مصر في ثوب الحداد.. تبكي أنس: يا عزيز عيني

أصغر ضحايا مجزرة بورسعيد «يبتسم» في جنازته

متظاهرون بميدان التحرير أمس يحملون صورة طفلين من بين ضحايا مجزرة استاد بورسعيد (أ.ب)
TT

«أجمل أطفال العالم لم يولد بعد».. صرخة احتجاج ضد الظلم والاستبداد أطلقها الشاعر التركي ناظم حكمت في واحدة من أروع قصائده، ممنيا حبيبته بغدٍ جديد سوف يشرق من دم وأشلاء الضحايا.. لكن المصريين تجاوزوا بالأمس هذه الصرخة الشهيرة، وتحولت عيونهم إلى شلال جارف من الحزن والدموع، بكوا بحرقة وغضب وهم يودعون أجمل أطفالهم الشهيد أنس محيي الدين، ابن الرابعة عشر عاما الذي ولد وترعرع في أحضان مصر واغتالته يد الغدر في مجزرة الألتراس باستاد بورسعيد، مساء الأربعاء الماضي.. رافعين صورته البريئة، في مسيرات احتجاج لا تزال مشتعلة في القاهرة وأغلب المحافظات، وهم يرددون في هتاف جماعي «يا عزيز عيني.. الدم مش مية والكلمة مش دية».

رافق هذا الهتاف شارات السواد التي عمت الشوارع والميادين وشاشات التلفاز والمركبات العامة والخاصة والنوادي والمقاهي والمحلات وشرفات البيوت، واكتست بها ملابس المذيعين والمذيعات وقطاع كبير من المصريين.

حالة حزن استثنائية، لم تشهدها البلاد، رغم سقوط المئات من الضحايا منذ اندلاع ثورة 25 يناير.. ربما يفسر ذلك خسة المذبحة التي بدت كفخ ومصيدة، حصدت شباكها 74 قتيلا ومئات المصابين في فضاء استاد بورسعيد، ومشاهد التنكيل بجثث الضحايا، والتي وصلت إلى حد تجريدهم من ملابسهم، وسرقة أموالهم وساعاتهم وهواتفهم الجوالة.

بعين الطفل يستشف أنس بشاعة هذا المشهد، فقبل شهر من وفاته كتب عبر صفحته بموقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» قائلا: «أتمنى أن أسمع خبر وفاتي وأنا حي، كي أرى العيون التي ستبكي علي»، وفي ساحة مسجد مصطفى محمود بمنطقة المهندسين بالجيزة، وبعد صلاة الجنازة على جثمانه الطاهر أطل أنس من برواز صورته وابتسم وهم يتأمل دموع آلاف الأمهات والشباب والفتيات والأطفال، وكأنه يقول لهم: «شكرا أضأتم جسدي وأشعلتم طعم الوطن في روحي».

كلمات أنس التي نعى بها أحد رفاقه في ألتراس الأهلي، والذي سقط في أحداث مجلس الوزراء التي اندلعت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، كانت بمثابة مرثية لنفسه. فهو الطفل الجميل المشاكس، الذي تعود أن يراوغ من محبة والديه وخوفهما عليه، ويجمع بعض القروش القليلة، يشتري بها شطائر الخبز والحلوى، ويذهب ضمن الألتراس لتشجيع فريقه الأهلي، سعيدا بأنه يقضي يوما جميلا وسط كتلة نوعية من الشباب الواعي، ليس فقط بحب ناديه المفضل، وإنما بحب البشر. لقد أحب أنس الجلوس مع الألتراس، وتعلم كيف يكتسب الخبرة والمعرفة من حواراتهم ومناقشاتهم الشفافة، وقبل كل شيء تعلم كيف يحلم بالحرية، وكيف لا تنفصل عن معنى الخبز والحب والعدل والوطن.

تتسع دائرة الحزن وتفيض الدموع بغزارة حين ينشر نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، صورا من رسائل «أنس»، أجمل شهداء مصر.. وقال أصدقاؤه إنه أرسل لهم قبل وفاته بأيام على الهاتف الجوال، رسالة نصية تحمل وصيته في حال استشهاده، بأن تخرج جنازته من ميدان التحرير، أيقونة الثورة بقلب العاصمة القاهرة، وأن يصلى عليه في الميدان، كما أوصى بتكفينه بعلم مصر، وأعلن رغبته في التبرع بقرنيتي عينيه لمصابي الثورة الذين فقدوا أبصارهم؛ «على أن يكون لكل مصاب قرنية»، كما أوصى أنس أهله بأن يتبرعوا بباقي أجزاء جسده التي لم تتأذى بأي ضرر لأي مصاب من مصابي الثورة، قد يحتاج لها.

وصية أنس المكلومة - وحسبما يقول أحد شهود المذبحة - لم تعد تنتظر شاهدا على رصيف الثورة، فالدم يتدفق في الشوارع وفي البيوت، ولم يزل ساخنا على أرض استاد بورسعيد.