داوود أوغلو: الأزمة السورية أصبحت تهدد الأمن والسلم العالميين

وزير الخارجية التركي في حوار تنشره «الشرق الأوسط»: الأسد والدائرة المقربة منه يتحملان المسؤولية كاملة

TT

بعد فوزه بمقعد في البرلمان العام الماضي لتمثيل مدينة قونيا، مسقط رأسه، يمكن لأحمد داود أوغلو الآن أن يطلق على نفسه سياسيا، وبالنسبة للسواد الأعظم من الأتراك، دائما ما سيكون أستاذ النظرية السياسية المثقف ومهندس سياسة خارجية ديناميكية تقوم على التطلع للخارج أحالت تركيا إلى قوة إقليمية. ففي أعقاب الفوز الذي حققه عام 2002 لحزب العدالة والتنمية، أصبح داود أوغلو، وهو حفيد صانع أحذية، كبير مستشاري رئيس الوزراء وسفيرا متجولا، وتم تعيينه وزيرًا للخارجية عام 2009. وفي هذه المناصب، أثبت نفسه كدبلوماسي، نشاطا فاعلا وصاحب مبادئ دائما. لقد أدهش مزيج الرؤية والمهارة الذي يتمتع به العالم بأسره، وجاء في قائمة «فورين بوليسي» بين «أبرز 100 مفكر عالمي» لعامي 2010 و2011. وفي حوار سياسي شامل يشرح داود أوغلو سياسة تركيا الخارجية وموقفها من الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية خلال العامين الماضي والحالي، وذلك في ردود مكتوبة على أسئلة مجلة «كايرو ريفيو» للشؤون الدولية، الربع سنوية التي تصدر عن كلية الشؤون الدولية والسياسة العامة بالجامعة الأميركية في القاهرة، وتنشرها باتفاق خاص معها «الشرق الأوسط».. وفيما يلي مقتطفات من الحوار، حول أهم القضايا التي تناولها:

* كيف يمكنك تعريف مصالح تركيا الاستراتيجية اليوم؟

- تكمن مصالح تركيا الاستراتيجية في تحقيق السلام والاستقرار والأمن والرخاء بالداخل والخارج، إن تركيا تحتل موقعًا فريدًا على المستوى الجيوسياسي، وسط أفرو أوراسيا. هذه المساحة الجغرافية الضخمة متاخمة لمناطق معرضة للأزمات مثل الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان. كذلك، فإن لديها إمكانات هائلة تكفل لها التطور والرخاء، والتي لم تتمكن من استغلالها حتى الآن بسبب مشكلات أمنية. ولأي أزمة في تلك المناطق - اقتصادية كانت أم سياسية - تبعات مباشرة بالنسبة لتركيا والمجتمع الدولي الأوسع نطاقًا.

ومن ثم، فإن الاستقرار في هذه المناطق يصب في صالح تركيا، ولهذا السبب، تعمل تركيا عن كثب من أجل تعزيز السلام والأمن في تلك المناطق، وهي الفكرة ذاتها التي تأتي في صميم سياسة «تصفير المشكلات مع دول الجوار» التي ننتهجها.

ومن خلال هذه السياسة، في الوقت الذي نحاول فيه تنحية المشكلات مع دول الجوار جانبًا، نسعى أيضا لمساعدتها في حل أي مشكلات محلية أو ثنائية أو دولية ربما تواجهها، قدر استطاعتنا.

كذلك تشكل مصالحنا الاقتصادية ملامح سياستنا الخارجية، إن تعداد السكان في تركيا ضخم، ويشكل الشباب نصف نسبة السكان، كما تملك اقتصادا حيويا، يكافح ليصبح من بين أكبر 10 اقتصادات في العالم بحلول عام 2023، الذي تحل فيه الذكرى المائة لقيام الجمهورية التركية، إضافة إلى ذلك، فإن القطاع الخاص التركي نشط جدا ويتمتع بروح مغامرة قوية، وهذا يلزمنا بتوسيع نطاق دورنا على المستوى الاقتصادي، وتصبح زيادة مستوى التعاون الاقتصادي مع أكبر عدد ممكن من الدول إحدى الأولويات المهمة بالنسبة لتركيا، ويجبرنا هذا على التواصل وتعزيز نطاق علاقاتنا على صعيد دولي، ولهذا، قمنا بزيادة التعاون والمشاركة مع القوى الناشئة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، التي أصبحت جميعها مناطق ذات أولوية في ما يتعلق بمصالحنا الاستراتيجية.

وتوجه السياسة الخارجية التركية قيمنا الديمقراطية، إلى جانب مصالحنا، وربما يتجلى هذا في أوضح صوره في دعمنا لجهود الإصلاح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لطالما كانت تركيا تشجع الحكومات على مخاطبة التوقعات الشرعية لشعوبها، ومع ذلك، ففي الوقت الحالي، بالنظر إلى التقدم المحلي الذي لا رجعة فيه نحو إرساء مزيد من الديمقراطية في المنطقة، فقد كثفت تركيا جهودها في سبيل دعم هذه العملية، إن إرساء الديمقراطية في هذه الدول بصورة من شأنها تمكين الشعوب وتعزيز الاستقرار يأتي في صالح المنطقة بأسرها، يجب أن تتقدم هذه العملية بأسلوب سلمي من دون أن تقود إلى انقسامات جديدة ذات طبيعة عرقية أو طائفية، ليس هذا ما يرغبه الناس، وعلينا ألا نألو جهدا من أجل تفادي مثل هذا السيناريو الخطير، ويبذل الخبراء الأتراك قصارى جهدهم في هذا الشأن، من خلال التعاون مع دول المنطقة.

إن تركيا تولي قيمة كبيرة لتحالفها مع المجتمع الأورو - أطلسي، إن عضويتنا في حلف الناتو (منظمة حلف شمال الأطلسي) وعلاقتنا الاستراتيجية بالولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى في أوروبا تشكل ركنًا أساسيًا من أركان سياستنا الخارجية. إلى جانب ذلك، فقد كانت تركيا من الدول التي تتفاوض مع الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة، وفي هذا السياق، يبقى الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي هدفًا استراتيجيا بالنسبة لنا.

* بعد النجاح الاقتصادي الباهر الذي حققته تركيا خلال العقد الماضي - وخاصة في مجال جذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة التجارة - ما التحديات الأخرى التي تواجهها في العقد المقبل؟

- لقد مرت تركيا بأزمة اقتصادية خطيرة في الماضي القريب، الأمر الذي دفعنا للقيام بإصلاحات اقتصادية جادة، وبفضل هذه الإصلاحات والروح المغامرة للقطاع الخاص التركي، تملك تركيا اليوم اقتصادا أقوى سريع النمو، في عامي 2010 و2011، بينما قاومت غالبية الدول الأوروبية التأثيرات العكسية المتشعبة للأزمة الاقتصادية العالمية، مثل الركود والنمو السلبي والبطالة.. إلخ، سجلت تركيا نموا اقتصاديا نسبته 9 في المائة عام 2010، و7.5 في المائة عام 2011، ومع إجمالي ناتج محلي يقدر بنحو تريليون دولار، تحتل تركيا المركز السادس عشر بين أكبر الاقتصادات في العالم، والمركز السادس بين أكبر الاقتصادات في أوروبا. حتى الآن، عاد النمو الاقتصادي لتركيا بفائدة كبيرة على دول الجوار أيضا، الذين قد زادت حصتهم في إجمالي حجم تجارتنا العالمية بنسبة تتراوح ما بين 8 و30 في المائة خلال العشر سنوات الماضية، ومع ذلك، في الوقت الذي تمثل فيه الدول الأوروبية أكبر شريك تجاري أجنبي لتركيا، ننظر للأزمة الاقتصادية الحالية في أوروبا بوصفها تحديًا مهما لنا أيضا، ولهذا، نطالب القادة الأوروبيين باتخاذ التدابير اللازمة في الوقت المناسب.

وفي هذا الصدد، تركيا على استعداد للقيام بكل ما في وسعها من أجل إيجاد سبيل للخروج من هذه الأزمة، وترى أنه على المدى الطويل ستحدث عضويتها في الاتحاد الأوروبي فارقا كبيرا، على نحو يمكن الاتحاد الأوروبي من أن يصبح لاعبا دوليا أقوى تأثيرا، ويتمثل هدفنا في الصعود بتركيا إلى مستوى اتحاد أكبر 10 اقتصادات في العالم بحلول عام 2023، مع احتفالنا بالذكرى المائة لقيام الجمهورية التركية.

* هل تنبأتم بموجة الربيع العربي؟

- من منظورنا، كانت متوقعة، كنا على وعي بالحاجة الماسة للتغيير والتحول الديمقراطي في المنطقة. ومثلما قد تتذكر، ففي كتابي «العمق الاستراتيجي» (Strategic Depth) - الصادر في أبريل (نيسان) 2001 - أوضحت أن الاستقرار والخبرة السياسية في الدول العربية لم يكونا مرتكزين على الشرعية الاجتماعية، وأن الاستقرار كان عديم القيمة. بالمثل، أكدت أيضا أن التحول في القومية العربية وأزمات الشرعية السياسية في العالم العربي سيؤثر على هياكل القيادة السياسية في تلك الدول. وعلى هذا النحو، فمنذ السنوات الأولى من العقد الماضي، بدأنا نؤكد أهمية إدخال إصلاحات سياسية واقتصادية ودعم الكرامة وحقوق الإنسان والحريات، إضافة إلى القيم العامة مثل سيادة القانون والشفافية والمحاسبة والمساواة بين الجنسين في المنطقة.

* ما منظورك الشخصي لرد فعل الحكومة التركية تجاه الربيع العربي، بدءا من المظاهرات في تونس، وحتى الثورة في مصر وأنحاء العالم العربي الأخرى؟

- لقد تبنينا موقفا يرتكز على المبادئ تجاه الحركات الشعبية في المناطق. ويقوم هذا الموقف على ركيزتين: دعم الإصلاحات الرامية إلى تحقيق مزيد من الشفافية والشرعية والمحاسبة، والسعي من أجل تحقيقها من خلال تحول سلمي. دائما ما قمنا بحثّ الأنظمة على حمل مشعل التغيير بنفسها، ونظرا لأن دعم الأمن والاستقرار في المنطقة لا يتحقق إلا من خلال استيعاب المطامح المشروعة للشعوب، فقد شجعنا شركاءنا الإقليميين على تنفيذ إصلاحات ضرورية في الوقت المناسب في سبيل تحقيق هذا الهدف.

كثيرا ما شددت تركيا على أن العنف واستخدام القوة ضد الشعوب أمر غير مقبول، يجب الحفاظ على سيادة واستقلال كل دولة وسلامة أراضيها ووحدتها السياسية، واحترامها، كذلك، من المهم عدم جعل تلك العمليات تسرق من قبل متطرفين يسعون لإشعال الفتنة الطائفية أو إحداث فرقة على المستوى العرقي أو الآيديولوجي عبر أنحاء المنطقة. وتلاحظ تركيا أيضا أن نطاق التغيير وديناميكياته تختلف من دولة لأخرى، ومن ثم، لا يمكن تطبيق أسلوب «موحد» على جميع الدول التي تمر بعملية تحول، وإذا تطلب الأمر، تبقى تركيا مستعدة لمشاركة تجربتها الخاصة مع الدول صاحبة المصالح.

* هل تمثل الثورات في العالم العربي أزمة أم فرصة بالنسبة لتركيا؟

- سنرغب في رؤية نظام ديمقراطي دستوري متأصل في دول الجوار، بحيث يمكن أن تتعايش جميع الديانات والطوائف معا في انسجام وسلام داخل مجتمع متعدد الثقافات.

علاوة على ذلك، تعتبر هذه هي الوسيلة الوحيدة لتأمين السلام والأمن والاستقرار في المنطقة، وإذا ما نجحت الحركات الشعبية المستمرة في إنشاء أنظمة ديمقراطية، فمن المؤكد أن ذلك سيخدم مصالح تركيا، إن تركيا لن تدخر جهدا في دعم عمليات التغيير والتحول في المنطقة، من خلال ثقافتها الديمقراطية وخبرتها التاريخية. ومع ذلك، سيتمثل أحد أكبر التحديات المستقبلية في عرقلة احتمالية ظهور شكل جديد من الاستقطاب في المنطقة، لقد ازدادت حدة الهويات الطائفية في أعقاب اندلاع الحركات الشعبية، سوف تكافح تركيا، بالتنسيق مع اللاعبين الإقليميين والدوليين، من أجل ضمان إتمام عمليات التغيير والتحول الجارية بنجاح.

* هل يمكن أن تفيد التجربة التركية التي ينخرط فيها الجيش في السياسة والحكومة، سواء كان ذلك سلبيًا أو إيجابيًا، مصر خلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها حاليًا.. بعض المراقبين في الغرب وإسرائيل عبروا عن قلقهم من فوز الأحزاب الإسلامية في الانتخابات المصرية، وخوفهم من دولة إسلامية بأجندة عسكرية.. هل تشاطرهم هذا القلق؟

- تركيا ومصر دولتان شقيقتان تربطهما أواصر عميقة من التاريخ المشترك والثقافة والجغرافيا، ولمصر تاريخ طويل وثقافة عريقة، فهي صاحبة واحدة من أهم الحضارات في العالم، ولا ينبغي أن ننسى أن عملية الإصلاح في مصر بدأت خلال الحقبة العثمانية، تعزز تركيا عملية التحول الديمقراطي في منطقتنا منذ سنوات، وترحب بالثورة السلمية المصرية وتحترم سيادة الشعب المصري، لقد بدأ الشعب المصري مع الثورة رحلة تاريخية سوف يعزز خلالها الديمقراطية والحرية والاستقرار والرخاء للأجيال القادمة، ونحن نؤمن بالرؤية الديمقراطية المصرية وعلى ثقة في قدرة الشعب المصري على إحراز التقدم بوحدة وتضامن وعزيمة. سيكون للتحول الديمقراطي في مصر تأثير كبير على المنطقة بأكملها، حيث سيشكل نجاح التجربة الديمقراطية في مصر حدثا غير مسبوق يجعل منها نبراسًا للدول الأخرى. ويزيدنا التقدم الذي حققته عملية التحول الديمقراطي في مصر تفاؤلنا بمستقبل مصر، لقد احتفل الشعب المصري بالذكرى الأولى لثورة 25 يناير (كانون الثاني)، ونحن نشاطرهم فرحتهم وفخرهم، ومثل الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب، وبدء أعماله ليلة الاحتفال بذكرى الثورة خطوة مهمة في هذا الصدد، ونحن لا نقلل من شأن التحديات المقبلة، لكننا ندرك أن طريق المرحلة الانتقالية لا يزال طويلا، وسيكون حتمًا مليئًا بالعثرات، لطالما تطلع الشعب المصري إلى نظام ديمقراطي وحياة أفضل، إن هذه العملية حساسة ومحفوفة بالصعوبات.

إن المطالبات والتوقعات كبيرة، والوقت والموارد محدودة، ويؤدي التأخر في تحقيق تطلعات الشعب إلى المزيد من الإحباط والسخط.

تذكرنا الأحداث الدامية التي تظهر في أوج لحظات التوتر المجتمعي بالهشاشة التي يمكن أن تكون عليها المجتمعات في تلك الأوقات الحرجة، بإيجاز، إن التكيف مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من جانب، والسير قدما في عملية التحول الديمقراطي بسلام واستقرار من جانب آخر، ليسا بالأمر السهل.

مع ذلك نحن على ثقة بأن أشقاءنا المصريين سوف يسيرون قدمًا باتجاه الحلول الوسط والحوار والحرص على الوحدة الوطنية من أجل إتمام هذه المهمة التاريخية. ونعتقد أن مصر ستخرج من هذه المرحلة أشد قوة وأكثر رخاء عن ذي قبل بفضل مثابرة الشعب المصري وجهده وقدرته على حل المشكلات. وكما اتضح من خلال زيارات الرئيس التركي عبد الله غل، ورئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، في مارس (آذار) وزياراتي الست إلى مصر العام الماضي، ستظل تركيا حريصة على تضامنها مع الشعب المصري في رحلته إلى الديمقراطية، لكل دولة خصائصها وسماتها المميزة التي تتشكل عبر تاريخها الاجتماعي والسياسي، لذا لا تريد تركيا تقديم نفسها باعتبارها نموذجًا، لقد استغرقت التجربة التركية الديمقراطية سنوات حتى تصل إلى ما هي عليه الآن، فضلا عن أنها أكبر من مجرد تطور للعلاقة بين الجيش والمدنيين، حيث تتسم بطبيعة شاملة ذات تأثير على المجتمع على جميع المستويات، أعتقد أن هذا الجانب من التجربة التركية وقدرتها على إثبات عدم وجود تعارض بين الديمقراطية والعلمانية في مجتمع إسلامي قد يمثل مصدر إلهام لدول المنطقة التي تمر بمرحلة تحول ومن بينها مصر. تركيا دومًا على استعداد لتقديم تجربتها الديمقراطية لكل الدول المعنية، لقد تجاوزنا الآن التحامل على الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية والتخوف منها، لقد دعمنا السماح للكيانات السياسية المنتخبة بديمقراطية بالاضطلاع بالمهام الحكومية منذ إجراء انتخابات حرة نزيهة عام 2006 في فلسطين. الأنظمة الديمقراطية تنضج فقط من خلال الممارسة. مع ذلك، أخفق المجتمع الدولي في إدراك هذه الحقيقة في النموذج الفلسطيني ولا يزال هذا الإخفاق يؤثر تأثيرا عكسيًا على الكيان السياسي الفلسطيني ويؤثر سلبًا على عملية السلام، لذا لا ينبغي أن يكرر المجتمع الدولي الخطأ في سياق الربيع العربي بوجه عام، وفي الحالة المصرية بوجه خاص.

على الجانب الآخر، تأتي المسؤوليات مع الوصول إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية، وتتضمن هذه المسؤوليات ضمان سيادة القانون والحكم الرشيد والمساءلة والشفافية والحفاظ على الحقوق والحريات الأساسية ومنها حماية حقوق النساء والأقليات. وأخيرًا أرى أن أهم ما في الأنظمة الديمقراطية هو إرادة الشعب الحرة، بطبيعة الحال عملية إرساء نظام ديمقراطي كامل مهمة شاقة وعسيرة تتعلق بالمؤسسات والانتخابات الحرة النزيهة.

* ما هو تقييم السياسة الخارجية التركية للأزمة السياسية في سوريا وطريقة تعاملها معها؟

- سوريا ليست مجرد دولة جوار بالنسبة إلينا، حيث يجمعنا تاريخ مشترك فبيننا خط حدودي طويل وقدرنا أن نعيش بجوار بعضنا البعض، لقد جعلت علاقات القرابة من شعبينا نسيجًا واحدًا، لهذا لم نستطع أن نقف دون أن نحرك ساكنًا إزاء التطورات التي تحدث هناك على الجانب الآخر من حدودنا التي تمتد بطول 910 كم.

وبدافع الإصرار على مد يد العون للشعب السوري، تواصلنا مع القيادة السورية حتى قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية الحالية، لقد حذرنا القيادة السورية بوضوح من احتمال أن تكون سوريا هي التالية في الربيع العربي، إذا لم تتقبل القيادة طلب الشعب بالعيش بكرامة. لقد عرضنا على القيادة تقديم تجربتنا وخبرتنا في مجال الديمقراطية التي يمكن أن تساعدها على اتخاذ خطوات صعبة لكنها ضرورية من أجل تلبية طلبات الشعب المشروعة. لقد زرت سوريا 62 مرة منذ تولي منصب المستشار الخاص لرئيس الوزراء. ولتذكير القيادة السورية بضرورة إجراء إصلاحات، ذهبت إلى سوريا وتقابلت مع الرئيس بشار الأسد ثلاث مرات. كذلك قدمنا خريطة طريق خاصة بالإصلاحات في سوريا في جميع المجالات.

مع ذلك لم يتم تنفيذ أي من الوعود التي قطعها لنا بإجراء إصلاحات. ورغم ما بذلته الحكومة التركية من جهود حثيثة، اختارت القيادة السورية طريق المواجهة مع شعبها من خلال اتباع سياسة طريقها مسدود تقوم على القمع الوحشي للاحتجاجات الشعبية.

ما زالت التطورات التي تحدث في سوريا من أكبر بواعث قلق المجتمع الدولي بالنظر إلى تزايد عدد القتلى، وتمثل المرحلة التي وصل إليها الوضع في سوريا تهديدا للسلام والأمن العالمي، ومع عدم ترجيح اتخاذ مجلس الأمن أي إجراء، ينبغي على المجتمع الدولي إعادة تقييم الخيارات المتاحة أمامه في ضوء المستجدات.

ونظرًا لأن تركيا ستكون أول دولة تتأثر بتطورات الأوضاع في سوريا، لن تتوقف تركيا عن التعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية من أجل وقف إراقة الدماء وتمهيد الطريق لإجراء عملية تحول سياسي في البلاد. لقد قمنا كأتراك بكل ما نستطيع القيام به على المستوى الثنائي، ثم أتبعناه بتنسيق مع جامعة الدول العربية وأخيرًا مع مجلس الأمن للتوصل إلى حل الأزمة السورية. ونحن بحاجة الآن إلى العمل على المستوى الدولي انطلاقا من المنطقة وبمشاركة موسعة مع كافة أطراف المجتمع الدولي المعنية. ونأمل أن يكون اجتماع تونس الذي عقد في 24 فبراير (شباط) قد مكّن المجتمع الدولي من توجيه رسائل متأخرة كثيرًا إلى النظام السوري وتخفيف معاناة الشعب السوري.

* كيف تقيم الرئيس بشار الأسد ودوره في الأزمة وما الحل؟

- اكتسبت التطورات في سوريا بعدا أكثر مأساوية نتيجة المواقف المتعنتة للنظام السوري، الذي لم يكترث لصرخات شعبه وفقط، بل وصم آذانه تجاه الدعوات الدولية المطالبة بنبذ العنف واستخدام القوة ضد المتظاهرين. إزاء ذلك، يتحمل الرئيس الأسد والدائرة المقربة المحيطة به المسؤولية الكاملة تجاه الأزمة الحالية، والتي أتت لسوء الحظ على الأخضر واليابس في سوريا. مرة أخرى، الأمر يعود إلى الرئيس بشار الأسد في إنهاء سفك الدماء وبدء عملية تحول ديمقراطي في البلاد من التطبيق الكامل لمبادرة الطريق وخارطة الطريق التي قدمتها الدول العربية.

* وما هو الطريق الأمثل للدول الأجنبية - سواء أكانت تركيا أم الدول العربية أو مزيجا من العمل الدولي - للتعامل مع أزمة كهذه في سوريا؟

- السبيل الأمثل للتعامل مع الأزمة في سوريا يأتي عبر تبني المجتمع الدولي ككل موقفا موحدا، حينئذ سيدرك نظام الأسد أن الإصرار على سياسته الحالية سيؤدي في النهاية إلى مزيد من سفك الدماء، لا شيء آخر. ونظرا لمشاركة تركيا حدودا مع سوريا تصل إلى 910 كيلومترات، ستظل تركيا مركز الجهود للتعامل مع الأزمة في هذا البلد، وأعتقد أن الجامعة العربية، كمنظمة إقليمية، تتمتع بدور محوري في توجيه جهود المجتمع الدولي، إذ يجب أن يأتي حل إنهاء الأزمة بشكل أساسي من المنطقة ويطبق بدعم من المجتمع الدولي.

* هل تتفق مع المحللين الذين يتوقعون ألا تعود العلاقات التركية - الإسرائيلية إلى أوجها كما كانت في السابق؟ وهل أصبحت السياسة التركية تجاه إسرائيل متوترة - بالنظر إلى مغادرة رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان دافوس غاضبا بشأن واقعة قافلة الحرية؟

- هناك بعض التطورات الإيجابية في عملية السلام بالشرق الأوسط التي كانت لها انعكاساتها على علاقات تركيا مع إسرائيل. فبعد مؤتمر السلام في مدريد واتفاقات السلام في أوسلو طورت تركيا من علاقتها بإسرائيل في بداية التسعينات، فعلى مدى سنوات أقامت تركيا وإسرائيل علاقات أفضل حتى يمكن لهذه العلاقة أن تخدم عملية السلام في الشرق الأوسط، بيد أن الأفعال الإسرائيلية والسياسات التي تعرض الاستقرار والسلام في المنطقة للخطر كانت لها عواقب سلبية على العلاقات الثنائية بيننا. وقد كانت أزمة قناة السويس عام 1956، وضم إسرائيل للقدس الشرقية عام 1980 والهجمات العسكرية الوحشية لإسرائيل على المناطق الفلسطينية المحتلة عام 2008، من بين هذه الأسباب.

كذلك كانت الهجمة الإسرائيلية ضد قافلة المساعدات الإنسانية الدولية في أعالي البحار في 31 مايو (أيار) 2010، والتي أسفرت عن مقتل 9 مدنيين أبرياء وإصابة الكثيرين من عدة جنسيات أخرى، السبب الرئيسي في تدهور العلاقات بين الدولتين. فقد شكل الهجوم خرقا واضحا للقانون الدولي، وتسبب في إدانات واسعة النطاق لإسرائيل من تركيا، والمجتمع الدولي.

لقد ترك هذا الهجوم الوحشي أثرا لا يمحى في قلب وعقل الشعب التركي، هذه الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل ليست إهانة بسيطة، فهي لم تنتهك فقط القانون الدولي، لكن الحياة، والقيمة الإنسانية الأساسية للمدنيين الأبرياء. بيد أننا تصرفنا بعقلانية وبحكمة خلال الـ21 شهرا الماضية، وكانت توقعاتنا حكيمة وواقعية. ورغم ذلك، فشلت إسرائيل، على عكس الممارسات الشائعة في العلاقات الدولية، في تلبية المطالب التركية بالاعتذار العلني، والتعويض وإنهاء حصار غزة حتى الآن، ولا يمكن لدولة أن تغض الطرف عن مقتل مواطنيها على يد قوات أجنبية في أعالي البحار وسوء معاملة الركاب الذي تلى ذلك.

كانت المطالب التركية واضحة، بأن على إسرائيل الاعتذار ودفع تعويضات، وكذلك رفع الحصار غير القانوني على غزة، وعلى الحكومة الإسرائيلية أن تختار. إن إسرائيل بحاجة لأن تعلم أنها ستتمكن فقط من ضمان أمن حقيقي من خلال سلام حقيقي، ونحن نأمل في أن ترى إسرائيل الصورة كاملة وما يخدم مصالحها الخاصة بشكل أفضل، وتطبيع علاقاتنا يعتمد على الخطوات التي تتخذها إسرائيل.

* الدول الغربية تقودها الولايات المتحدة عبرت عن شكوكها القوية من أن إيران عازمة على التحول إلى دولة نووية، فما رأيك في ذلك؟

- المشكلة أولا وقبل كل شيء هي أزمة ثقة، فغياب الثقة من جانب المجتمع الدولي إزاء الطبيعة السلمية الشاملة لطبيعة البرنامج النووي الإيراني يخلق عائقا نفسيا بين الأطراف المختلفة، والتغلب على هذه العوائق ممكن فقط عبر المفاوضات الهادفة والجادة التي تتعامل مع مخاوف وتوقعات كلا الطرفين.

* هل تسير إيران على مسار تصادمي مع الغرب، دون مخرج دبلوماسي حقيقي؟

- بناء على تجارب سابقة، ربما يكون لدى إيران أسبابها الخاصة في التشكك في اتساق المبادئ والمعايير لدى نظرائها الأوروبيين، غير أن التوصل إلى حل سلمي للقضية النووية الإيرانية يصب في مصلحة جميع الأطراف، لكن ذلك لن يكون بالأمر الهين نتيجة تأثير العامل النفسي وأزمة الثقة بين الأطراف، لكن الدبلوماسية المتأنية والمثابرة ضرورية لتحقيق النتيجة المرجوة، ومن خلال عملية تدريجية، بما في ذلك مباحثات استكشافية حول مجموعة من الإجراءات المتوازية الهادفة إلى التغلب على المأزق الحالي، يمكن الوصول إلى تسوية مرضية للطرفين بشأن القضايا العالقة.

* هل ترى تركيا أن هجوما إسرائيليا على إيران سيعطل المشروع النووي الإيراني؟

- ترفض تركيا القيام بأي عمل عسكري ضد إيران، فالخيار العسكري لا يمثل حلا للتحديات التي تفرضها النشاطات النووية الإيرانية، بل على العكس، قد يؤدي القيام بأي عمل عسكري إلى خلق مزيد من المشكلات أكثر مما سيحل - لا سيما آثاره السلبية التي لا يمكن تجنبها على السلام والأمن والاستقرار العالمي والإقليمي. ومن ثم لن تجد الجهود الحثيثة الساعية إلى التوصل إلى حل سلمي من خلال الحوار والتعاون أي خيارات بديلة، لكن لا تزال المفاوضات السبيل الوحيد للتقدم.

* كانت تركيا تشكك بقوة تجاه الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، كيف تقيم النتائج بعد قرابة ما يقرب من عقد، وتأثير تحول العراق على المصالح التركية، بما في ذلك القضية الكردية؟

- اسمح لي في البداية أن أطلعك على المعالم الرئيسية للسياسة التركية نحو العراق؛ ترغب تركيا في أن ترى عراقا مزدهرا وديمقراطيا وآمنا ومستقرا يعيش في سلام مع شعبه وجيرانه، نحن نرتبط بروابط ثقافية وتاريخية قوية مع العراق ونعلق أهمية كبرى على التقارب الشديد مع كل أطياف المجتمع العراقي.

كانت لدينا جميعا شكوك بشأن الحرب في العراق، لأننا كنا نعلم أن الحرب ستؤثر أولا وقبل كل شيء على تركيا كإحدى دول جوار العراق، وقد عانت تركيا من الحرب وعدم الاستقرار الذي تبعها في العراق بطرق عدة، وقد حول عدم الاستقرار وفراغ السلطة شمال العراق إلى ملاذ آمن لإرهابيي حزب العمال الكردستاني الذين يستخدمون هذه المنطقة للتخطيط وشن هجمات ضد تركيا، وقد تضررت مصالحنا الاقتصادية والتجارية بشدة أيضا، حزب العمال الكردستاني لا يشكل تهديدا لأمن واستقرار تركيا فقط، بل لجيراننا أيضا، بما في ذلك العراق.

وقد طورت تركيا من علاقاتها بشكل ملحوظ مع الإقليم الكردي في شمال العراق، وقد قام رجال الأعمال والمتعاقدون والعمال الأتراك بإسهامات مؤثرة في تحقيق الرفاهية والرخاء في شمال العراق. ونحن نتوقع من العراق - بما في ذلك السلطات الإقليمية في شمال العراق - اتخاذ تدابير حاسمة ومؤثرة للتخلص من وجود أنشطة ونشاطات منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية هناك.

انسحاب القوات الأميركية من العراق في ديسمبر (كانون الأول) 2011 قد وفر للقادة العراقيين الفرصة لأن يثبتوا لأنفسهم وللمجتمع الدولي أنهم قادرون على العمل معا لبناء عراق مستقر وديمقراطي ومزدهر.

بيد أنه في أعقاب انسحاب القوات الأميركية من العراق، ابتلي العراق مرة أخرى بعدم الاستقرار السياسي، ونحن قلقون من أن تؤدي الأزمة السياسية إلى تجدد العنف الطائفي في البلاد، ومن ثم فنحن نطالب القادة العراقيين بتسوية خلافاتهم عبر المفاوضات والتسويات بغية التوصل إلى حلول مقبولة من كلا الطرفين للمشكلات السياسية القائمة.

* باتفاق خاص مع «كايرو ريفيو» (www.thecairoreview.com)