تونس إزاء تحقيق التوازن بين الديمقراطية والدين

إعلامي تونسي: بعض الفصائل الإسلامية تريد اتخاذ قضية الهوية «حصان طروادة» لتقويض أركان المجتمع المدني

TT

تعددت الإهانات الغاضبة من المحتجين المتدينين؛ ومن بينها صيحات تتهم بـ«الكفر» رجلين أتيا إلى قاعة المحكمة لدعم مدير في التلفزيون يحاكم بتهمة التجديف، وأعقب ذلك لكمات ثم نطح بالرأس.. وحين انتهت المشاجرة بعد دقائق، في تونس، التي يتطلع إليها العالم العربي باعتبارها نموذجا للثورة، حيث حدث المشهد الحاسم، رأى البعض أنها توضح الصراع على الهوية والروح.

وقال حمادي رديسي، أحد الرجلين السالف ذكرهما، الذي لا يزال رأسه مغطى بالضمادة جراء العراك: «إننا نتخلى عن حقنا في التفكير والتعبير بشكل مختلف».

والتحديات التي تواجهها الثورة التونسية، التي أتمت عامها الأول، هائلة؛ ومنها إصلاح اقتصاد متداعٍ، وصياغة دستور جديد، والتعافي من عقود من الاستبداد قيدت الحياة المدنية. وخلال الأشهر الأولى للحكومة الائتلافية التي يرأسها حزب النهضة، الذي يعد من أكثر الحركات الإسلامية مرونة، طفت أكثر الصراعات العاطفية على السطح، وهو الصراع على الهوية العربية الإسلامية لمجتمع كرس قادته الاستبداديون هويته العلمانية المحضة.

أجبرت الثورات الشعبية التي اندلعت في أنحاء الشرق الأوسط منذ عام، دولا مثل تونس، التي تخلصت من ربقة الاستبداد وتحتفي بوحدة متخيلة، على مواجهة تعقيداتها. أدى ما حدث من ثورات إلى إجراء انتخابات في مصر وتونس، وكذلك بروز النفوذ الإسلامي في المغرب وليبيا وربما سوريا. لقد منحت الثورات الحركات الإسلامية المتنافسة الفرصة لاستعراض نفوذها ووجودها على الساحة المحلية والعالمية. على الجانب الآخر، أثار ذلك المخاوف، حيث يشعر مواطنو العاصمة تونس، التي تطل على البحر والتي تفتخر بتنوعها الثقافي، بالقلق مما ستأتي به ثورتهم.

وحذرت صحيفة معارضة من إعلان الإسلاميين المتشددين إمارتهم في بعض المدن النائية. وهزت الاحتجاجات أرجاء إحدى جامعات تونس على خلفية رفضها أن تؤدي الطالبات المنتقبات الاختبارات. كذلك حضر رديسي في 23 يناير (كانون الثاني) الماضي جلسة محاكمة مدير بالتلفزيون يواجه حكما بخمس سنوات، بسبب إذاعة فيلم الرسوم المتحركة الفرنسي «برسبوليس»، وهو يحتوي على مشاهد قصيرة اعتبرها كثيرون تجديفا. وتم تأجيل القضية مرة أخرى، لكن هذه المرة حتى أبريل (نيسان) المقبل. لكن ما ترمز إليه وكونها سابقة من نوعها - وما تتضمنه من معان - دفع البعض إلى تنظيم مظاهرات يوم السبت جذبت الآلاف من العاصمة تونس، وتعد هي الأكبر منذ أشهر.. وكتب على إحدى اللافتات: «كونوا جبهة مشتركة ضد التعصب».

ما يميز تونس ومصر قدر الحرية الذي حصلتا عليه خلال العام الماضي، لكن ربما تتجهان نحو التحفظ، حيث تمثل الأحزاب الإسلامية رغبات وتوجهات الشعب الذي طالما كان متمسكا بالتقاليد. ويأمل البعض هنا أن يثمر التنافس في النهاية عن توازن بين الالتزام بالدين وحرية التعبير؛ وهي قضية ليست جديدة في الغرب وكذلك في الدول الإسلامية. ويشعر البعض الآخر بالقلق من أن تؤدي السجالات حول الحجاب، وحمامات الشمس على الشواطئ، والأعراق، في وسائل الإعلام إلى حدوث حالة من الاستقطاب في المجتمع وتوريط أنظمة ناشئة في جدالات يبدو أنهم يفضلون تجنبها.

وقال سعيد فرجاني، أحد أعضاء المكتب السياسي لحزب النهضة، الذي يشكو من أن حزبه عالق بين توجهين متطرفين؛ أحدهما التوجه العلماني، والآخر التوجه الديني المتزمت: «إنهم لا يسمحون لنا بالتركيز على القضايا الحقيقية». ويتفق الجميع تقريبا على أن عرض الفيلم الفرنسي في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على محطة «نسمة» يعد عملا استفزازيا نوعا ما. وقال عبد الحليم المسعودي، الصحافي في «نسمة»، إنه يرى أن الفيلم، الذي يتناول طفولة فتاة خلال الثورة الإيرانية، ذريعة لإثارة الجدل.

وأذهل ذلك المشهد (الخلافي في الفيلم محل الحديث) الكثيرين في تونس، سواء كانوا ملتزمين دينيا أم لا. بعد ذلك بأسبوع هاجمت مجموعة من السلفيين منزل نبيل القروي، مدير المحطة، وسرعان ما تم اتهامه بازدراء الأديان وعرض مادة يمكن أن «تضر بالأمن العام أو الأخلاق الحميدة». كان من المقرر إجراء المحاكمة، التي وصفتها «هيومان رايتس ووتش» بـ«التحول المزعج بالنسبة إلى ديمقراطية تونس الناشئة»، في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لكنها تأجلت إلى شهر يناير الماضي.

في 23 يناير الماضي تجمعت الحشود خارج المحكمة بطول شارع مليء بالأشجار في مدينة تونس القديمة التي تعرف بالقصبة. واشتعل الغضب.. وفي مشهد نشر على موقع «يوتيوب»، حاول رديسي وزيد كريشان، رئيس تحرير صحيفة «المغرب»، المغادرة.

وقال كريشان، البالغ من العمر 54 عاما: «كل ما كنت أفكر فيه هو عدم نظري للخلف، بل السير قدما وعدم فتح فمي». وأسرع رجل نحوه وضربه من الخلف، وعندما التفت رديسي للدفاع عن رفيقه، تم نطحه في رأسه. في البداية، لم تفعل قوات الشرطة أي شيء، ثم اصطحبت الرجلين إلى قسم شرطة في نهاية الشارع. وتعرض المسعودي، الذي كان يجلس في مقهى على الجانب المقابل من الشارع، للهجوم هو الآخر.

بعد يومين، كرر سمير ديلو، المتحدث باسم الحكومة وأحد أعضاء حزب النهضة، في بيان رآه كثير من الشخصيات العلمانية خجولا ومتخاذلا، وجهة نظر الحزب التي تقول إنه «انتهاك للمقدسات»، لكنه أدان في الوقت ذاته أعمال العنف، وتعهد باتخاذ موقف إزاء ما حدث. وفي ما بعد تم إلقاء القبض على بعض الذين شاركوا في تلك الأعمال، حيث تم التعرف عليهم في المقطع المصور.

تؤكد هذه الحادثة، لأشخاص مثل المسعودي، بلطجة السلفيين التي تعود إلى شهور مضت، حيث شاركوا في الهجوم على دار سينما تعرض فيلما اعتبروه تعديا على سيطرتهم خلال الشهر الماضي على مدينة سانجان التي تقع شمال تونس. وأكدت بعض الشخصيات العلمانية البارزة أن هذه الأحداث سببت إحراجا لحزب النهضة، حيث يمكن حسابه على الحركة السلفية. ويرى آخرون ما حدث جزءا من المنظور الإسلامي الذي يحتفي بالهوية الإسلامية لتونس للترويج للنهج المحافظ على المجتمع.

ويقول المسعودي: «تريد بعض الفصائل الإسلامية جعل قضية الهوية حصان طروادة. إنهم يستخدمونها ذريعة لحماية هويتهم وتدمير كل ما حققه المجتمع التونسي. إنهم يريدون تقويض أركان المجتمع المدني». كثيرا ما تحيلنا السجالات التي تشهدها تونس إلى مواجهات في تركيا، التي لها تاريخ طويل من الحكم العلماني السلطوي والتي يحكمها حاليا حزب ذو مرجعية إسلامية، حيث استمرت النخبة العلمانية في كلتا الدولتين لفترة طويلة في النظر لنفسها على أنها أغلبية؛ وتعاملت الدولة معها في هذا الإطار. وترى تلك النخب نفسها حاليا أقلية، وكثيرا ما تتحرك بدافع شعورها بالتهديد لا بدافع عدائها للدين. ويتوقع رديسي، الأستاذ وكاتب أحد الأعمدة، انسحاب العلمانيين التونسيين إلى جحورهم قريبا.

* خدمة «نيويورك تايمز»