نناضل من أجل ذلك».

* خدمة «نيويورك تايمز»