رئاسة بوتين.. أكثر من مجرد منصب

الزعيم الروسي بات المتحكم الأول في «غازبروم» ووضع المقربين منه كل مفاصل القرار

بوتين
TT

يواجه المتظاهرون، الذين خرجوا إلى الشوارع بعشرات الآلاف للتعبير عن معارضتهم لحكم فلاديمير بوتين، قوة راسخة داخل دائرة المسؤولين ورجال الأعمال الذين يحققون مكاسب طائلة باستغلال الوضع الراهن. وبفضل تلك العلاقات، سيكون لشبكة من البيروقراطيين ورجال الأعمال والفاسدين نصيب كبير من انتخابات الرئاسة المقررة في الرابع من مارس (آذار) المقبل، حيث يعني فوز بوتين لهم حماية مصالحهم، إلا أن فوزه في الانتخابات ليس كافيا، إذ سيذكر فوزه بالانتخابات من الدورة الأولى المشككين بقدرته الكبيرة على الدفاع عن أعوانه الذي يعتمد عليهم.

ويعد كبار المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال في البلاد، من أنصار بوتين، والكثير منهم خدم معه في الاستخبارات الروسية، وتأتي مع فرص العمل الحكومية فرص أكبر من مجرد الحصول على الراتب. ويملك أنجح المسؤولين عقارات فاخرة ولهم استثمارات كبيرة وحسابات مصرفية متضخمة في الخارج. كما يرسل هؤلاء أبناءهم للدراسة في أعرق الجامعات بالخارج ويعيشون في منازل فخمة، رغم أن ما يتقاضونه من الرواتب ضئيل. وشيد أصدقاء بوتين قصرا له بلغت تكلفته مليار دولار، بحسب رواية ويستلبلوير التي نُشرت في صحيفة «واشنطن بوست» ونفاها المتحدث الرسمي باسم بوتين.

ويسيطر بوتين وأصدقاؤه المقربون على 15 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، بحسب ما أوضحت دراسة لصحافيين وخبراء اقتصاد روس في مجلة «نيو تايمز». وعادة ما يصف الروس بلادهم بالفساد، إلا أن أندريه إلاريونوف، المستشار الاقتصادي السابق لبوتين، يرى أن قليلين فقط يدركون حجم وعمق الفساد في البلاد.

وتمثل شركة «غازبروم» المملوكة للدولة، والتي تعد أكبر شركة غاز في العالم، نموذجا صارخا على كيفية عمل النظام في البلاد، فهي تمثل 10 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لروسيا وقدر بـ1.47 تريليون دولار في عام 2010 بحسب البنك الدولي. ولا تعد هذه الشركة موردا استثنائيا للبلاد، بل لديها أيضا عدد من المؤسسات التابعة لها مثل محطات تلفزيونية تقدم الذوق الرسمي والروايات الرسمية. وبينما شدد بوتين قبضته على روسيا بعد أن أصبح رئيسا عام 2000، كانت تلك الشركة على قائمة أولوياته، ففي عام 2001 عين أليكسي ميلر، صديقه القديم من سان بطرسبورغ رئيسا تنفيذيا لها. وفي العام التالي، عين أحد معاونيه المقربين، وهو من سان بطرسبورغ أيضا، رئيسا لمجلس إدارة الشركة. وكان ذلك هو ديمتري ميدفيديف الذي أصبح رئيسا للبلاد عام 2008 عندما تحتم على بوتين عدم الترشح لمدة أخرى فأصبح رئيسا للوزراء. في سبتمبر (أيلول) الماضي، قال ميدفيديف إنه سيتنازل عن الرئاسة لبوتين، وأثارت هذه الصفقة الاحتجاجات في ديسمبر (كانون الأول) للمطالبة بإجراء انتخابات نزيهة.

وقال إلاريونوف الذي عمل مع بوتين منذ عام 2000 إلى 2005 قبل أن ينتقد الديمقراطية المقيدة وقدم استقالته: «يتحكم بوتين في شركة (غازبروم)، إنه لا يملكها من الناحية القانونية، لكن إذا أصدر أمرا إلى ميلر، فلن يسعه سوى تنفيذه».

وتتحكم شبكة من «السيلوفيكي»، التي يطلق عليها إلارينوف اسم مؤسسة، في القوة السياسية وبنية الدولة والجزء الأكبر من الموارد الاقتصادية في روسيا خلال حكم بوتين. وتشير هذه الكلمة بالروسية إلى المسؤولين النافذين في الشرطة والجيش والاستخبارات. ويقول إلاريونوف الذي يعمل حاليا في معهد «كاتو» في واشنطن: «إنهم يتحكمون في النظام السياسي والدولة بالكامل. إنهم يسيطرون على جزء كبير من أملاك الدولة وأموال متدفقة تقدر بمليارات الدولارات».

كان الناس يخشون هؤلاء المسؤولين ويبجلونهم في الماضي باعتبارهم القائمين على القوة السوفياتية، قبل أن يخسروا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. هاجمتهم الصحافة التي كانت تحظى بحرية مؤقتة بروايات انتقادية للقبضة الحديدية لجهاز الاستخبارات الروسي. لقد شعروا بأن الدولة تخلت عنهم وأدارت لهم ظهرها. وعندما تولى بوتين السلطة، كان هؤلاء متأهبين للحصول على نصيبهم على حد قول كريل كبانوف، ضابط الاستخبارات السابق الذي يدير حاليا منظمة لمناهضة الفساد ورئيس المجلس الرئاسي للمجتمع المدني وحقوق الإنسان. وأوضح قائلا «لقد كانت طريقة التفكير هي رعاية بعضهم البعض».

وقد نشرت مجلة «نيو تايمز»، في موسكو، مؤخرا رسما يوضح مواقع وعلاقات 104 مسؤولين ورجال أعمال نافذين. وكان الذين يشغلون أهم 22 منصبا هم الأقرب لبوتين وعلى قمة هرم السلطة، فـ14 من زملائه السابقين في الاستخبارات، بينما الآخرون زملاء يحظون بثقته من مسقط رأسه سان بطرسبورغ أو من أصدقائه المقربين.

ويشغل منصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الهجرة والإعلام والنقل وهيئات الجمارك وأمين مجلس الأمن، زملاؤه السابقون في الاستخبارات، بينما يشغل آخرون مناصب رفيعة في القطاع المصرفي والمالي والغاز والنفط والسكك الحديدية والطيران والتعمير، فضلا عن قطاعات أخرى. ويستفيد البيروقراطيون بعيدا عن بوتين من النظام الذي أقامه والذي يطلق عليه قوة رأسية تمنحه القدرة على السيطرة من الأعلى إلى الأسفل. وقال أولغا كريستانوفسكيايا، عالم الاجتماع ورئيس مركز دراسات النخبة التابع للأكاديمية الروسية للعلوم الذي قضى سنوات في دراسة هيكل السلطة، إن الفساد يقوم على المسؤولين رفيعي المستوى الذين يسمحون بالصفوف الأدنى بالاحتفاظ بكل ما يستطيعون جمعه طالما تم التعامل معهم كملوك.

ومع ذلك، فإن القوانين عرفية، ويمكن أن تتغير في لحظة دون أي سابق إنذار، حيث يحقق عدد من ممثلي النيابة في كيفية الحصول على منزل كبير في الريف. وتعد المحاكم والشرطة جزءا لا يتجزأ من النظام، لذا لا يوجد هناك أي سيادة للقانون للتمييز بين الصواب والخطأ. وتساءلت أولغا: «كيف يمكنك مقاومة ذلك؟ بوضع كل الدولة وراء القضبان». ويبدو أن بوتين يشير إلى الأمر ذاته، في مقالة نشرت مؤخرا في صحيفة «كوميرسانت» ووعد فيها بها بجعل الدولة أكثر ديمقراطية. وأوضح بوتين، إحدى الشخصيات البارزة في التاريخ، أن للفساد جذورا قديمة وأشار إلى القيصر نيكولاس الأول الذي أعلن الحرب على الفساد خلال القرن التاسع عشر. وطلب رئيس الشرطة السرية: «هل تعتقدون أن هناك من تبقى منهم حولكم؟».

وقال بوتين إن المراهقين كانوا خلال فترة التسعينات يحلمون بالثراء، أما الآن فهم يتطلعون للحصول على وظيفة حكومية. وكتب: «يرى كثيرون أن الوظيفة الحكومية هي الطريق نحو الثراء السريع». وحمّل النظام الذي أقامه مسؤولية الفساد دون أن يعترف بأنه من قام ببناء هذا النظام. وكتب: «للسيطرة على الفساد المنهجي، لا نحتاج فقط إلى السلطة والموارد، بل أيضا إلى السلطة التنفيذية والنظام الذي يتولى الرقابة عليها». ويشكك قادة المعارضة في عزمه على القيام بذلك ويرون أن كلماته تأتي في إطار حملته الانتخابية.

بدأ بوتين فترته الرئاسية الأولى عام 2000، وسرعان ما بدأ يناضل من أجل التمتع بسلطة مطلقة دون رقيب، مع وعده بتحقيق الاستقرار في المقابل. لقد استخدم الهجمات الإرهابية على إحدى المدارس في بيسلان عام 2004 لتبرير تعيين المحافظين في البلاد بدلا من انتخابهم. واختار بالطبع أهل الثقة من رفاقه الضباط السابقين في الاستخبارات وزملائه في المجلس المحلي لسانت بطرسبورغ لشغل المناصب الرفيعة. وكانت النتيجة قصر اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية في البلاد على شبكة تتكون من نحو 50 أسرة تقريبا، على حد قول مارينا ليتفينوفيتش، الصحافية والمدونة.

وفي برقية صدرت عن الخارجية الأميركية في فبراير (شباط) 2010 ونشرها موقع «ويكيليكس»، ذكر السفير الأميركي لدى روسيا أن المجلس المحلي لمدينة موسكو غارق في الفساد الذي امتد إلى كافة المستويات. كذلك كان هناك حديث عن مسؤولين قيل إنهم دخلوا الكرملين بحقائب مليئة بالنقود. ولم يقدم بوتين حتى هذه اللحظة ما يرضي المتظاهرين تماما، حيث أصدر أوامر فقط بشراء كاميرات لمراقبة مراكز الاقتراع خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة ووعد بالعودة إلى انتخاب المحافظين. ويرى نيكولاي بيتروف، من معهد كارنيغي موسكو، أن دمار بوتين لن يحل على يد المتظاهرين الذين سيقررون يوما ما أنهم بحاجة إلى شخص أكثر قربا ليتولى شؤونهم. وأوضح قائلا «سيأتي التغيير على يد النخبة السياسية. إذا لم يتمكنوا من تغيير القائد، فإنه سيقود النظام بأكمله نحو الدمار وسيحل محله نظام جديد مختلف». ولم يبد على النخبة أي علامات تدل على عزمهم التخلي عن السلطة أو الامتيازات. وتساءل إلاريونوف: «هل يمكن التخلي عن كل ذلك؟ عن أعمالهم وما يملكونه من عقارات وقصور ومنازل ريفية؟ عن حساباتهم المصرفية وسيطرتهم على تدفق الأموال؟ عن السلطة والنفوذ داخل روسيا وخارجها؟ لماذا؟ لأن 100 ألف شخص احتشدوا في شوارع موسكو؟ إنهم سيستمرون في محاولة البقاء في السلطة لمدة طويلة جدا جدا، أي إلى الأبد».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»