كردستان تتألق.. وعوائد النفط مشكلتها الدائمة مع بغداد

الإقليم ينتهج سياسات جذابة للاستثمار وعائداته نمت 100 مرة منذ الغزو الأميركي

كردستان تزدهر أكثر من غيرها من مناطق العراق بفضل الأمن وسياسات جذابة للاستثمار
TT

عندما تحط بالمطار الجديد البراق في عاصمة هذا الإقليم المزدهر، تطالعك الصورة التي أملت الولايات المتحدة قبل عشر سنوات مضت في أن يصبح عليها العراق بأكمله. تظهر الروافع عبر المشهد الأفقي لسطوح العمارات الشاهقة البراقة وفنادق الخمس نجوم التي تعطي إحساسا بالفخامة المميزة لدبي. وتحقق المتاجر ذات الأضواء المبهرة الموجودة بالمراكز التجارية الحديثة رواجا. وتضم الطرق السريعة الحديثة العريضة جسورا للمشاة، بعضها مزود بمصاعد.

هذه هي كردستان العراق، المنطقة التي كانت تتمتع بحكم ذاتي نسبي حتى تحت حكم صدام حسين، لكنها شهدت تحولا بأشكال ملحوظة منذ وقوع الغزو الأميركي في عام 2003. وبينما لا تزال باقي أجزاء العراق مثقلا بآثار الجروح والإصابات التي خلفتها النزاعات إبان الغزو الأميركي، تبقى منطقة كردستان بمعزل، بعد أن أصبح ماضيها الذي ميزه الانقسام والفقر المدقع ذكرى قديمة.

غير أنه لا يمكن تقديم كردستان كمثال لقصة نجاح إلا بتقديم توضيحات. فقد جاء الأمن على حساب سمات القمع لدولة بوليسية. أمسك حزبان سياسيان حاكمان بتلابيب السلطة من خلال شبكة حماية ضخمة لم تمنح المعارضة سوى متنفس محدود. وربما يكون الأمر الأكثر ترويعا هو أن العلاقة المتأزمة مع بغداد منذ وقت طويل قد ازدادت تأزما منذ أن غادر آخر الضباط الأميركيين البلاد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، مما ألقى بظلاله على قدرتها على مواصلة العمل من أجل تحقيق مطامحها.

وقال فؤاد حسين، رئيس ديوان رئيس إقليم كردستان، مسعود بارزاني، في لقاء أجري معه في مكتبه بأربيل: «إذا لم يكن بوسع الجزء الآخر من العراق الارتقاء بنفسه، ستصبح لديك فجوة، وستؤدي تلك الفجوة إلى نزاع».

في عهد صدام حسين، امتلك إقليم كردستان احتياطي نفط ضخما، لكن لم تكن هناك أي رحلات تجارية إلى المنطقة. وتشير المباني ذات اللون الرمادي الكئيب إلى حقبة عتيقة. كانت الطرق بدائية، والسياسات الكردية كانت تشوبها حالة من عدم الثقة والضغائن المتأصلة. لكن في يومنا هذا، أسهمت السياسات الأمنية ومعها تدابير جذابة للاستثمار، وإغراء من احتياطي الطاقة غير المستكشف، في جذب مزيد من شركات النفط، بينها أكبر شركات النفط في العالم «إكسون موبيل»، التي وقعت اتفاقا تاريخيا العام الماضي مع مسؤولين أكراد. وفي الوقت نفسه، اتسعت الفجوات الاجتماعية والثقافية والسياسية بين إقليم كردستان وبقية أجزاء العراق في السنوات الأخيرة، مع استمرار المنطقة الشمالية، التي كانت بمعزل بدرجة كبيرة عن حالة التمرد ولم يكن بها أي وجود عسكري أميركي أثناء الحرب، في الازدهار، فيما لا يزال العنف يحدق ببقية أجزاء البلاد.

وقال دينيس ناتالي، وهو أستاذ في «جامعة الدفاع الوطني» الأميركية، وأجرى دراسات على الأكراد على مدار عقود: «لدى منطقة كردستان، فيما يتعلق بالتنمية والنمو الاقتصادي، الإمكانات التي تكفل لها أن تصبح على الصورة التي قد تمنتها الولايات المتحدة للدولة بأكملها».

ينظم مطار أربيل الجديد، الذي تم الانتهاء من إنشائه في عام 2010، رحلات مباشرة إلى فيينا ودبي وإسطنبول والقاهرة، فضلا عن أنه يشهد توسعات مستمرة. وبإمكان معظم الأجانب دخول كردستان من دون تأشيرة أو ربما يحصلون على تأشيرة بالمطار، على عكس بغداد، التي تتبع نظام تأشيرات مزعجا وباهظ التكلفة طالما عكر صفو المستثمرين الأجانب المحتملين.

وتأتي انتعاشة البناء في كل ركن من أركان أربيل، متناقضة بشكل حاد مع مدينة الموصل المدمرة، التي تبعد عنها بمسافة 50 ميلا شرقا، حيث تقبع أجزاء كبيرة من المدينة وسط الأنقاض نتيجة لسنوات من التفجيرات من قبل تنظيم القاعدة في العراق. ولدخول كردستان من أجزاء العراق الخاضعة لسيطرة بغداد، يجب أن يتقدم العراقيون بطلبات للحصول على تصريح خاص من السلطات الكردية واجتياز مجموعة من نقاط التفتيش الخاضعة لحراسة الضباط الأكراد.

تروج كردستان الآن لنفسها باعتبارها «العراق الآخر»، من خلال عوائد نمت لتصل إلى أكثر من 10 مليارات دولار هذا العام، معظمها من الصادرات النفطية والاستثمار التركي، بعد أن كان حجمها 100 مليون دولار فقط في عام 2003. وتتمحور معاركها مع بقية أجزاء البلاد حول كيفية توزيع الثروة النفطية وما إذا كان يجب أن يسمح للأكراد بتضمين مناطق جديدة ضخمة في المنطقة بشكل رسمي.

وقد أشعل الشقاق المتنامي جذوة الأمل في تكوين دولة، وهو الأمل الذي حدا بالأكراد منذ فترة طويلة. وقال زينار بختيار، 21 عاما، وهو بائع في متجر للعطور بأحد المراكز التجارية الفخمة في السليمانية، ثانية أكبر مدن كردستان، إنه يحلم باليوم الذي لن يحمل فيه جواز سفر عراقيا. وقال في ظهيرة أحد الأيام القريبة: «بعد خمس سنوات من الآن، سيصبح للأكراد دولتهم المستقلة». ويعرف نفسه على أنه عراقي فقط عندما يسافر للخارج ويتعين عليه إبراز جواز سفره. ويضيف: «إنني كردي».

للوهلة الأولى، ربما يبدو احتمال قيام دولة كردية مستقلة منطقيا، ما لم يكن حتميا. لكن ما زالت المنطقتان مرتبطتين بشكل جوهري ببعضهما بصورتين أساسيتين: يحصل إقليم كردستان على ميزانيته من بغداد، ويتعين عليه تصدير نفطه عبر خط أنابيب تسيطر عليه الحكومة المركزية.

وقد اختلفت رؤى بغداد وأربيل حول كيفية استكشاف احتياطي النفط الضخم الذي يملكه العراق. وفي ظل غياب اتفاق، أبرمت كل من بغداد وأربيل عقودا منفصلة مع شركات نفط دولية في السنوات الأخيرة. ويذكر أن المسؤولين في بغداد ضجروا على وجه الخصوص من طبيعة العقود التي يبرمها إقليم كردستان، والتي تمنح شركات النفط حصة مباشرة في الاحتياطي.

وتقدم الاتفاقات التي وقعتها بغداد سعرا ثابتا لكل برميل نفط للشركات الدولية التي تدير حقل النفط، وهي من نوع الاتفاقات ذات الجاذبية القليلة. وقد منع النزاع المشرعين العراقيين من وضع قانون جديد خاص بقطاع المحروقات. وكان آخر اتفاق تم إبرامه مع شركة «إكسون» مصدر إزعاج لبغداد على وجه الخصوص لأنه يشمل حقولا في مناطق متنازع عليها.

وقال جوست هيلترمان، وهو خبير في الشأن العراقي بمجموعة الأزمات الدولية: «الآن، لا تجري مفاوضات أو عملية من أي نوع» بين بغداد وأربيل بشأن قانون النفط. وأضاف: «يمكن أن يستمر هذا الوضع لفترة طويلة جدا. وبمجرد بدء هذه الحقول في إنتاج النفط، ربما تضع بغداد حدودا، وفي حالة تجاوزها الأكراد، ربما يسفر ذلك عن وقوع نزاع».

وخلال سنواته الأخيرة في العراق، بات الجيش الأميركي ينظر إلى المناطق المتنازع عليها على طول إقليم كردستان باعتبارها واحدة من أكثر المشكلات التي يحتمل أن تتسبب في زعزعة الاستقرار. وصاغ مسؤولون أميركيون خططا لإبقاء بعثات دبلوماسية كبرى في الأقاليم التي تحد إقليم كردستان، ليعمل أفرادها بالأساس كوسطاء أمناء. ولاحقا، تم تقليص تلك الخطط، حيث اتضح أن الولايات المتحدة لن تتمكن من ترك عدد محدود من القوات في العراق.

ومع زيادة إنتاج النفط، والمخاطرة بكم أكبر من الأموال، يُحتمل أن يحتدم غيظ العرب الذين يعيشون في مناطق متنازع عليها، بحسب عبد الله حميد الياور، قائد إقليم شمر. وقال الياور: «عندما يدرك المواطنون أن المسؤولين السياسيين يخيبون آمالهم، سوف نجدهم يعتمدون على أنفسهم وعلى قبائلهم». ويقول محمود عثمان، وهو برلماني كردي: «عندما يطلق العنان للعراقيين، لرسم خططهم الخاصة، يقل احتمال وصولهم لحل. الوضع يتطلب وسيطا مؤثرا. في ما بين الكتل السياسية نفسها، لن نتمكن من حل النزاع. سيبقى الوضع على ما هو عليه».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»