جدل حول التفرقة في آخر معقل لسيادة البيض بجنوب أفريقيا

مدينة الجمال والسياحة كيب تاون منقسمة على نفسها بين قلب أبيض وأطراف سوداء

سكان من السود أو العرقيات المختلطة في طريقهم إلى محطة لقطار وسيارات الأجرة في كيب تاون (نيويورك تايمز)
TT

تعتبر مدينة كيب تاون، بالنسبة لعدد لا يحصى من السياح الأجانب، رمزا غير قابل للمحو من الجمال، ووعدا بجنوب أفريقيا تجاوزت حقبة سياسة الفصل العنصري. وإلى جانب المشاهد الرائعة، يؤكد شعارها المتمثل في جبل تيبل، المطل على قوس قزح، ما تتمتع به من خليط تاريخي يتكون من شتى الأعراق والثقافات، ويتم تبجيل أشهر قاطنيها، ديزموند توتو، باعتباره رمز التسامح والاحتواء والعفو. لكن مع ذلك تمثل المدينة للكثير من السود في جنوب أفريقيا أمرا مختلفا؛ فهي، في نظرهم، المعقل الأخير لسيادة البيض. وكتبت المغنية ليندوي ساتل، في تحدٍّ على «تويتر» لهيلين زيلي، زعيمة الحزب، البيضاء، في هذه المدينة: «لا يهم إن كنت ثرية أو مشهورة، فأنت ما زلت مواطنة درجة ثانية إذا كنت سوداء في مدينة كيب تاون». وبعد أن حشد هذا التعليق الدعم من مشاهير السود وآخرين على موقع «تويتر»، ردت زيلي برسالة على الموقع قالت فيها: «يا له من هراء». ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد؛ فقد كانت معركة «تويتر»، التي اندلعت منذ بضعة أشهر واتخذت عناوين مثل «عنصرية كيب تاون» و«حملة مناهضة» و«كيب تاون رائعة»، فرصة مثالية للبحث عن الذات في هذه المدينة، التي يبلغ تعدادها 3.5 مليون نسمة وتقع على الطرف الجنوبي من أفريقيا. ترى هل ينتهي قوس القزح الذي تحتفي به هذه الدولة عند نقطة التقاء الجبل بالبحر؟

إنها المدينة الكبيرة الوحيدة في جنوب أفريقيا التي لا يمثل فيها السود الأغلبية، ولا تزال منقسمة إلى حد كبير. وقد خلف الإرث القاسي لسياسة الفصل العنصري على النحو التي طبقت به ندوبا غائرة لا تزال تحدد الخطوط الجغرافية الفاصلة بين البيض، الذين يتمركزون في قلب المدينة والأحياء المتاخمة للجبال، والسود الذين يقيمون في المدن البعيدة في «كيب فلاتس». وقد حرمت سياسة الفصل العنصري السود من الإقامة أو حتى العمل في المدينة، مانحين من يسمون أصحاب الأعراق المختلطة، الذين يمثلون أغلبية سكان المدينة، الأفضلية على السود في الوظائف والسكن. وإلى جانب التاريخ، هناك المشهد السياسي اليوم؛ حيث تعتبر ويسترن كيب المقاطعة الوحيدة من بين تسع مقاطعات لا يسيطر عليها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي؛ حيث يتولى إدارة شؤونها حزب التحالف الديمقراطي، الذي تنتمي إليه زيلي. وجدير بالذكر أن الحزب خرج من رحم حركة مناهضة سياسة الفصل العنصري، لكنه ضم في النهاية فلول الحزب الوطني القديم الذي وضع تلك السياسة بالأساس. وقال الرئيس الجنوب أفريقي، جاكوب زوما، في خطاب العام الماضي في مدينة للسود تقع بالقرب من كيب تاون: إن المدينة بها نظام قائم على الفصل العنصري إلى أقصى حد، بحسب ما ذكرت التقارير الصحافية تعليقا على خطابه. ويحاول حزب المؤتمر الوطني الفوز بالمقاطعة، واستنكر التحالف الديمقراطي الزعم أن مدينة كيب تاون عنصرية، واصفا ذلك بالحيلة السياسية. وقالت باتريشيا دو ليل، عمدة كيب تاون: «وصف حزب المؤتمر الوطني الأفريقي المدينة بالعنصرية لأنها المدينة الوحيدة التي تخرج عن نطاق سيطرته في البلاد».

وتحاول حكومة المدينة، جاهدة، تغيير ما سمته ليل «النمو الكبير لسياسة الفصل العنصري». وأعطت اسمين جديدين لأكبر شارعين في المدينة، هما: نيلسون مانديلا، أول رئيس أسود للبلاد، وهيلين سوزمان، المعارض الأبيض العتيد لسياسة الفصل العنصري. ويتقاطع الشارعان في وسط المدينة، ويرمز اندماجهما إلى الأمل بالوحدة والتكامل. ومع ذلك، أوضحت دراسة أجراها باحثون في جامعة كيب تاون في ديسمبر (كانون الأول) 2010 عدم توافر فرص العمل أمام السكان السود في كيب تاون. وخلصت الدراسة إلى أن الأفارقة في ويسترن كيب أقل نجاحا من البيض في مجالات العمل على الدوام. وليس العمل هو المجال الوحيد الذي يشعر فيه السود بعدم الترحيب؛ حيث لا تزال الكثير من شواطئ ساحل المحيط الأطلسي، التي كانت محظورة في السابق على السود، تجذب البيض بشكل كبير، مما يؤدي إلى حدوث انقسام. وتقول يوليسوا دوان: «أكره الذهاب إلى كامبس باي؛ حيث لا يوجد هناك سوى البيض»، مشيرة إلى ضاحية راقية تطل على الساحل الأطلسي، كانت مقصورة في الماضي على البيض. وأضافت: «إنك لا تشعر بالوحدة في هذا البلد».

ليس التمييز الذي يصفه السود في جنوب أفريقيا من النوع الصارم الذي يفرض بالقوة مثلما كان في حقبة الفصل العنصري، بل هو تمييز شفاف وعصي على الرصد أحيانا. ويروي البعض كيف يخبرون بعدم وجود طاولات شاغرة في مطعم ليس به أحد أو عدم وجود سيارات في مكتب تأجير مليء بالسيارات. وفي مدينة تتسع فيها الفجوة الاقتصادية في دلالة سافرة على غياب المساواة، تصبح الطبقة التي تنتمي إليها هي القوة الداعمة للعرق بعدة أوجه. وأشار الصحافي أوسيام موليف مؤخرا إلى رفض دخوله ملهى ليلي؛ حيث كتب: «لقد تم رفض دخولي للمرة الثالثة (والأخيرة) من حانة أسوكا في شارع كلوف. ويمكنني أن أخبركم بعدم وجود سياسة فصل عنصري معلنة في (أسوكا)، سنكون أول من يقر أن سياستنا تقوم على الطبقية والسطحية. مع الأسف هذا ما يتوقعه ويريده رواد المكان الدائمون. إنه الواقع الأليم للمجتمع الذي نعيش فيه». وما لم يُقَل هو كيفية تحديد الطبقة التي ينتمي إليها الأفراد بالضبط.

من الصعب التوصل إلى تصالح بين الانقسامات العرقية العميقة الموجودة في كيب تاون اليوم، وتاريخها الذي جعل منها بوتقة تنصهر فيها جميع الأعراق وأحد أكثر مراكز الالتقاء الحضاري في العالم.

أخذت شركة «الهند الشرقية الهولندية» منذ بداية القرن الـ17 في جلب العبيد والسجناء من موزمبيق ومدغشقر، وكذلك من الهند وإندونيسيا. وبالتالي كان هناك زواج مختلط؛ لذا كان انصهار الدم الأبيض في تلك البوتقة نتيجة حتمية. واستمر وجود الحواجز العرقية في القرنين الـ17 والـ18، لكنها لم تكن صارمة، على حد قول المؤرخين. وقالت فيفيان بيكفورد سميث، أستاذة التاريخ في جامعة كيب تاون: «لم يكن لون البشرة حاجزا حتميا لتغيير مركزك الاجتماعي؛ فهناك عبارة تقول إن المال يجعلك أبيض البشرة». كان سيمون فان دير ستيل، أول حاكم لكيب تاون، من عرق مختلط. ومع ذلك بنهاية القرن الـ19، أصبحت النظريات والمواقف التي تفتقر إلى أساس علمي رائجة مع رواج فكرة تدرج الأعراق المختلفة في المراتب وتخلف الأفارقة السود في ذيل القائمة. وعندما تولى حزب المؤتمر الوطني السلطة عام 1948 وأعلن سياسة الفصل العنصري الجديدة، كان الفصل بين الأعراق قد ترسخ وبات كالنقش على الحجر. وتم تهجير الذين أقاموا في مجتمعات مختلطة مثل حي ديستريكت 6 بالقرب من وسط المدينة قسرا من منازلهم إلى مدن وبلدات مقفرة منعزلة في «كيب فلاتس» بعيدا عن المدينة.

ولا يلقى السود ترحيبا في كيب تاون حتى بات من المعتقد عدم وجود سود من المدينة. وتعيش عائلة غوفري مامبوتا في كيب تاون منذ منتصف القرن الـ19، وعلى الرغم من ذلك لا يزال الناس يسألونه عن موطنه، على الرغم من أن عدد السود فاق عدد البيض في المدينة، وباتت النسبة بينهما 1 : 2 بحسب آخر تعداد للسكان عام 2007. وقال مامبوتا: «عندما أقول إنني من كيب تاون، دائما ما يكون الرد بنفي وجود أي شخص أسود من كيب تاون. ويكرس السود التمييز العنصري عندما ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم غرباء ودخلاء؛ حيث يؤكدون الشعور بعدم الانتماء إلى المكان».

وما يجعل التوتر العنصري أكثر عمقا هو الأفضلية التي يحصل عليها الملونون، والتي تأتي في إطار سياسة «فرِّق تسد». وخلال السبعينات والثمانينات عندما ازدادت وتيرة سياسة الفصل العنصري، رفض الكثير إلصاق هذا الوصف بهم واختاروا النظر إلى أنفسهم كسود. واستخدم الطلبة والأساتذة في جامعة ويسترن كيب، التي صنفتها حكومة الفصل العنصري باعتبارها مؤسسة للملونين، ذلك الوصف الذي أسبغوه على أنفسهم كوسيلة لرفض الوصف الذي ألصقته بهم سياسة الفصل العنصري. وقال سورين بيلاي، الأستاذ بالجامعة: «من ردود الفعل تجاه فرض التصنيف العنصري هو رفض التوصيف العنصري بالأساس». مع ذلك لم يستمر هذا التوجه طويلا؛ ففي عام 1994، منح أكثر الملونين في ويسترن كيب أصواتهم لحزب المؤتمر الوطني الذي وضع سياسة الفصل العنصري. وظهر حاليا نوع من الفصل في الحرم الجامعي لجامعة ويسترن كيب، يتمثل في تجمع كل مع من يشبهه. وقال نوكواندا كانيل، الطالب في كلية إدارة الأعمال الذي يبلغ من العمر 21 عاما، وهو من دوربان: «لا يوجد اختلاط واضح هنا؛ حيث يقتصر تعامل الملونين مع الملونين مثلهم، وكذلك الحال بالنسبة للبيض». ولا يفكر كانيل، مثله مثل الكثير من الشباب السود، في البقاء في كيب تاون للعمل؛ حيث يقول: «إن كيب تاون مدينة تتسم بالعنصرية، والجميع يعلم ذلك».

* خدمة «نيويورك تايمز»