في مطعم صغير في أثينا يقدم الأطباق اليونانية، وعلى مائدة الغداء المكونة من سلطة الكريتان، ومحشي ورق العنب، وقف صحافي يوناني يدعى آريس هادجيجورجيو يتحدث إلى حشد كبير من الناس في يوم ما أواخر شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بشأن الوضع الحالي المزري الذي تعيشه مدينته وبلاده، كما يستطيع أن يفعل مراسل صحافي مخضرم. شرح الطرق الخبيثة التي امتزجت بها وسائل الإعلام الرئيسية بالنظام السياسي، والتي حالت دون الإبلاغ عن سوء الإدارة المالية أو العثور على أمل لحل الأزمة. وأشار إلى أن بعض الأشياء مثل المنشورات التي توضع على زجاج السيارات التي تعلن عن الشركات التي تعد نفسها للرحيل عن اليونان، كانت إشارة ضمنية إلى الكارثة الاقتصادية التي أصابت أثينا، حيث يبحث الناس عن مسارات للهروب، سواء إلى الخارج أو إلى الريف. وكيف كان مكتب عمدة المدينة في ذلك الوقت يفكر في طريقة غريبة ومنحرفة لخطة إضاءة موسم الكريسماس ومد الأنوار حول مئات من واجهات المتاجر المغلقة في المدينة.
في مرحلة ما من النقاش، سئل هادجيجورجيو عن تأثير الأزمة عليه هو شخصيا، فاعترف بأن الحياة تزداد صعوبة بالنسبة له، وأنه لم يتلق لا هو ولا أي من أقرانه في الصحيفة، اليومية ذات التوجهات اليسارية، راتبا منذ أربعة أشهر. لكنه رغم غياب الرواتب فإن عددا قليلا لا يذكر ترك الصحيفة (التي تقدمت بطلب لإشهار إفلاسها)، والسبب في ذلك أنه لا يوجد مكان آخر يمكنهم الذهاب إليه. ما يواجهه هادجيجورجيو يلخص إلى حد بعيد ما تعانيه اليونان، فالجميع يتحدث بلا انقطاع عن الاقتصاد، وعن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والاتحاد الأوروبي وبشأن النخبة المحدودة التي تدير اليونان منذ زمن بعيد والمشكلات التي يعاني منها جيرانهم ومشاكلهم هم، لكن الحياة اليومية لا تزال مستمرة بشكل ما، في نشوة جماعية، تتخللها روح الدعابة الحزينة.
إلا أن الكثير من المؤشرات تشير إلى أن اليونان تتطور إلى شيء غير مسبوق في التجربة الغربية الحديثة. فربع الشركات الغربية العاملة في اليونان تركت أعمالها منذ عام 2009، ونصف الشركات الصغيرة في البلاد قالت إنها غير قادرة على تسديد رواتب موظفيها. فيما ارتفع معدل الانتحار في اليونان بنسبة 40 في المائة في النصف الأول من عام 2011. ومع انتشار اقتصاد المقايضة، حيث يحاول اليونانيون التعامل مع نظام مالي محطم، حيث يعاني ما يقرب من نصف السكان تحت سن الخامسة والعشرين من البطالة. وفي سبتمبر (أيلول) الماضي رعى المنظمون الحكوميون ندوة حول الهجرة إلى أستراليا، التي جذبت العام الماضي 42 شخصا، والتي حضرها أكثر من 12.000 شخص. ويقول مصرفيون يونانيون إن الأفراد سحبوا ثلث أموالهم من حساباتهم، وإن الكثيرين، فيما يبدو، يحتفظون بمدخراتهم تحت أسرّتهم أو يدفنونها في باحاتهم الخلفية. وقال أحد المصرفيين إن جزءا من عملهم اليوم هو إقناع الأفراد بالاحتفاظ بأموالهم في المصارف، فمن يثق في المصارف اليونانية؟
على مدى شهور، كانت اليونان تقف على حافة أزمة اقتصادية تهدد دعائم أوروبا، وتهدد بوقوع موجات جديدة من الاضطراب الاقتصادي إلى أميركا. خطة التقشف الجديدة تهدف إلى إرضاء مقرضي اليونان والسماح بدفعات جديدة من المساعدات المالية - والحؤول دون انكماش اقتصادي عالمي - ولكنها مع ذلك ستجعل من حياة اليونانيين العاديين أكثر صعوبة، وستخفض الخطة الحد الأدنى للأجور بنسبة تزيد على 20 في المائة، وتسريح الآلاف من العمال، وخفض بعض معاشات التقاعد، وربما ضمان استمرار تشكيل الإضرابات والمظاهرات التي باتت سمة من سمات المشهد اليوناني.
بيد أن الإقامة في اليونان تقدم صورة معقدة لما يدور، فهناك غضب قائم وتقشف وسحابة قاتمة من الكآبة، إذ بات من المألوف أن ترى أشخاصا حسني المظهر يفتشون في صناديق القمامة بحثا عن طعام. وقد صدر كتاب جديد حول كيف نجت البلاد من الاحتلال النازي (عنوانه «وصفات المجاعة»)، وتحول إلى انطلاقة مدهشة، لكن هناك أيضا قصص نجاح تنتشر في وجه الاضطراب، والأكثر إثارة للدهشة، أن هناك شعورا سائدا بالارتياح إزاء الأزمة التي يواجها اليونانيون كما لو أن حلما غريبا طويلا قد انتهى أخيرا.
كان الانطباع الأول عن بيتروس فافياديس أنه رجل متشائم، يتميز فافياديس بجسم ضخم وخدود مترهلة ويجلس رابضا إلى جانب حاجز المدفأة في غرفة المعيشة. ويقول سكان من مدينته الواقعة في شمال اليونان (غيانتسا)، إن ارتفاع أسعار التدفئة أجبر السكان على الاعتماد على المدافئ، وللمرة الأولى منذ وقت بعيد نشم دخان الخشب في الهواء البارد.
قضى فافياديس، 56 عاما، أغلب حياته في أعمال الإنشاءات، وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة عمل لدى شركة تدعى «آركي - تك»، مشرفا على بناء مشروعات ضخمة غالبيتها ترعاها الحكومة مثل المدارس والمتاحف. وفي ذروة الإنشاءات، كانت الشركة تضم فريقا أساسيا مؤلفا من 50 شخصا وقامت بالتعاقد مع 900 شخص، واليوم لا يوجد في الشركة سوى موظفين فقط هما مهندسان يقومان بوضع التفاصيل النهائية على المشاريع التي تم الانتهاء منها، وقد توقفت كل الأعمال التي تقوم بها الشركة في منطقة ثيثالي، حيث يوجد مقر الشركة، وتم الاستغناء عن فافياديس في سبتمبر الماضي، قبل عامين من التقاعد. وقال فافياديس بصوت متحشرج لمدخن شره: «لا توجد بارقة أمل في المستقبل. أعتقد أن الأوضاع ستزداد سوءا».
وضعت زوجته إيكاترينا فطيرة الجبن والكرات على المائدة ثم جلست على كرسي، كانت الغرفة ذات حوائط مزدانة بلون الخوخ والأرضيات قد غطت بالسيراميك الأبيض، وكان على أحد الجدران أيقونات دينية. وتقول إيكاترينا مذكرة زوجها: «هناك عائلات أسوأ حالا منا، هناك الكثير من العائلات التي لا يعمل فيها أي فرد». ولا تزال إيكاترينا تعمل - فهي طباخة مقصف في روضة أطفال، على الرغم من خفض راتبها من 1.730 إلى 1.260 دولارا. وعلى الرغم من انخفاض دخل الزوجين من 43.000 دولار سنويا إلى ما يقرب من النصف من ذلك، فسوف تنخفض مرة أخرى 530 شهريا ما أن تنفد إعانات البطالة التي يحصل عليها فافياديس بعد انتهاء العام.
ويقول الزوجان إنهما لا يملكان أي مدخرات لأنهما عندما اشتريا منزلهما في عام 2000 استندا إلى مدخراتهما التي جمعاها على مدى حياتهما كمقدم. وإلى جانب ولدين في أوائل العشرينات وكلاهما في المرحلة الجامعية. جلس أحد الأبناء تريانوس، الذي درس الهندسة الكهربائية وتحدث. وعندما دار الحديث حول تراجع الاحتياطات النقدية، كانت تظهر نوبات مفاجئة من المرح بين الحين والآخر المرتبطة بنوع من التوتر والكوميديا السوداء. وفي النهاية شرح تريانوس أن أخت والده توفيت قبل بضع سنوات وتركت مدخراتها لابني أخيها، تريانوس وأخيه. ويقول بيتروس فافياديس، ضاحكا: «الآن يمكن لأطفالنا أن يتطلعوا لنا من أجل التغيير». ورد عليه ابنه بضحكة خفيفة «إذا ساءت الأمور فسوف نعهد إليكم بذلك».
وتسببت تدابير التقشف التي فرضتها الحكومة اليونانية، خلال محاولتها لإرضاء المصرفيين والحكومات الأجنبية، في بعض المصاعب بالنسبة للأفراد العاديين (ولتوفير النفقات يقوم سكان غيانتسا بقيادة السيارات عبر الحدود إلى بلغاريا من أجل كل شيء بدءا من زيارات طبيب الأسنان وحتى الغاز). ولكن عند لقاء معه تم قبل أشهر من اتفاق فبراير (شباط) بشأن التقشف، قال فافياديس: «ما زلت أعتقد أن هذا هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة. يجب أن تفرض الحكومة خفضا في الرواتب والمعاشات».
وأشارت أنستازيا تسانغارلي، وهي صديقة للعائلة وأبدت رغبة في المشاركة في النقاش، إلى أنها توافق على ضرورة خفض الرواتب والمعاشات. وتضيف: «الأسلوب اليوناني في الحياة هو الإنفاق ثم البذخ». تعيش أنستازيا مع زوجها في غيانتسا، لكنها عاشت لفترة طويلة في جيرسي بالولايات المتحدة حيث عملت في مصنع لصنع معاطف الفراء الصناعي، وعندما أغلق المصنع عادت إلى اليونان مرة أخرى لتجد الحياة أكثر صعوبة في اليونان عما اعتادت عليه. فزوجها الذي يعمل كهربائيا، عاطل الآن عن العمل، وهي تعمل كجليسة أطفال لبعض الوقت. وتقول: «نحن خائفون من المستقبل، لذا لا يمكننا أن ننفق أي شيء دون أن يكون لسبب وجيه». لكن الزوجين يملكان خطة للهرب من هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة. فقد حصلا على الجنسية الأميركية خلال إقامتهما في الولايات المتحدة. ويبلغ زوجها من العمر 60 عاما، وعندما يبلغ من العمر 62 عاما يمكنهما العودة حتى يتمكن من الحصول على معاش الضمان الاجتماعي.
وفي الوقت الذي بدأ الاقتصاد فيه بالانهيار، بدأ الشباب في الرحيل عن غيانتسا. ويقول ترايانوس فافياديس، 24 عاما، إنه هو الوحيد الذي يعمل ضمن ستة من أصدقائه منذ الطفولة، مضيفا أن الآخرين هاجروا بحثا عن عمل في الخارج. وهنا يمكن سماع الكثير والكثير من الشباب اليونانيين بأنهم مدركون تماما بتكرار الدورة التي حدثت من قبل في الأربعينات، والتي شهدت هجرة كبيرة للشباب اليوناني من البلاد بحثا عن عمل. لكن الاختلاف الجوهري هذه المرة هو أن الشباب الذي يغادر اليوم نال حظا وافرا من التعليم العالي - أطباء المستقبل، ومعلمون، ومهندسون. ويشير ترايانوس إلى أن ما يجري اضمحلال ليس في المجتمع فحسب وإنما في النظام الاجتماعي ككل.
فاقمت خسارة الشباب من مشكلة أخرى تواجه هذه الدول، تتمثل في دخولها ضمن أقل دول العالم انخفاضا في عدد المواليد - وحتى قبل أن تكشف الأزمة عن نفسها - ما يجعلها غير قادرة على الحفاظ على مستوياتها السكانية. وهذه الحقيقة تشغل أذهان الكثير من اليونانيين العاديين. ويقول بيتروس فافياديس: «الآن زاد الأمر سوءا. الأزواج الشباب لا يرغبون في الإنجاب بسبب الأزمة». ثم توقف لبرهة وأضاف مازحا: «سوف أتزوج بامرأة ثانية للمساهمة في حل هذه المشكلة الديموغرافية». وردت زوجته التي أطلقت ضحكة عالية: «إذا كان جادا، ينبغي أن ينقذ شخص ما نساء اليونان». ومع خفوت الضحكات طرح السؤال على بيتروس حول خطته، وما سيعمله في ظل هذه الحالة السيئة التي تشهدها البلاد.
هدأت الأمور، وقام الرجل ذو اللحية بهز كتفيه بلا مبالاة، وكان من المؤلم مشاهدة هذا المشهد. وفي السابق عند حديث منفرد مع ابنه، لخص موقف والده بقوله، إنه رجل في أواخر الخمسينات لا يتحدث سوى اللغة اليونانية ويعلم نوعية العمل الذي كان يقوم به، وهو العمل الذي لا يتوقع أن يعود في القريب العاجل. كان هز الكتفين هو الإجابة الوحيدة الممكنة.
* خدمة «نيويورك تايمز»