المسيحيون النازحون إلى كردستان ينزحون مجددا.. إلى الخارج

يشكون من البطالة والملل.. ويشعرون بالخوف

مسيحي يمر بالقرب من دير منطقة قوش في إقليم كردستان حيث نزح المسيحيون الذين يفكرون الآن في الهجرة مجددا ولكن إلى خارج العراق («نيويورك تايمز»)
TT

بدأ المسيحيون العراقيون الآخذون في التضاؤل، والذين تركوا منازلهم نتيجة الهجمات أو الاعتداءات، في التخلي عن ملاذاتهم الآمنة التي عثروا عليها في الشمال تدفعهم في ذلك البطالة والخوف المتنامي من أن يلحق بهم العنف الذي فروا منه.

ويشكل هذا النزوح الهادئ إلى تركيا والأردن وأوروبا والولايات المتحدة الفصل الأخير في الانخفاض المحتم، الذي يقول كثير من الزعماء الدينيين، إنه مؤشر على تراجع المسيحية في بلاد كانت أفق المدن فيها تتسم بكل من مآذن المساجد وقباب الكنائس. وتشير التقييمات الأخيرة إلى تراجع أعداد العراقيين المسيحيين في الوقت الراهن بأكثر من النصف منذ الغزو الأميركي، فمع رحيل القوات الأميركية رأى بعض المسيحيين أنهم فقدوا حامي الملاذ الأخير.

هروب المسيحيين كان ظاهرا بوضوح في أماكن مثل قرية تنة، التي تلفها الرياح، والتي آوت عشرات النازحين المسيحيين على مدى تسع سنوات. فقد وجدت العائلات التي فرت من فرق الموت والتفجيرات في بغداد الأمن هنا على سفوح الجبال الشاهقة، لكنهم لم يجدوا الكثير إلى جانب الأمن غير الفقر والسأم والبرد. ويقدر مواطنو القرية بأن نحو ما يقرب من نصف منازل المسيحيين التي تصل إلى 50 أسرة باتت خاوية، وأن قاطنيها سافروا إلى الخارج.

وليد شيمعون (42 عاما) يرغب في أن يكون التالي على قائمة المغادرة، ويقول إنه غادر العاصمة العراقية في يناير (كانون الثاني) 2011 بعدما قضت المواجهات مع أفراد الميليشيات الشيعية مضاجعهم وتسبب لهم في كابوس التهديدات المتصاعدة القتل ومحاولة اغتياله. وكان أخوه قد لقي حتفه بالفعل إثر هجوم بقذيفة هاون قبل ست سنوات، وهو ما دفعه إلى التخلي عن عمله بالسفارة الأسترالية وراتبه الشهري الذي كان يقدر بـ1.500 دولار للحضور إلى هذه القرية.

وكل ما يفكر فيه وليد هذه الأيام هو الهجرة إلى أريزونا. وقال في لقاء معه، خلال عاصفة ثلجية قادمة من الجبال: «هذه ليست بالحياة. لا يوجد تحسن ولا يوجد عمل».

لقد قدم الكثير من الأفراد الذين يعانون الآن في شمال العراق الكردي في أعقاب التفجير الانتحاري في كنيسة «سيدة النجاة» في بغداد، والذي خلف 52 قتيلا ما بين مصل وقس، وحولت الكنيسة إلى مقبرة من المقصورات المحروقة وقطع الزجاج الملون المحطمة. وقد حملت العائلات المسيحية في بغداد معها ملابسها وأموالها وعددا من الممتلكات الأخرى وتوجهت إلى الشمال باتجاه سهل نينوى والمحافظات الكردية الثلاث، وانضموا إلى عشرات الآلاف من المسيحيين من العاصمة والموصل والمدن الأخرى الذين تبعوا مسارات مماثلة بعد هجمات سابقة وحملات اغتيال.

ويقول القس جبريل توما، الذي يرأس دير مريم العذراء في مدينة القوش المسيحية، التي تستقطب العشرات من العائلات المسيحية: «كانوا يقايضون كل شيء مقابل الأمن».

بيد أن المسيحيين والأقليات الأخرى برزوا بشكل واضح خلال سنوات التطهير الطائفي التي قسمت بغداد من مدينة متعددة الطوائف والعرقيات في السابق إلى جيوب سنية وشيعية. وتشير تقديرات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع الدولي إلى أن أعداد السكان المسيحيين التي كانت تتراوح ما بين 800.000 إلى 1.4 مليون مسيحي، تبلغ الآن أقل من نصف مليون.

ويقول سليم يونو عوفي، عضو المجلس الشعبي الآشوري الكلداني «لم نتلق أي مساعدة من أحد. هؤلاء الأفراد يحاولون بناء مستقبلهم والعثور على مسكن والزواج، ولذا فهم يغادرون العراق».

ورغم الأمان النسبي في كردستان، يرى بعض المسيحيين أنهم لا يزالون يعيشون في خوف. فقد أسهم خطف رجل أعمال مسيحي في أربيل عاصمة كردستان، واندلاع أعمال الشغب الأخيرة وحرق متاجر الشراب التي يملكها مسيحيون في محافظة دهوك، أقصى شمال العراق على طول الحدود التركية، بشكل كبير في رحيل المسيحيين عن المنطقة. ومن بين من تأثروا بهذه الأحداث سلام متى عبد الكريم، الذي انتقل مع عائلته من الموصل، إلى قرية شيوز المسيحية الصغيرة، التي تبعد نصف ساعة من مركز محافظة دهوك، قبل سبع سنوات بعد استعادة ابنه من خاطفيه. مرت السنوات هادئة حتى كانت إحدى ليالي شهر ديسمبر (كانون الأول) عندما توقفت شاحنة مليئة بالرجال عند أطراف المدينة وأضرمت النيران في مخزن للشراب. ويقول عبد الكريم: «يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. نحن نخشى من تطور الوضع إلى العنف. لقد كنت أفكر في الانتقال مع عائلتي إلى الجبال». وفي أعقاب الهجوم استأجرت القرية حراسا مسلحين.

لم يقتل مسيحي خلال أعمال الشغب ضد مالكي المتاجر المسيحيين. ويعتقد المسؤولون المحليون أن المسيحيين لم يكونوا مستهدفين على نحو خاص بسبب الدين، ولكن لأن الغوغاء، المتشددين الذين يدفعونهم لذلك، يرون بيع المشروبات الكحولية منافيا للشرع.

بيد أن المسؤولين الأكراد الذين استقبلوا المسيحيين في المنطقة سارعوا إلى تهدئة المخاوف التي نجمت عن الصدام. فزار الرئيس الكردي، مسعود بارزاني، مسيحيي مدينة زاخو، حيث تركزت أعمال الشغب، وأكد عدد من المسؤولين والقادة الدينيين على التسامح الديني في كردستان والعلاقات الوثيقة مع الآشوريين والكلدانيين وأفرع المسيحية الأخرى. ويقول فاضل عمر، رئيس مجلس محافظة دهوك: «إنهم جزء منا».

وأشار المسؤولون إلى أن الحكومة الكردية عرضت على المسيحيين الأراضي والوقود المجاني والمساعدات خلال وصولهم من بغداد، وفتحت أبواب جامعات الإقليم أمام الطلبة من الموصل. في الوقت ذاته، لا يفتقر المسيحيون إلى الصوت السياسي، فهم يتولون رئاسة عدد من المجالس المحلية في الشمال ويشغلون مقاعد في البرلمان في كل من كردستان وبغداد.

ورغم هذه المساعدات، تقول العائلات المسيحية، إنها تواجه صعوبة في العيش، حيث وجدت العائلات القريبة من المدن وظائف، لكن الأفراد في القرى يعانون بشكل كبير من البطالة ويعيشون على المعاشات الحكومية أو إعانات الإغاثة، والذين يصل عددهم إلى نحو 200 دولار شهريا، ويقطنون على بعد أميال من المدارس التي تعلم اللغة العربية ويقول بعض الآباء إن أبناءهم تخلفوا عن التعليم. وتعتبر قرية داودية درسا في المفاضلة، فهي مكان يتقاسم فيه السكان قصصا متشابهة للخوف والهرب من المنازل في بغداد. فيقول أحد الرجال إنه تلقى تهديدات بالقتل إذا لم يسلم ابنته للميليشيات، بينما قتل ابن لأبوين خلال عودته من العمل.

* خدمة «نيويورك تايمز»