اليابان تجد قصة للأمل وسط الكارثة بطلها «حانوتي»

متقاعد خصص وقته للاعتناء بالجثث وفق الطقوس المحلية.. وكتاب عنه الأكثر مبيعا

TT

على الرغم من الحزن الشديد الذي انتابها عندما وجدث جثة والدتها في مشرحة مؤقتة في هذه المدينة التي دمرها مد تسونامي في مارس (آذار) من العام الماضي، فإن فومي آراي شعرت بالراحة باكتشاف صغير مدهش.. فعلى عكس بقية جسدها الذي غطته الأوحال، كان وجه والدتها نظيفا وممسوحا بعناية.

لم تعلم آراي السبب في ذلك الوقت، لكن ذلك التصرف كان عمل حانوتي متقاعد على دراية بالطقوس البوذية القديمة لتجهيز الموتى لحرق أجسادهم ومن ثم دفنها. وقد تحول أتسوشي تشيبا، وهو أب لخمسة أولاد قام بالعناية بما يقرب من 1.000 جثة في كامايشي، إلى بطل بالمصادفة في مجتمع يحاول التعافي من جراحه التي ألمت به بعد عام من زلزال مدمر وموجة تسونامي عصفت بكثير من مناطق الساحل الشمالي الشرقي لليابان.

وتقول آراي، 36 عاما: «كنت متوجسة من العثور على جثة والدتي راقدة بمفردها على الأرض الباردة وسط الغرباء. وعندما رأيت وجهها النظيف والمسالم، علمت أن شخصا ما اعتنى بها حتى وصولي، وقد شعرت براحة كبيرة عندما شاهدتها على هذه الحال».

ومع مرور عام على أحداث زلزال وتسونامي اليابان اللذين حصدا زهاء 20.000 شخص في منطقة توهوكو شمال شرقي اليابان، تروى قصص على هذه الشاكلة وتعاد روايتها بوصفها بارقات أمل في الوقت الذي تكافح فيه اليابان عبر ما يتوقع أن يشكل عقدا من جهود إعادة بناء المنطقة.

خلدت قصة تشيبا في أكثر الكتب مبيعا في اليابان الذي باع 40.000 نسخة وهو في الطبعة الحادية عشرة له الآن. ويقول مؤلف الكتاب، كوتا إيشي، الذي قضى ثلاثة أشهر في كامايشي وضواحيها في أعقاب الكارثة الذي يؤرخ لما قام به تشيبا: «جثث الموتى هي الملمح الأكثر إثارة للفزع في أي كارثة، وقد لا يرغب بعض الناس في تذكر ذلك. لكن هذه القصة تروي كيف يمكن لعمل إنساني بسيط أن يجلب قدرا من الإنسانية حتى في هذه المأساة التي تفوق كل التصورات».

لم تأت الأمواج التي زاد ارتفاعها على 9 أمتار، وضربت مدينة كامايشي بعد وقت قليل من الزلزال القوي الذي بلغ 9.0 درجات على مقياس ريختر، على التمثال الأبيض لأحد آلهة البوذيين (اسمه كانون)، الذي يطل على البحر من التلال فوق المدينة. لكن الأمواج دمرت أكثر الأجزاء حيوية في المدينة من المطاعم والحانات التي يرتادها صيادو الأسماك في المنطقة.

ومع تراجع المياه السوداء، تمكن المنقذون من دخول شوارع المدينة المحطمة وبدأوا في سحب جثث الموتى من الأنقاض وحملوهم على شاحنات إلى مدرسة ثانوية خالية نجت من الدمار. وسرعان ما تحولت صالة الألعاب الرياضية المتهدمة إلى مشرحة ضخمة.

سارع تشيبا، الذي يعيش أوائل السبعينات من عمره، والذي نجا منزله أيضا من الدمار، إلى الصالة الرياضية في اليوم الثاني للكارثة للعناية بأصدقائه وعائلته، لكنه صعق من الأعداد المتزايدة للجثث هناك. كانت غالبيتهم لا يزالون مرتدين ملابسهم الموحلة وملفوفين بأكياس من البلاستيك وكانت أطرافهم المتيبسة بارزة ووجوههم مليئة بالكدمات نتيجة الحطام.

وقال تشيبا في مقابلة أجريت معه الخميس الماضي: «قلت لنفسي: إذا تركت الجثث على هذه الحال، فلن تتمكن العائلات التي ستأتي للمطالبة بها من تحمل رؤيتها على هذا النحو. صحيح أنهم موتي، لكننا في اليابان نعامل الموتى باحترام، كما لو كانوا أحياء، إنها طريقة لراحة الأحياء».

شرع تشيبا في العمل، وتحول إلى عضو أساسي في المشرحة، يتحدث إلى الجثث وهو يُعدهم للرؤية ثم الحرق. ويتذكر ذلك بالقول: «في ذلك الوقت تشعر بالبرد والوحدة، لكن عائلتك ستحضر إليك سريعا، لذا ينبغي أن تفكر في ما ستقوله لهم عندما يصلون».

قام تشيبا بتعليم عمال المشرحة كيفية إرخاء أطراف الموتى المتيبسة، والنزول على ركبتيه وتدليكها برفق حتى يبدو الجسد أقل تصلبا. وعندما أجهش بالبكاء أقارب إحدى الضحايا التي كانت في منتصف العمر، بعد أن رأوا أن جثتها بدت هزيلة، طلب منهم تشيبا بعض المساحيق ووضع لها بعض المساحيق التي تضفي نضارة على وجهها. وسرعان ما لقيت محاولات تشيبا لتكريم الموتى، استجابة في اليابان، فقام عمال المدينة بجمع أدراج الطلاب القديمة لصنع مذبح بوذي، ووضعوا جثث الأزواج وأفراد العائلات معا.. وفي كل مرة كان يُحمل فيها جسد، كان العمال يحنون رؤوسهم لتقديم واجب الاحترام لهم.

ونتيجة لجهود تشيبا، كانت كامايشي، إحدى المدن الأكثر تضررا، تحرق كل موتاها وفق التقليد الياباني، وطلبت مساعدة محارق مثل أكيتا التي تبعد ما يزيد على 100 ميل.

وإجمالا، فقد أعلن وفاة 888 شخصا من بين سكان المدينة البالغ عددهم 40.000 شخص، واعتبر 158 شخصا في عداد المفقودين.

شكلت الكارثة ضربة موجعة لحظوظ المدينة التي تشهد تراجعا بالفعل، حيث تواجه صناعة الصلب التي ازدهرت خلال حقبة الستينات والسبعينات تقلصا منذ ذلك الحين. فقد دمر التسونامي ما يقرب من نصف المدينة، ولا تزال الشوارع في الأحياء الأكثر تضررا تصطف بهياكل البنايات والأراضي الخاوية.

وخلال استعدادات المدينة لإحياء الذكرى السنوية الأولى للكارثة، قدم كاهن بوذي شكره لتشيبا على إسهاماته في تعافي المدينة. ويذكر الكاهن، إينو تشيباسكال، من معبد «سنجوين» المقام على التلال المطلة في كامايشي، التغيير الذي حل على المشرحة الطارئة عندما كان تشيبا وعمال المدينة يعتنون بالموتى. وقال تشيباسكال: «سواء كنت متدينا أم لا، فإن الحداد على الموتى حاجة أساسية. يبدأ الحداد بالعناية بالموتى؛ فهو آخر ما تراه للشخص الذي تحبه، وترغب في تذكره في أجمل صورة كان عليها خلال حياته».

* خدمة «نيويورك تايمز»