لا سبيل أمام نساء جنوب السودان للهروب من البؤس

انقلبت حياتهن رأسا على عقب مع ظهور حدود جديدة تقسم الدولة إلى جزأين

ماري نيكوة لي تعيش في الشمال(«نيويورك تايمزْ)
TT

تعطي ماري نيكوة لي موجزا سريعا عن حياتها قائلة: «اللعنة أصابت حياتي»، فقد توفي زوجها الأول بين ذراعيها إثر جرح في معركة، أما زوجها الثاني فهو يقوم بضربها، وتُوفي أحد طفليها بسبب مرض الإسهال. والآن هي واحدة من أبناء الجنوب تعيش بالشمال، غريبة سمراء، تحمل ندبا في كل مكان في وجهها، تحاول جاهدة تربية ابنيها وابنتيها. والأسوأ من ذلك أن المهارة الوحيدة التي تتمتع بها هي تحضير الخمور بالمنزل والتي تعتبر جريمة خطيرة في دولة السودان الإسلامية مما أدى إلى دخولها السجن لأكثر من 10 مرات بالإضافة إلى عشرات الجلدات، وقالت وهي تشير إلى مجموعة الندب التي تغطي كاحلها: «أنظروا إلى هذا، هذا ما فعلته الشرطة». لا شك أن السيدة لي تعاني كثيرا، لكنها ليست الوحيدة، فهناك مئات الآلاف من أبناء الجنوب الذين وجدوا أنفسهم أمام اختيار بين عالمين، فانقلبت حياتهم رأسًا على عقب مع ظهور حدود جديدة تقسم الدولة إلى جزأين، انفصل جنوب السودان عن شماله وأصبح دولة في يوليو (تموز) بعد عقود من الصراعات المسلحة واستمرت الاحتفالات في جوبا عاصمة السودان الجنوبي لأيام.

وبسبب العداء بين شمال السودان وجنوبه، استمرت المنطقتان في حشد الكتائب على الحدود تحفزًا لأي صراع ضخم من شأنه أن يؤثر على المنطقة بأكملها - لن يكون بإمكان أبناء الجنوب القاطنين بالشمال الحصول على جنسية مزدوجة، من ناحية أخرى وضع أبناء الشمال المقيمين بالجنوب غير واضح. من جانبها، أكدت الحكومة السودانية قيامها بسحب الجنسية من جميع أبناء الجنوب بداية من أبريل (نيسان) وفي حال رغبتهم في البقاء في السودان، يجب عليهم تقديم طلبات باستخراج تأشيرة، وتصريح عمل، والأوراق الخاصة بالإقامة وما شابه، وهو ما يبدو بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلا بالنسبة إلى هؤلاء المعدمين العاجزين عن القراءة والكتابة مثل السيدة لي والذين عادة لا يمتلكون أي وثائق تشير إلى تاريخ ومكان ولادتهم. وتعتقد السيدة لي أنها تبلغ الخامسة والأربعين من العمر. وحتى بالنسبة لهؤلاء الذين ولدوا بالشمال، مثل ابن السيدة لي الذي يبلغ التاسعة، تظل القوانين ثابتة، فإذا كان الشخص ينتمي إلى قبيلة من السودان - مثل النوير التي تنتمي لها السيدة لي - يعتبر الشخص من أبناء الجنوب. ونتيجة لكل ذلك نزح 350.000 من أبناء الجنوب بالحافلات أو القوارب التي وفرتها لهم حكومة جنوب السودان ومنظمة الأمم المتحدة من الشمال إلى الجنوب، بينما يظل العديد في انتظار الرحيل.

يقول بالجيدو مالونج، وهو رجل مسن من أبناء الجنوب عمل حارسا بالمستشفى الحكومي بالخرطوم عاصمة السودان: «أنا في انتظار الانتهاء من إجراءات التقاعد، وسوف أموت حيث مقدر لي أن أموت»، وقد رأت السيدة لي مؤخرا أن الكثيرين يلقون حتفهم الآن بالجنوب.

قالت السيدة لي إنه في ديسمبر (كانون الأول) تقريبًا - لأنها لا تستطيع تذكر التواريخ جيدًا - ركبت مع أطفالها حافلة في طريق عودتها إلى منزلها القديم في مكان يدعى مانكين، جنوب الحدود التي تفصل السودان. وأضافت أنها كانت متحمسة للمشاركة في الاستفتاء على استقلال الجنوب والذي أجري في يناير (كانون الثاني) من عام 2011، واستعدت تماما للعودة مع أبناء الجنوب.

وفي صباح أحد الأيام، قامت إحدى الميليشيات المارقة باقتحام مدينة مانكين، كجزء من موجة العنف الطائفي والتمرد التي اجتاحت الجنوب في الآونة الأخيرة. وهرع الجنود السودانيون الجنوبيون لمواجهة تلك الميليشيا، واحتدم القتال لمدة يومين، وعندما خرجت لي من كوخها، حسب قولها، كان يتعين عليها المرور فوق عشرات الجثث الموجودة في العشب - وكانت هذه الجثث لرجال وفتيان وفتيات. وأضافت: «كدنا أن نقتل جميعا».

وانزعجت لي بشدة بسبب عدم وجود تنمية في الجنوب - وهذا ليس معناه أنها كانت تعيش في الحداثة والتطور في أم درمان والتي لا يفصلها عن الخرطوم سوى نهر النيل. وتعيش لي في منزل مبني من الطين، وثمة صور ليسوع معلقة فوق السرير، أما مدينة مانكين فتفتقر إلى وجود طرق معبدة أو كهرباء، كما يوجد بها عدد قليل للغاية من الآبار والمدارس. وتعد جنوب السودان واحدة من أفقر البلدان في العالم، حيث يعيش 83 في المائة من السكان في أكواخ ذات أسقف من القش، كما أن فرص وفاة الفتيات اللاتي في الخامسة عشرة من عمرهن تفوق فرص نجاحهن في استكمال الدراسة.

وبعد أشهر قليلة من وصولها إلى مدينة مانكين، قررت لي وأطفالها ركوب الحافلة والعودة إلى أم درمان، لأنه لم يكن أمامهم سوى خيارين كلاهما مر، وكانت العودة إلى أم درمان هي الخيار الأقل مرارة.

ولم تحظَ لي وأطفالها بترحاب حار لدى عودتهم، حيث قالت الابنة التي تبلغ من العمر 14 عاما وتدعى نياباي إن إصبع قدميها قد سحقت تماما في السوق في أحد الأيام من قبل رجل عربي قام بدهسها عن قصد. وقالت لي إن الناس ينظرون إلى مظهرها الرث ويقولون: «لماذا لا تزالين هنا على الرغم من انفصالك عن زوجك؟». وقالت لي إنها دائما ما كانت تشعر بأنها مواطنة من الدرجة الثانية في الشمال، وبات هذا الأمر شيئا رسميا الآن.

وتناضل لي من أجل إطعام أطفالها أي شيء غير «الوالوال» وهو طبق من الذرة والماء عديم الطعم، كما أنه ليس لديها أي أقارب في مكان قريب منها بحيث تطلب منهم المساعدة. وعندما قتل زوجها الأول، وهو رجل طويل القامة ونحيل يدعى والكات، انتقلت لي للعيش مع شقيقه الذي كان دائما ما يقوم بضرب أطفالها وصفعها على وجهها. وهربت لي إلى الخرطوم منذ نحو 20 عاما، وتقوم بتخمير وبيع المشروبات الكحولية غير المشروعة منذ ذلك الحين. وقالت لي وهي تحدق بسأم في أدوات تجارتها - إبريق بلاستيكي كبير أزرق اللون ومجموعة من زجاجات الصودا البلاستيكية -: «هذا هو كل ما أستطيع القيام به».

وقد أمضت لي ستة أشهر في السجن، ولا تستطيع أن تحصي عدد المرات التي تعرضت فيها للجلد بالسياط على ظهرها من قبل الشرطة، وفقا للقانون السوداني القائم على الشريعة الإسلامية.

وتعشق لي أطفالها، وقامت بعد ظهر أحد الأيام في الآونة الأخيرة بسكب كوب من الماء على وجه جورجي، وابتسمت في وجهه وهي تميل إلى الوراء. وعندما تحدث نجلها عن مصاريف المدرسة، نظرت لي على الأرض وقالت: «سأخرج من هنا».

* خدمة «نيويورك تايمز»