الصحافية الفرنسية المصابة: النشطاء السوريون خاطروا بأنفسهم وفعلوا كل شيء من أجلنا

الصحافيان إديت بوفييه وويليام دانييلز يرويان تفاصيل الأيام التسعة المرعبة: القوات السورية استهدفت الصحافيين بشكل مباشر

السفير الفرنسي إيريك شوفالييه يتسلم أمس جثمان المراسل والمصور رومي أوشليك، في دمشق، من الصليب الأحمر (أ.ب)
TT

سلمت جثتا الصحافية الأميركية ماري كولفن والمصور الفرنسي ريمي أوشليك أمس إلى سفارتي فرنسا وبولندا التي تمثل المصالح الأميركية في سوريا.

ووفقا لوكالة الصحافة الفرنسية، فقد صعد السفير الفرنسي في دمشق، إريك شوفالييه، إلى سيارة الإسعاف التي كانت تنقل جثة ريمي أوشليك، فيما رافقت سيارة للسفارة البولندية سيارة الإسعاف الثانية التي كانت تنقل جثة ماري كولفن.

وتوجهت سيارتا الإسعاف إلى المستشفى الفرنسي في حي القصاع، حيث سيتم حفظ الجثمانين بانتظار ترتيب نقلهما جوا إلى باريس.

وأبدت منظمة الهلال الأحمر العربي السوري التي تسلمت الجثمانين من السلطات السورية ونقلتهما بسياراتها الجمعة، «استعدادها لنقل الجثمانين إلى المطار أو إلى أي جهة يرغب المسؤولون فيها» فور انتهاء الإجراءات اللازمة، بحسب رئيس المنظمة عبد الرحمن العطار.

وقد قتل الصحافيان في 22 فبراير (شباط) في قصف على شقة حولها الناشطون إلى مركز صحافي مرتجل في بابا عمرو، معقل التمرد في مدينة حمص الذي قصفه الجيش السوري طوال أسابيع.

في غضون ذلك قال الصحافيان إديت بوفييه وويليام دانييلز، بعد فرارهما من حي بابا عمرو في حمص المحاصرة، إن القوات السورية استهدفت الصحافيين «بشكل مباشر» في المدينة.

ونقلت صحيفة «لوفيغارو» عن الصحافيين بعد عودتهما إلى باريس الجمعة قولهما: «وقعت خمسة انفجارات متتالية على الأقل وبفاصل زمني قصير. كان لدينا بالفعل شعور بأننا مستهدفون بشكل مباشر».

وأدى القصف الذي حدث في 22 فبراير في منطقة بابا عمرو في حمص إلى مقتل مراسلة «صنداي تايمز» ماري كولفن والمصور الفرنسي ريمي أوشليك، وجرح بوفييه والمصور البريطاني بول كونروي.

وأصيبت بوفييه بعدة كسور في ساقها من قصف على مركز صحافي أعد في بابا عمرو.

وقام ناشطون بتهريب بوفييه (31 عاما) ودانييلز (34 عاما) من سوريا إلى بيروت. وقد عبر أقرباء الصحافيين والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عن شكره لهؤلاء الناشطين عند وصولهما إلى قاعدة جوية قرب باريس.

وقدم الصحافيان في حديثهما لصحيفة «لوفيغارو» التي يعملان لحسابها، عرضا لوقائع الأيام التسعة التي أمضياها في حمص بين 21 فبراير والأول من مارس (آذار).

وقالا، كما نقلت عنهما الصحيفة، إن «الناشطين السوريين معتادون على عمليات القصف وأدركوا الخطر فورا. قالوا لنا عليكم مغادرة المكان فورا».

وكانت ماري كولفن وريمي أوشليك أول الخارجين، لكن صاروخا سقط أمام مركز الصحافة.

ونقلت الصحيفة عن بوفييه ودانييلز أن «الانفجار كان رهيبا. كانت ماري كولفن وريمي أوشليك عند النقطة التي سقط فيها الصاروخ تقريبا. وقد قتلا على الفور».

وعندها باتت بوفييه عاجزة عن تحريك قدميها جراء إصابتها بالقصف. وقالت «صرخت» فقام مسلحو الجيش السوري الحر بنقل الصحافيين إلى مستشفى ميداني، ثم إلى منزل في حي بابا عمرو.

وأعقب ذلك محاولات عدة لإجلاء الصحافيين من جانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر قبل أن يحاول متمردو الجيش السوري الحر تهريب الصحافيين الغربيين.

وعلق الصحافيان الجريحان لأيام حتى بعد أن تمكن الجيش السوري الحر من نقل الصحافي البريطاني كونروي وزميله الإسباني خافيير إسبينوزا إلى خارج البلاد وإدخالهما إلى لبنان.

وقالت بوفييه «لم نعرف أي شيء.. هل كان الطريق مغلقا؟ هل كانت القوات السورية مقبلة؟ كنت أريد الهرب فعلا قبل أن أتذكر في كل مرة أنني لا أستطيع التحرك». ولم يكشف الصحافيان عن الطريق الذي سلكاه بعد ذلك، لكنهما قالا إنهما كانا بحماية سكان في المنطقة «على الرغم من المخاطر».

وتحدى منقذو الصحافيين أيضا المطر والثلوج في الطرق الجبلية الوعرة واستبدلوا الآليات عدة مرات. وقالت بوفييه: «لقد عرضوا أنفسهم للخطر فعلا وفعلوا كل شيء من أجلنا».

وقد وصلا إلى لبنان، الخميس على ما يبدو، يوم سقوط حي بابا عمرو بأيدي الجيش السوري، وأعيدا إلى فرنسا في اليوم التالي، بينما تعرف سفيرا فرنسا وبولندا على جثتي أوشليك وكولفن.

وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أعلن الجمعة أن فرنسا ستغلق سفارتها في دمشق؛ تعبيرا عن تنديدها بـ«فضيحة» قمع الحركة الاحتجاجية، داعيا إلى محاسبة السلطات السورية أمام محاكم دولية.

وأشاد ساركوزي بدانييلز لبقائه مع بوفييه في بابا عمرو.

ومن جهته أشاد دانييلز عند وصوله إلى باريس بأهل حمص، وقال إن «بابا عمرو دعمنا وعاملنا كملوك. كنا في أحد المنازل الأكثر حماية. هؤلاء الناس أبطال ويتم قتلهم». وأضاف أن «الذين أنقذوا حياتنا ماتوا بالتأكيد مع أنني لا أعرف بدقة.. كان كابوسا استمر تسعة أيام».

ونقلت بوفييه بعد ذلك بسيارة إسعاف وبمواكبة من الشرطة إلى المستشفى العسكري.

وقبل وصول الصحافيين إلى فرنسا أعلنت النيابة العامة في باريس أن القضاء الفرنسي فتح تحقيقا الجمعة لكشف ملابسات مقتل المصور الصحافي الفرنسي ريمي أوشليك، ومحاولة قتل الصحافية الفرنسية إديت بوفييه.

وأضاف المصدر نفسه أن من الأهداف الأولى للتحقيق الأولي جمع المعلومات التي تتيح رسميا التعرف على جثمان أوشليك تمهيدا لنقله إلى فرنسا. وكانت إديت بوفييه وويليام دانييلز هما آخر صحافيين خرجا من حي بابا عمرو سالمين بعد تسعة أيام، ووصلا إلى فرنسا يوم الجمعة بعد رحلة عصيبة وخطيرة. وجد المراسلان الصحافيان في سوريا مجموعة من مراسلي الحروب في تلك المدينة المحاصرة. وكانت مراسلة صحيفة «صنداي تايمز»، ماري كولفن، التي كانت تضع رقعة سوداء على إحدى عينيها، بعد أن أصيبت خلال عملها كمراسلة في سريلانكا، هي أول من يصل إلى الخطوط الأمامية وآخر من يبتعد عنها في أغلب الأحيان. وقررت ماري عدم مغادرة حمص على الرغم من الأخبار التي كانت تشير إلى اقتحام القوات الموالية للنظام المدينة. وكان يصاحبها بول كونروي، المصور الفوتوغرافي، وكذلك خافيير إسبينوزا، مراسل صحيفة «إل موندو» الإسبانية اليومية، الذي ظل يعمل في المناطق الساخنة في أفريقيا والشرق الأوسط لعشر سنوات. وعندما بدأ القصف المدفعي شعروا بأنهم أصيبوا إصابة مباشرة، على حد قول ويليام وإديت. وأدرك النشطاء السوريون الخطر على الفور، فأخبروهم بضرورة مغادرتهم المكان الذي يوجدون فيه. وكانت ماري كولفن وريمي أوشليك أول من يهرع إلى الشارع الضيق، في الوقت الذي سقطت فيه قذيفة أمام المبنى الصغير الذي كانوا به، لذا كانت ماري وأوشليك أكثر من تأثر بهذا الانفجار الهائل فقضيا على الفور. وأدركت إديت وسط الركام والحطام الناجم عن الانفجار عدم قدرتها على تحريك ساقها، بينما تمكن ويليام من حملها إلى ركن بعيد وراء الثلاجة قبل أن يختبئوا في الحمام إلى أن هدأت آثار الانفجار في الخارج. وساعدهم ناشط شاب بإحضار سيارة من الجيش السوري الحر نقلتهم إلى مستشفى ميداني صغير في إحدى الشقق التي كانت تستقبل يوميا، ضمن من تستقبل من الجرحى، ضحايا مدنيين من رجال ونساء وأطفال أصيبوا جراء القصف المدفعي المتكرر.

وقالت إديت بحسب صحيفة «إل موندو»: «لقد اكتشفوا وجود كسر في عظام الفخذ وأخبروني بضرورة مغادرة المكان فورا، وفي تلك اللحظة بدأت رحلة الهروب الكبير».

ومكث الصحافيون الأربعة في منزل آمن في حي بابا عمرو بجوار المستشفى، وكانت المباني المحيطة به في مناطق محمية نسبيا من القصف المستمر. وفي الوقت الذي تحرر فيه كل من إسبينوزا ودانييلز، كان كونروي مصابا، لكن هذا لم يعوقه عن السير، بينما كانت إصابة إديت هي الأكثر خطورة، حتى إن الأطباء لم يحبذوا نقلها خشية إصابتها بجلطة في ساقها. في الوقت ذاته كانت هناك خطورة في نقلها إلى وسط المدينة، حيث يعني ذلك موتها المحقق، فالحي محاصر والشوارع مقطوعة والقناصة والدبابات في كل مكان. وكانت نقطة الاتصال الوحيدة عبارة عن منطقة طولها 3 كم كانت تمثل خط الإمداد الباقي، الذي كان الصحافيون قد دخلوا منه إلى الحي بالأساس. وكان الأمل هو نقلها عن طريق الصليب الأحمر الدولي إلى دمشق. ولم يكن متاحا للصحافيين الاتصال بالعالم الخارجي إلا على فترات متقطعة بين الحين والآخر من خلال برنامج «سكايب»، وهذا لم يكن كافيا لإنجاز أي شيء. وكانت نيران القناصة لا تتوقف إلا خلال فترات راحتهم وكان السكان يمكثون في منازلهم إلى أن تأتي ساعات الليل ليتمكنوا من الخروج إلى الشوارع. وتروي إديت، بحسب ما ذكرت صحيفة «إل موندو»، كيف كانوا يقولون عند القصف إن بشار يلقي عليهم التحية.

وكانت المرة الأولى التي تمكن فيها إسبينوزا وويليام من مشاهدة جثة ماري وأوشليك عندما هدأت النيران فجأة. وتلقى الثوار السوريون التعازي في وفاة كل من ماري وأوشليك، وساعدوا في دفن الجثتين. وعاد الصحافيون إلى ملجئهم، ليجدوا عددا من سيارات الإسعاف التابعة للهلال الأحمر السوري في الشارع، لكن لم يكن هناك أي أحد من الصليب الأحمر الدولي. وقال الطبيب السوري إنه لم يأت من أجلهم، بل من أجل السوريين المصابين، لكنه عرض توصيلهم بممثل الصليب الأحمر الذي يبعد مقره 500 متر عن المكان الموجودين فيه. وأخبرهم بإمكانية نقلهم عبر سيارة الإسعاف التابعة للهلال الأحمر، لكنه أكد ضرورة توضيحهم سبب وجودهم في حمص للسلطات حتى يستطيعوا الوصول إلى المستشفى في حمص.

في هذه الأثناء، تمكن ويليام من الاتصال من خلال جهاز الراديو في سيارة الإسعاف برئيسة الصليب الأحمر في سوريا، وسألها عن سبب عدم مجيء الصليب الأحمر الدولي إليهم، وأخبرتهم بأنها تتفاوض مع السلطات وتأمل الحصول على إذن بالذهاب إليهم ونقلهم.

على الجانب الآخر كانت تصرفات الهلال الأحمر السوري تثير الريبة في نفوس الصحافيين.

وأرخى الليل ستاره على الحي ولم يأت الصليب الأحمر الدولي، وغادرت سيارات الإسعاف التابعة للهلال الأحمر السوري، وفي تلك الليلة كان القصف بجوار المبنى الذي كانوا يقيمون فيه، وسألتهم السفارة الفرنسية، حسبما جاء في صحيفة «إل موندو»، عن سبب عدم ركوبهم في سيارة الإسعاف، وأخبروهم بأن سيارات الإسعاف ستعود إلى الحي في اليوم التالي. وعلى الرغم من خوف المراسلين من الاعتقال على أيدي السلطات السورية في دمشق، فإنهم قرروا الذهاب في سيارة الإسعاف عندما تأتي. واستعدوا لذلك بإتلاف صفحات دفاترهم وبطاقات الذاكرة في الهواتف الجوالة المسجلة عليها أرقام الهواتف، خشية أن يساء استغلالها أو تتم مساومتهم عليها. وأكد الصحافيون عدم منع الجيش السوري الحر سيارات الإسعاف من التجول بحرية، وكذلك قبولهم أي عرض بوقف إطلاق النار، حتى وإن لم يكونوا مصدر إطلاق النار في المدينة على أي حال. وكان المقطع المصور هو الشيء الوحيد الذي تردد الصحافيون في القيام به، على حد قول إديت، لكنهم كانوا يخشون أن يدعي النظام احتجازهم رهائن ويشوه سمعتهم بزعم أنهم إرهابيون. ولم تعد سيارات الإسعاف، وزاد التوتر في الحي مساء يوم الأحد، حيث وصلت الفرقة الرابعة مدرعات التي يتولى قيادتها ماهر الأسد. وعمل السوريون على إخلاء الحي من كل الجرحى، وطلب الصحافيون أن يكونوا ضمن هؤلاء، وحرصوا على اغتنام هذه الفرصة الأخيرة، فحُمل كل من ويليام وإديت على النقالة، وتم تضميد جراحهم. وتم نقل المصابين في سيارة إلى مدخل النفق.

وكانت عملية نقل إديت هي الأصعب، لذا كانت آخر من تمر عبر النفق، الذي كان يمتلئ عن آخره بالجرحى والهاربين الذين كانوا يتقدمون ببطء وسط انهيار أجزاء من النفق. وكان كل من بول كونروي وخافيير إسبينوزا في المقدمة، بينما كان يتناوب أربعة متطوعين على حمل النقالة التي تحمل إديت كل 30 مترا. وعندما اقتربوا من نهاية النفق، ساد الذعر بسبب انهيار المخرج بفعل القصف المدفعي من الجيش السوري. وكان من حسن حظ بول أنه وصل قبل حدوث هذا، ووجد إسبينوزا نفسه وحيدا وسط مجموعة صغيرة. وعلق كل من إديت وويليام تحت الأرض وسط فوضى عارمة وظلام دامس ودخان، لكن لم يفقدا الأمل في الهروب.

حاول ويليام جذب النقالة، لكنه أدرك عدم قدرته على ذلك وحده، ناهيك عن ضيق الفتحة التي لا تسمح له بحمل النقالة على ظهره والخروج بها من النفق. وفجأة سمعا محرك دراجة بخارية كانت هي طوق النجاة بالنسبة إليهما. ونقلت أكثر من دراجة بخارية الجرحى العالقين داخل النفق بعد جهد جهيد. وفي أثناء هذه المحاولات أصيبت إديت بجرح في رأسها. ذهل بعض النشطاء السوريين عند خروج إديت من بين التراب ووجهها مخضب بالدماء، بينما تطلب منهم سيجارة قبل أن يحملها أحد السوريين على ظهره ويضعها داخل السيارة.

عندما نقلت إلى المستشفى ذهل الأطباء لدى رؤيتها، حيث سألوها عن سبب وجودها هنا، مؤكدين أن هذه هي أيامها الأخيرة على الأرض، كما جاء في صحيفة «إل موندو». ورأى الأطباء ضرورة إجراء عملية جراحية لها، وعندما أفاقت في الصباح أخبرها الثوار السوريون بأن فرصتها الوحيدة في النجاة هي الذهاب إلى حمص عبر طريق سري، ورأت إديت ضرورة ذلك من الناحية النفسية والبدنية. وكانت تلك العملية محفوفة بالمخاطر، حيث تعين عليهم في البداية الهروب من حصار الجيش السوري لحمص، ثم عبور عدد من الجسور وحقول ألغام على طول الحدود مع لبنان.

كيف يتأتى لهم ذلك وقد علم النظام السوري بوجودهم، فضلا عن صعوبة اجتياز نقاط التفتيش، حيث باتت وجوههم معروفة للجميع لإذاعتها على شاشات التلفزيون ولا يمكن لهم تغطيتها. كذلك أثار خبر وصول بول كونروي إلى لبنان قلق السوريين من احتمال تعرضهم لعملية مطاردة واسعة النطاق. ووجدت إديت وويليام الترحاب في منازل سوريين رفضوا الكشف عن أسمائهم. وكانوا في ذلك الوقت على بعد بضعة أميال من الحدود اللبنانية. وأشاد الصحافيان بمساعدة السوريين لهما على الهروب من سوريا والوصول إلى الحدود اللبنانية مساء الخميس عبر الممرات الجبلية. وكان أول أمر قامت به إديت لدى وصولها، بحسب ما جاء في صحيفة «إل موندو»، هو طمأنة والديها بأنها في أمان دون أن تخبرهما أين كانت.