«نيويورك تايمز» ناعية صحافيها أنتوني شديد: أصر على أن يكون شاهدا على تحولات الشرق الأوسط

توفي بأزمة ربو باغتته عند الحدود السورية لدى مغادرته لها برفقة مهربين

يعمل على اللابتوب فوق سطح فندق بمدينة النجف في 2003
TT

توفي أنتوني شديد، المراسل الموهوب الذي غطت مراسلاته لحساب صحف «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«بوستون غلوب» و«أسوشييتد برس» نحو عقدين من النزاع والاهتياج الذي يعم الشرق الأوسط، جراء إصابته بضيق في التنفس، يوم الخميس، أثناء مهمة لنقل الأحداث في سوريا. وحمل تايلر هيكس، مصور صحيفة «نيويورك تايمز»، جثمانه، عبر الحدود مع تركيا.

كان شديد (43 عاما)، ينقل الأحداث من داخل سوريا منذ أسبوع، حيث يقوم بجمع معلومات عن الجيش السوري الحر وغيره من عناصر المقاومة المسلحة الأخرى المعارضة لنظام بشار الأسد، الذي شاركت قواته العسكرية في قمع وحشي للمعارضة السورية في صراع مضى عليه نحو عام الآن.

ولم يتم إخطار النظام السوري، الذي يفرض سيطرة محكمة على أنشطة الصحافيين الأجانب في الدولة، بالمهمة الموكلة إليه من قبل صحيفة «نيويورك تايمز». لم يكن من الواضح على وجه التحديد ظروف وفاة شديد وموقعه داخل سوريا، عندما وقعت الجريمة.

ولكن هيكس قال إن شديد، الذي كان مصابا بضيق في التنفس وحمل علاجه معه، بدأت تظهر الأعراض عليه، أثناء استعدادهما لمغادرة سوريا يوم الخميس، وازدادت حدة الأعراض لتتحول إلى أزمة مميتة. وأجرى هيكس اتصالا هاتفيا بالمحررين في صحيفة «نيويورك تايمز»، وبعد بضع ساعات، تمكن من حمل جثمان شديد إلى تركيا.

وأخطرت جيل أبرامسون، رئيسة التحرير التنفيذية، فريق عمل الصحيفة عشية الخميس في رسالة بريد إلكتروني بالخبر.

«مات أنتوني مثلما عاش - عازما على أن يحمل شاهدا على التحول التي يجتاح أنحاء الشرق الأوسط، وعلى أن يثبت معاناة الناس الواقعين بين شقي الرحى، الممثلين في القمع من جانب الحكومة السورية من ناحية، وقوات المعارضة من ناحية أخرى»، هكذا كتبت.

كانت المهمة التي أوكلت إليه في سوريا، والتي رتب لها شديد من خلال شبكة من المهربين، محفوفة بالمخاطر، أبرزها اكتشافه من قبل السلطات المؤيدة للنظام في سوريا. وتطلبت الرحلة إلى سوريا من كل من شديد وهيكس السفر ليلا لمنطقة الحدود الجبلية في تركيا المتاخمة لمحافظة إدلب، حيث يتمثل خط الحدود في سياج من الأسلاك الشائكة. وقال هيكس إنهم عبروا من خلال الجزء السفلي من السياج بسحب الأسلاك للخارج، وقابلهم مرشدون يمتطون خيولا على الجانب الآخر. وأشار هيكس إلى أنه في تلك الليلة الأولى عانى شديد من أول نوبة من الأزمة، التي كان من الواضح أنها بدأت بحساسية من الخيول، لكنه تعافى بعد فترة راحة.

ومع ذلك، فإنه في طريقهما للخروج بعد أسبوع، عانى شديد من أزمة أكثر حدة - التي بدأت بالمثل باقتراب خيول المرشدين، بحسب هيكس، بينما كانوا يسيرون باتجاه الحدود. وبسبب إصابته بضيق في التنفس، استند شديد إلى صخرة بكلتا يديه.

«وقفت بجواره وسألته عما إذا كان على ما يرام، بعدها، انهار»، هكذا قال هيكس. واستكمل قائلا: «لم يكن واعيا وكانت أنفاسه واهنة جدا». وبعد بضع دقائق، على حد قوله: «أمكنني أن أتبين أنه لم يعد يتنفس». قال هيكس إنه أجرى تنفسا صناعيا قلبيا رئويا لشديد لمدة 30 دقيقة، لكنه عجز عن إنعاشه.

لقد وضعت وفاة شديد الأميركي ذي الأصل اللبناني، الذي له زوجة وطفلان، نهاية مفاجئة لواحدة من أكثر المسيرات المهنية شهرة في تاريخ الصحافة الأميركية المعاصرة. سلط شديد، الذي يتحدث العربية بطلاقة ويتمتع بموهبة تكفل له جمع التفاصيل والكتابة بشكل يتوافق مع السياق، الضوء على الأبعاد المختلفة للحياة في الشرق الأوسط، التي عجز كثيرون عن إدراكها. ومكنته تلك المواهب من الفوز بجائزة «بوليتزر» للتغطيات الدولية في عام 2004 عن تغطيته لأحداث الغزو الأميركي للعراق والاحتلال الذي أعقبه، كما نال جائزة «بوليتزر» ثانية في عام 2010، أيضا عن تغطيته الأحداث في العراق، وكانت كلتا التغطيتين لصحيفة «واشنطن بوست».

وكان أيضا في التصفيات النهائية في عام 2007 عن تغطيته للأحداث في لبنان، كما تم ترشيحه من قبل صحيفة «نيويورك تايمز» لتغطيته أحداث انتفاضات الربيع العربي التي اجتاحت الشرق الأوسط العام الماضي.

وبدأ شديد عمله بتغطية أحداث الشرق الأوسط كمراسل لوكالة «أسوشييتد برس» الكائنة في القاهرة، متنقلا بمختلف أنحاء المنطقة في الفترة من 1995 إلى 1999. وعمل لاحقا بصحيفة «بوسطن غلوب» قبل انتقاله إلى صحيفة «واشنطن بوست»، حيث كان مراسل الشؤون الإسلامية ورئيس مكتب بغداد. وانضم للعمل بصحيفة «نيويورك تايمز» نهاية عام 2009. ولم يكن حديث العهد بالإصابات والمضايقات والاعتقال. ففي عام 2002، خلال عمله لحساب صحيفة «بوسطن غلوب»، أصيب بطلق ناري في كتفه، أثناء سيره في شارع في رام الله، الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل. وأثناء المظاهرات العارمة التي اجتاحت القاهرة العام الماضي، والتي أدت لسقوط الرئيس السابق حسني مبارك، تمت مطاردة شديد من قبل رجال الشرطة التابعين لمبارك، وأثناء هجمة للشرطة، توجب عليه إخفاء أجهزة الكومبيوتر التي يستخدمها مراسلو «نيويورك تايمز». وتم اعتقال كل من شديد وهيكس وصحافيين اثنين آخرين بصحيفة «نيويورك تايمز»، هما ستيفن فاريل ولينسي أداريو، من قبل الميليشيات المؤيدة للنظام أثناء النزاع في ليبيا العام الماضي، وظلوا محتجزين لفترة تزيد على أسبوع، تعرضوا خلالها جميعا لانتهاكات جسدية. وتوفي سائقهم، محمد شغلوف.

وفي تنويه عام 2004، أثنى مجلس إدارة جائزة «بوليتزر» على «قدرته الاستثنائية على التقاط الصور، على نحو يهدد حياته الشخصية، ونقل آراء ومشاعر العراقيين تجاه غزو بلدهم والإطاحة بقائدهم وانقلاب حياتهم رأسا على عقب».

وفي تنويه عام 2010، أثنى مجلس إدارة الجائزة على «سلسلة كتاباته الرائعة الثرية عن العراق، مع رحيل القوات الأميركية وكفاح شعب العراق وقادتها من أجل التعامل مع موروث الحرب وتشكيل مستقبل الأمة». وتحدث عن المخاطر التي تحملها أثناء تغطية الأحداث هناك في حديث أدلى به في ديسمبر (كانون الأول) لتيري غروس ببرنامج يذاع على الراديو الوطني العام، وهو برنامج «في الهواء الطلق»: «أشعر بالفعل بأن سوريا كانت تشكل أهمية كبيرة، وبأن ذلك الخبر لم يكن لينقل إلا بهذه الطريقة، ومن ثم يستحق تحمل المخاطر لأجله»، هكذا تحدث عن رحلة سابقة إلى سوريا، دخل فيها إلى الدولة من لبنان على دراجة نارية عبر أراض وعرة.

لم يكن شديد يتورع عن الدخول في خلاف مع المحررين دفاعا عن عبارة أو مشهد أو اقتباس يعتبره مهما لنقل رأيه. وكان آخر مقال كتبه لصحيفة «نيويورك تايمز»، الذي نشر يوم 9 فبراير، بمثابة نظرة وراء الكواليس للموقف المضطرب في ليبيا، حيث حلت الميليشيات المتناحرة محل نظام العقيد معمر القذافي. وكان المقال طويلا، حيث زاد عدد كلماته على 1600 كلمة، وهو متوسط عدد الكلمات المعتاد في مقالات شديد. وقد تصدر أولى صفحات الصحيفة والصفحة الرئيسية للموقع الإلكتروني nytimes.com، وهو الأمر الذي كان معتادا أيضا.

وكان لدى شديد ميل للكتابة النثرية الرثائية. ومع الاستعداد لصدور كتاب جديد، هو «منزل من الأحجار» (House of Stone)، المنتظر نشره الشهر المقبل، وصف ما قد شاهده في لبنان بعد الهجمات الجوية الإسرائيلية في صيف 2006:

«بعض جوانب المعاناة لا يمكن تغطيتها بالكلمات»، هكذا كتب. وأضاف: «لقد أصبح هذا قدري اليومي كمراسل في منطقة الشرق الأوسط لتوثيق أحداث الحرب والإشارة إلى الناجين منها وضحاياها والكثيرين ممن قد تجرعوا ويلاتها. وفي مدينة قانا اللبنانية، حيث أسقطت التفجيرات الإسرائيلية ضحايا في وسط عمل صباحي، شاهدنا الموتى يقفون ويجلسون وينظرون من حولهم. لقد طمست معالم القرية وأصواتها وقصصها والأطباق والأواني والخطابات والكلمات وتاريخ القرية خلال بضع دقائق ممتدة قطعت هدوء الصباح».

* خدمة: «نيويورك تايمز»