إيطاليا قد تضطر لإلغاء فكرة «وظيفة مدى الحياة»

حكومة مونتي تفكر تحت ضغط الأزمة في التخلي عن مبادئ راسخة منذ الحرب العالمية

ماريو مونتي
TT

كانت ملاحظة عرضية أثناء مقابلة تلفزيونية هذا الشهر، لكن عندما أشار رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي إلى أن تولي عمل على مدى الحياة، في اقتصاد اليوم، لم يعد أمرا ممكنا بالنسبة للشباب، الذي هو «رتيب» بالفعل - أدى ذلك إلى انطلاق وابل من المظاهرات، ليكشف عن أحد أهم المعتقدات لدى المجتمع الإيطالي التي وضعتها أزمة منطقة اليورو موضع الخطر.

كانت ردود الفعل غاضبة وسريعة، ومتعصبة بين مختلف الأجيال. ويقول كلاوديو فوري، (31 عاما)، أحد سكان روما الذي تنقل بين 18 وظيفة منذ تخرجه في المدرسة الثانوية عام 1999، عن تعبير «الرتابة» الذي استخدمه مونتي: «أعتقد أن على رئيس الوزراء أن يكون أكثر حذرا في استخدام الكلمات لأن الإيطاليين غاضبون بعض الشيء». وجاء تصاعد الغضب في وقت تقلصت فيه التوقعات بشأن الوظائف، حيث ارتفعت نسبة البطالة بين الشباب إلى 31 في المائة، أي أعلى مما كانت عليه بعشر نقاط قبل خمس سنوات.

وقد أثار مونتي الغضب عندما قوض عقيدة راسخة في غالبية دول أوروبا الغربية، مثل الموت والضرائب، حيث يصف السياسيون في الغالب النموذج الأميركي بأنه عفا عليه الزمن وقاس، في الوقت الذي يقر فيه الاقتصاديون بأن مرونة سوقه مطلوبة.

وفي إيطاليا على وجه التحديد، ساهمت كل قوة سياسية رئيسية بعد الحرب العالمية الثانية في فكرة ضمان عمل لكل عائل، بهدف الحفاظ على بنية الأسرة التقليدية، حسب ما قالت البروفسورة إليزابيتا غوالميني، التي تعد خبيرة في شؤون العمل وتُدرِّس بجامعة بولونيا. وقد كانت العقيدة الاجتماعية موضع مباركة من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي لا تزال تحظى بالكثير من النفوذ في إيطاليا.

وتقول البروفسورة غوالميني: «مشكلة هذا النظام أنه قصير النظر في سوق عالمية، لكن إيطاليا تخندقت في هذا النظام الذي تحول إلى آيديولوجية قوية ضربت بجذورها في نفوس كل الإيطاليين وبات من العسير تغييره». وتغيير هذه العادات المتأصلة والممارسات الطويلة هي ما يرغب فيه الكثير من الإيطاليين من مونتي وحكومة التكنوقراط، المتحررة من الناحية النظرية من أي مصالح سياسية ثابتة.

والحقيقة أن ما غاب في غمرة هذه النقاشات حول هذه الملاحظة العابرة عن الوظيفة المضمونة، كان الصورة الأكبر التي حاول مونتي توضيحها خلال المقابلة مع برنامج «ماتريكس» الإخباري التلفزيوني الذي يعرض في وقت متأخر من الليل. وأشار مونتي إلى أن التغيرات في قانون العمل، التي تقوم حكومته بدراستها، تهدف إلى استعادة التوازن بين الأشخاص الموجودين في سوق العمل بالفعل - الذين يحظون بحماية قوية - والأفراد الذين يناضلون لدخول السوق، وتصحيح تلك التفرقة الرهيبة بين العمال الأكبر سنا والشباب الإيطاليين الذين يعملون بعقود تقدم حقوقا محدودة وأمنا وظيفيا أقل. وقالت الحكومة إنها ترغب في التصديق على هذه المقترحات بنهاية مارس (آذار).

لكن اتحاد النقابات المهنية في إيطاليا تولى زمام المبادرة في مقاومة تغييرات قانون العمل. وكانت المناقشة قد ارتفعت حول المادة 18 من قانون العمال لعام 1970 الذي يحظر على الشركات التي تضم أكثر من 15 موظفا من فصل الأفراد دون سبب عادل. وتقول النقابات إن هذا الخط لا يمكن يتجاوزه.

وعلى الجانب الآخر، أكدت الحكومة أن القيود التي فرضتها سوق العمل المنظم بأحكام تجعل الشركات مترددة في استخدام عمال جدد لأنها لا تستطيع فصلهم ما إن يحصلوا على عقود منتظمة. وأشار مونتي إلى أن قوانين سوق العمل الإيطالية جعلت المستثمرين ينأون عن الدخول إلى السوق الإيطالية.

وكانت التغيرات السابقة في سوق العمل قد قدمت عقود توظيف وزمالة قصيرة المدى. لكن منتقدي هذه القرارات قد أفادوا أصحاب العمل على الأرجح، وهو ما يسمح لهم بتوظيف الأفراد بأسعار منخفضة دون تقديم أي فوائد.

ويبدي الكثير من الإيطاليين رغبة في قبول ظروف استغلالية. ويرى الكثير من الشباب الذي عانوا بالفعل سوق العمل غير المستقرة، أن النقاشات حول الوظيفة مدى الحياة تذهب بعيدا عن قضايا أكثر إثارة للقلق.

ويقول أنطونيو دي نابولي، (27 عاما)، المتحدث باسم مجلس الشباب، الذي يضم عددا من المنظمات غير الحزبية، والذي أكد أن جيله قبل بالفعل المرونة التي فرضتها قوانين العمل الحالية: «المشكلة حقا هي في الحصول على عمل، لا في الفصل من شركة. ما نحتاج إليه هو دعم أكبر عندما نكون بلا عمل». وأضاف: «إذا سعى الكثير من الشباب الإيطاليين إلى العمل خارج إيطاليا، فإن ذلك سيتسبب في نزيف عقول، ولذا يجب علينا أن نفسر هذا التوجه».

ويقول لوكا نيكوترا، (29 عاما)، سكرتير منظمة أغورا ديغيتالي، التي تدافع عن حرية الإنترنت، إن نوع التنقل بين الوظائف الموجودة في سوق العمل الأميركية أو البريطانية لا يوجد في إيطاليا. ويضيف: نيكوترا: «الشعور بالوظيفة الأبدية أمر أساسي بالنسبة لدولة لا تقدم أي خيارات وظيفية». وتستطيع مبادرات الأعمال أن تقدم مسارا آخر، لكن هذه الروح نادرة في إيطاليا لأنها لا تدرس خارج كليات إدارة الأعمال.

ويرى البروفسور ميشيل تيرابوستشي، أستاذ قوانين العمل في جامعة مودينا وريغيو إميليا، أن نظام التعليم الإيطالي لا يوفق بين أسلوب العرض والطلب. وقال: «نحن لا نعد الطلبة لمطالب الشركات، فالتعليم نظري إلى حد بعيد، ولا يوفر سوى مهارات حقيقية محدودة».

وقد أوضحت حكومة مونتي أن إلغاء التوظيف بين الشباب والنساء أمر جوهري بالنسبة لأجندتها، وقد اقترحت خلال الأشهر الثلاثة التي تولت خلالها عملها مبادرات كان من بينها إجراءات مبسطة لبدء الشركات بالنسبة للأفراد أقل من 35 عاما، بما في ذلك إمكانية افتتاح شركة بيورو واحد فقط. لكن دي نابولي أشار إلى أن التشريع يشكل شطرا واحدا فقط من المعادلة، وأفسح المجال لظهور انتقادات واسعة من المقرضين الوطنيين. وقال: «نحن سعداء بهذه المبادرات، لكن إذا كانت المصارف لا تمنح الشباب الاعتمادات المالية، فما الجيد إذن في افتتاح شركة بدولار واحد؟ المرونة شيء طيب لكن على المصارف أن تلبي عندما نطلب رهنا عقاريا أو اعتمادا ماليا، وإلا فإننا نخاطر بالقضاء على جيل من الشباب».

وعلى الرغم من كل النقاشات التي أثيرت حول ما يسمى الأمن المرن هنا، لا تزال النماذج القديمة تلقى استحسانا هنا. وكشفت دراسة نشرت يوم الأحد في صحيفة «كورير ديلا سيرا» اليومية التي تصدر في ميلان أن 48 في المائة من الإيطاليين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما مستعدون لقبول عمل أقل أجرا في مقابل أمن وظيفي، بينما أيد الثلث عقود عمل محمية كأحد أهم عوامل الجذب الوظيفي. ويقول ماورتسيو دي لوتشيو، (30 عاما)، وهو كاتب صحافي غير ثابت أنشأ شركة اتصالات بالكاد تغطي مصاريف إيجاره ونفقات معيشته، إنه لا يرغب في شيء أكثر من وظيفة ثابتة وكان يسعى جاهدا للحصول على وظيفة أو على الأقل ضمان الكثير من الحقوق التي أستطيع الحصول عليها من خلال عقد.

واعترف أن هناك تشاؤما واسعا بين أبناء جيله بشأن إيجاد عمل بأدنى حد من الاستقرار. لكنه وصف نفسه بأنه متفائل إلى حد ما. وقال: «الإيطاليون مبدعون. أعتقد أن هذا جزء من جيناتهم الوراثية».

* خدمة «نيويورك تايمز»