«الرجل الواقف على يمين ماو تسي تونغ».. في مركز التاريخ

مترجم زعماء الصين عاش طفولته في أميركا ومهاراته اللغوية مكنته من الإسهام في المفاوضات

جي شاوزو
TT

في مثل هذا الشهر، قبل أربعين سنة، ذات صباح بارد غائم، وصل الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى بكين في زيارة تاريخية بهدف تحسين العلاقات مع الصين، بعد عقود من العداء، ونزل من على متن الطائرة الرئاسية، وصافح رئيس الوزراء الصيني، زاو إينلاي. وفي الصورة التي تسجل تلك اللحظة يظهر أيضا مترجم صيني طويل القامة يرتدي نظارة ويقف على الممر الإسفلتي وراء زاو مباشرة. هذا الرجل هو جي شاوزو.

وقال جي، الذي يبلغ الآن الثانية والثمانين من العمر، في مسكنه في جزيرة هاينان الجنوبية: «أذكر جيدا ذلك اليوم، فقد طلب مني رئيس الوزراء أن أقف وراءه مباشرة وأن أنصت باهتمام». وقد كان جي بجانب زاو أيضا في جنيف سنة 1954، عندما وقعت الحادثة الشهيرة الخاصة برفض وزير الخارجية الأميركي، جون فوستر دالاس، مصافحة نظيره الصيني، مما زاد من حدة التوتر في أعقاب الحرب الكورية.

كانت حياة جي أشبه بالرواية، فعمله مترجما فوريا للغة الإنجليزية لأكثر من 20 سنة مع زعماء الصين، جعله قاسما مشتركا في كثير من الصور التاريخية، مثل تلك الصورة التي التقطت على منصة ميدان تيانانمين سنة 1971 مع الرئيس ماو تسي تونغ والصحافي الأميركي إدجر سنو (في إشارة ضمنية إلى أن الصين تسعى إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة)، وأخرى مع ماو تسي تونغ وآخر المسؤولين الذين استقبلهم، وهو رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو سنة 1976، كما ساعد دنغ زياو بينغ في ارتداء قبعة رعاة بقر بيضاء خلال جولة خاطفة في الولايات المتحدة سنة 1979 تضمنت زيارة إلى تكساس.

ويقول المؤرخون إن جي لم يتدخل في صنع السياسات، لكن مهاراته اللغوية أسهمت في تحديد شكل المفاوضات، أثناء واحدة من أهم البعثات الدبلوماسية في نصف القرن الأخير، حيث ذكرت وثائق كشف عنها البيت الأبيض أنه شارك في معظم الاجتماعات المهمة التي عقدها نيكسون وهنري كيسنجر مع الزعماء الصينيين في بداية السبعينات من القرن العشرين، ومن بينها الاجتماعات التي عقدت أثناء زيارة كيسنجر السرية إلى الصين في يوليو (تموز) 1971.

وتعتبر قصة جي لافتة للنظر نتيجة لروابط طفولته في الولايات المتحدة، حيث نشأ في مدينة نيويورك ودرس في جامعة هارفارد، ثم قطع دراسته وعاد إلى الصين سنة 1950 بعد فترة وجيزة من انتصار قوات ماو تسي تونغ، على أمل المساعدة في بناء جنة شيوعية. وقد حضر المحادثات التي أدت إلى إنهاء الحرب الكورية، وعمل في مجمع القيادة الصينية في بكين، وأصبح شاهدا على ما دار بداخله من مؤامرات وصراعات على السلطة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين.

واليوم يقسم جي وقته بين بكين ومنزله الشتوي في هاينان، وقد أصاب الضعف ذاكرته، غير أنه ما زال يفخر بالدور الذي لعبه في العلاقات الصينية - الأميركية. ويقول: «كنت أريد أن يحل السلام بين هذين البلدين الكبيرين، فهما البلدان اللذان أنتمي إليهما».

نادرا ما يتحدث مترجمو زعماء العالم عن قصصهم، غير أن جي قام منذ أربعة سنوات (بعد مقابلة مع الملياردير الأميركي راي داليو الذي شجعه على كتابة مذكراته) بنشر كتاب «الرجل الواقف على يمين ماو تسي تونغ» الذي قص فيه قصة حياته كمترجم فوري ودبلوماسي.

القصة التي ذكرها جي كانت مثيرة للاهتمام إلى حد كبير، فقد ولد سنة 1929 لأسرة ثرية في مقاطعة شان تشي الشمالية في الصين، وفي أواخر الثلاثينات، هربت أسرته إلى الجنوب قبل الغزو الياباني ثم غادرت البلاد إلى الولايات المتحدة، بعد نصيحة من زاو إينلاي، الذي كان وقتها شابا من الثوار الشيوعيين. ثم عادت الأسرة إلى الصين بعد انتصار الشيوعيين بمساعدة أخيه الأكبر، جي شاو دينغ، الذي كان أحد الزعماء السريين للحركة الشيوعية.

ويقول: «حينما اندلعت الحرب الكورية كنت ممزقا بين حبي للبلدين، ولكنني كنت أدرك أنني صيني في الأساس».

وبعد عودته إلى الصين، التحق بجامعة تسينغ هاو، واختير وقتها ليعمل مترجما في المحادثات، التي أفضت إلى وقف إطلاق النار في الحرب الكورية، وسرعان ما التحق بعدها بوزارة الخارجية، وظل يعمل طوال الثلاثين عاما اللاحقة مترجما فوريا للزعماء الصينيين، ومن بينهم ماو تسي تونغ، الذي يقول عنه جي إنه «كان يشكو من أنني أتحدث بصوت مرتفع للغاية أثناء الترجمة»، وزاو الذي يقول عنه إنه «كان مثل والده»، وجيانغ كينغ، زوجة ماو تسي تونغ، وعضو عصابة الأربعة سيئة السمعة أثناء الثورة الثقافية (يقول جي إنها «كانت أبشع من البشاعة ذاتها»)، ودينغ (الذي يقول عنه إنه «كان قصيرا للغاية لدرجة أنني كنت أضطر لإبعاد المسافة بين ساقيّ حتى أنزل إلى مستواه أثناء الترجمة»).

وفي سنوات العزلة تلك عن الغرب، كان جي يذهب إلى العمل بالدراجة، وكان يحصل على 10 دولارات شهريا، ولم يملك سوى سترة واحدة زرقاء من النوع الذي اشتهر ماو تسي تونغ بارتدائه.

وقد كان أيضا أحد مترجمي اللغة الإنجليزية المعدودين من أهل الثقة والكفاءة في الصين، وكان معه أيضا زميلته الأصغر منه سنا، تانغ وين شينغ، أو نانسي تانغ، التي كانت المترجمة الرئيسية لماو تسي تونغ أثناء زيارات نيكسون وكيسنجر.

ويقول جي إنه زكى السيدة تانغ، التي كانت صديقة للعائلة في نيويورك، وكان والداهما قد أصدرا معا في الأربعينات جريدة ناطقة بالصينية. وحينما قام كيسنجر ونيكسون بزيارة الصين في أوائل السبعينات، كان جي وتانغ المترجمين الرئيسيين للزيارة، حيث كان وفد الولايات المتحدة يأتي عادة من دون المترجمين الخاصين به.

وفي حوار مع وينستون لورد، أحد المساعدين الذين سافروا مع كيسنجر ونيكسون إلى الصين، قال الرجل إن «نيكسون لم يكن يثق مطلقا في حفاظ وزارة الخارجية على أي سر، لذا لم نكن نصطحب معنا أي شخص من جانبنا».

ولكن بعد فترة قصيرة من تلك اللحظة التاريخية، أُقحم جي وتانغ في صراعات السلطة أيام الثورة الثقافية، التي امتدت طوال الفترة من 1966 إلى 1976، حيث بدأ ماو تسي تونغ في سنواته الأخيرة يشك في كل من حوله، بما فيهم زاو إينلاي، ويقول المؤرخون إن المستشارين المقربين من ماو تسي تونغ، ومنهم السيدة تانغ، كانت لديهم خلافات مع زاو وشركائه.

وبسبب علاقة جي بزاو، طُرد من وزارة الخارجية بعد بضعة أشهر من زيارة نيكسون، وأرسل إلى الريف لتنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة، وانتهى به المطاف إلى زراعة الأرز وحمل السماد. ويقول جي: «الثورة الثقافية كانت كارثة. كانت تلك هي أسوأ أيام جمهورية الصين الشعبية».

وقد امتنعت السيدة تانغ عن إجراء حوار معها من أجل هذه المقالة، لكنها عانت بعد رحيل ماو تسي تونغ وخروج عصابة الأربعة من السلطة سنة 1976. وتمت إعادة تأهيل جي سنة 1972 حين تساءل زاو: «أين ذهب الصغير جي؟ أنا بحاجة إليه»، وأرسل إلى الريف مجددا، ثم أعيد إلى مجمع القيادة، في جزء من صراعات السلطة الغريبة التي زعزعت أركان مجمع القيادة في عهد ماو تسي تونغ.

وبعد رحيل ماو تسي تونغ، صاحب جي دنغ زياو بينغ في رحلته إلى أميركا سنة 1979، وقابل على مدار سنوات عمله الرؤساء جيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش، وقد اختير سفيرا للصين لدى جزر فيجي ثم بريطانيا، بل وعمل وكيلا للأمين العام للأمم المتحدة. وقد كان هذا كله جزءا من رحلته الفريدة؛ أن يترعرع في الولايات المتحدة وأن يمثل الصين، وإن كان لم يشعر بالراحة أبدا في بكين.

وحتى اليوم يصر جي على أنه ليس متمكنا من اللغة الصينية وأنه بالكاد يستطيع كتابة الحروف الصينية بصورة مقبولة، وهو مع ذلك يقول إنه ليس نادما على شيء، وإنه لم يفقد أبدا إيمانه بالحزب الشيوعي. ولكن مع ضعف ذاكرته وعدم قدرته على التلفظ بوضوح، تدخلت زوجته وانغ زيانغ تونغ - وهي أيضا مترجمة فورية - لتترجم إيماءات وأفكار واحد من أكبر المترجمين قائلة: «لنقل فقط إننا نجونا. هذا هو ما يحاول أن يقوله».

* خدمة «نيويورك تايمز»