البولنديون يريدون أوروبا.. من دون عملتها

أزمة الديون دفعتهم لتغيير معتقداتهم.. وباتوا مقتنعين أن وجودهم خارج «اليورو» أنقذهم من مصير اليونان

موظف في البنك المركزي البولندي يعرض ورقة من فئة 20 زلوتي (نحو 3 دولارات) مهداة إلى الموسيقار البولندي فريديريك شوبين في وارسو (أ.ب)
TT

هنا في بولندا؛ حيث لا تزال المباني السكنية مقامة على الطراز الشيوعي الكئيب وتهيمن على المشهد، كان اليورو، قبل سنوات، موضع حفاوة؛ لأنه كان يُنظر إليه بمثابة التذكرة الأسرع للحاق بالنادي الاقتصادي الكبير. لكن الآن، وبعد سنوات من المشكلات التي تعانيها منطقة اليورو، أدرك البولنديون أن تذكرة النادي الأكبر كانت في جيوبهم طوال الوقت. فقد حمت عملتهم (الزلوتي) بولندا من الاضطرابات المحيطة بها، وقليلون هنا يحاولون الآن تبني اليورو، على الرغم من موافقة بولندا على ذلك عندما انضمت إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004.

وكان ينظر إلى اليورو، العملة الرسمية لـ17 دولة من بين الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، على أنه رمز النجاح الاقتصادي، لكنه تحول الآن إلى عبء، خاصة بعد أن قلبت أزمة الديون المعتقدات القديمة حول فوائد الاندماج الأوسع رأسا على عقب.

ويؤكد قادة اليونان، التي يشكل ضعفها لب المشكلات الأوروبية، في الجلسات غير المعلنة، أنه ما كان ينبغي عليهم تبني اليورو، لكنهم الآن محاصرون، بعواقب اقتصادية لترك العملة أكثر خطورة من ألم البقاء تحت مظلتها. بينما تتحسر دول اليورو الأخرى على المساهمة في عمليات الإنقاذ التي تدعم البرتغال وآيرلندا واليونان، وتمتعض من السلطات التي تمارسها ألمانيا على باقي الدول. وفي الوقت ذاته لا يبدي الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا والتشيك، الذين لم ينضموا إلى اليورو بعدُ، رغبة في اللحاق بالنادي في الوقت الراهن. ففي عام 2008 أعلن رئيس الوزراء البولندي أن بلاده ستنضم إلى منطقة اليورو عام 2011، والآن يجعل خفوت الحماسة للفكرة التوقعات بعيدة للغاية، حتى إن عددا محدودا من صناع السياسية سيخاطرون بالتخمين بتوقيت حدوث ذلك.

ويقول كريزستزوف بيلسكي، كبير المستشارين الاقتصاديين لرئيس الوزراء البولندي: «هذا القرار ليس سهلا، وهو غير مطروح للنقاش حاليا في بولندا. فنحن البولنديين أكثر براغماتية الآن مما كنا عليه؛ فقد كنا عاطفيين تاريخيا».

وتعتبر بولندا، التي تعد 38 مليون نسمة، ثاني أكبر دولة في أوروبا بعد بريطانيا، لا تستخدم اليورو. وبفضل قوة عملتها، واقتصادها الأسرع نموا بين دول الاتحاد الأوروبي، وصادرات قوية وقطاع استهلاكي متنامٍ، تسير بولندا على الطريق الصحيح نحو النجاح بتوقعات نمو تصل إلى 2.5% العام الحالي، بينما يغرق أقرانها في منطقة اليورو في ركود.

ويرى البولنديون، القلقون بشأن الانضمام إلى اليورو، الدروس في سوء حظوظ الدول الأخرى. ويقولون إن المعاناة الاقتصادية التي تعانيها اليونان مرتبطة بكونها محبوسة في منطقة اليورو؛ لأنها غير قادرة على خفض قيمة عملتها بصورة يمكن أن تشجع المستثمرين والسائحين. وهم يتطلعون، بحذر، إلى سلوفاكيا وإستونيا، الدولتين الشيوعيتين السابقتين اللتين تبنتا اليورو، وتبحثان عن خطط إنقاذ من الدول الأغنى.

ويفضل بعض البولنديين أوراق الزلوتي المالية الملونة بألوان الباستيل، التي تذكر بألوان بيض عيد الفصح البولندية التي حفرت بشكل رائع، على اليورو الذي يعطي إحساسا بالعمومية والملل، والذي رسم عليه المصممون جسورا ومباني وهمية لتجنب تفضيل دولة بعينها.

ففي حي براغا الفقير في وارسو، أدار آرتور وإليزابيتا زوادزكي متجرا للملابس ومعرضا لـ33 عاما، ومن خلال متجرهما شاهدا أزمة الديون البولندية عام 1981، والتضخم الذي جاء مع اقتصاد السوق في نهاية الحقبة الشيوعية وتذبذب الزلوتي منذ ذلك الحين. فهم يفضلون ما في أيديهم الآن على ما يمكن أن يجلبه لهم اليورو. ويقول آرتور زوادزكي، 58 عاما: «اليورو سيرفع من الأسعار. وسيضر بالشركات الصغيرة مثل متجري؛ حيث تغص ثلاث واجهات متاجر صغيرة بالسيراميك والمنحوتات الغريبة والملابس، وكلها مصنوعة في بولندا؛ إذ سيحافظ التعامل بالزلوتي على رخص المنتجات أمام السياح، ويجلب الأموال للفنانين الذين يصنعونهم، وإذا انضمت بولندا إلى اليورو وارتفعت الأسعار فلن تتمكن الشركات من الازدهار». وأضاف: «جمهورية التشيك لم تتبنَّ اليورو بعدُ، لكن سلوفاكيا، التي تعتمده، تواجه مشكلات الآن. إنها دولة فقيرة. وستراقب بولندا الموقف عن كثب».

يرى الاقتصاديون أن الزلوتي ساعد الاقتصاد البولندي في النمو خلال الأزمة بنسبة 2% سنويا أكثر مما يمكن أن تكون عليه في ظل اليورو - الاختلاف بين الركود والنمو المعتدل. وعندما انخفض الزلوتي بمقدار الثلث مقابل اليورو خلال الشهور الأولى من الأزمة عامي 2008 و2009 أصبحت المنتجات ثالث أرخص منتجات أمام مشتري منطقة اليورو.

وقد أظهرت استطلاعات الرأي، التي أجرتها شركة أبحاث «سي بي أو إس»، أن المعارضة بين البولنديين لاستخدام اليورو ارتفعت من 22% في عام 2002 إلى 60% في يناير (كانون الثاني) الماضي. ويقول وزير الخارجية البولندي رادوسلاو سيكورسكي: «عوامل الجذب قليلة إلى حد ما، أما عوامل الخطورة فهي كبيرة إلى حد ما. نحن لا نملك اليوم تصويتا في البرلمان لإحداث التغيرات الدستورية الضرورية لتحويل العملات». لكن الوزير قال إنه يدعم الانضمام إلى اليورو على المدى الطويل.

وقد تضاءل النهم في البنك المركزي البولندي للعملة الموحدة منذ أن ثبت العمال مقابض على شكل يورو على الأبواب في صالات المدخل الرئيسية، توقعا للانضمام إلى اليورو. وانتخب محافظ البنك المركزي، ماريك بيلكا، رئيسا للوزراء في ذروة النشوة الأوروبية، في أعقاب انضمام البلاد إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004. والآن يفضل بيلكا الحديث عن انضمام بولندا إلى منطقة اليورو بكلمات مثل «إذا» على الرغم من اعترافه بأن بولندا ملزمة بالانضمام إلى اليورو بموجب شروط انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. وقال: «في السنوات الأولى، كان الكل متحمسا لتبني اليورو، أما الآن فلدينا من الأسباب الكثير ما يدفعنا إلى عدم التعجل. اليورو الآن يمر بحالة من الإصلاح، ولا نعلم كيف سيبدو شكله عندما تحدث التغيرات الضرورية».

وخلال الشهور الأخيرة، حاولت ألمانيا ودول منطقة اليورو الأخرى، التي تمكنت من عبور أزمة الديون، الدفع باتجاه تنفيذ بعض العقوبات الصارمة على الاقتراض والإنفاق، التي يقولون إنها ستساعد في تفادي المشكلات المستقبلية. ففي 25 يناير (كانون الثاني) تبنت دول الاتحاد الأوروبي الـ27 ميثاقا ماليا يلزم الدول كلها بالتقشف إذا استخدمت اليورو. ويتباهى قادة بولندا بسقف الدين المكتوب في دستورهم عام 1997، قبل وقت طويل من أن يصبح ذلك شائعا بين جيرانهم. وإذا اتخذوا قرارات بشأن مستقبل اليورو، فربما يثبتون أنفسهم كحلفاء موثوقين لألمانيا، بحسب محللين.

وعلى الرغم من عدم تبنيها لليورو، حاولت بولندا المشاركة كطرف فاعل على طاولة النقاشات العام الماضي بشأن خطة الإنقاذ المالي لدول اليورو. وقال قادة منطقة اليورو في ذلك الوقت إن من يستخدمون العملة فقط هم من يجب أن يقرروا بشأن مستقبله. لكن بيلكا، محافظ البنك المركزي السابق، قال إن بولندا لن تستطيع أن تبدأ مسيرة الانضمام إلى اليورو قبل أن تعلم القواعد التي سيتوجب عليها اتباعها.

والإحساس بأن مستقبل الاتحاد الأوروبي يكمن في منطقة اليورو يجعل بعض السياسيين في بولندا حريصين على الانضمام إلى منطقة اليورو؛ حيث يحاولون ربط بولندا بغرب أوروبا بأكبر قدر ممكن. ويقولون إن إنهاء تكلفة التحويلات والشكوك بشأن سعر الصرف سيساعد في توجيه المزيد من الاستثمارات إلى بولندا خلال أوقات التحسن.

ويقول ريزارد بترو، رئيس جمعية الاقتصاديين البولنديين: «لن نستطيع أن ننهج الطريقة البريطانية، فنحن لسنا جزيرة».

بيد أن الكثير من البولنديين لا يزالون يبدون ارتياحا للاحتفاظ بالزلوتي في حافظات نقودهم. ويقول أغاتا بيليكا، 26 عاما، خريج جامعة وارسو: «لقد خلق اليورو أزمة كبيرة؛ لذا يجب علينا أن نفكر مليا».

* خدمة «واشنطن بوست» - خاص بـ«الشرق الأوسط»