الموصل: «القاعدة» تصول وتجول وتجمع الإتاوات.. وأصحاب أعمال ومسؤولون يدفعون

في المدينة «مناطق خضراء» لكبار المسؤولين.. وما تبقى «حمراء» لباقي المواطنين

الحركة في أحد شوارع الموصل التي أصبحت «العاصمة» غير الرسمية لتنظيم «دولة العراق الإسلامية»
TT

تتأنق بغداد لاستقبال الزعماء العرب هذا الأسبوع وتأكيد انتهاء الحرب، وأن العراق أصبح مفتوحا للاستثمارات. لكن أم قاسم، التي تقف حاملة مشترياتها بجوار حفرة امتلأت بالقمامة على مسافة من العاصمة تقطعها السيارة في 4 ساعات، لا ترى في هذا التأكيد إلا مزحة؛ ففي مدينتها، الموصل، البعيدة عن أعين الوفود الزائرة، ما زالت «القاعدة» تسيطر على الشوارع، بينما الناس من أمثالها يتهامسون بأحاديث عن الموت.

قالت أم قاسم، لوكالة «رويترز»، وهي تحاول التقاط أنفاسها، بينما تحمل حقيبتين كبيرتين من المواد الغذائية التي اشترتها من السوق: «قتلوا جاري منذ 3 أيام، ثم أرسلوا لأسرته رسالة تقول: نعتذر.. لم يكن ابنكم مستهدفا، وإنما قُتل بالخطأ».

وعندما يصل المرء إلى الموصل قادما من بغداد يشعر وكأن الزمن يرجع به إلى عام 2006 أو عام 2007 عندما انتشرت موجة عنف طائفي أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف. المؤشرات المألوفة التي اختفت من بغداد منذ فترة ما زالت ماثلة هنا، الجدران الخرسانية العالية المضادة للانفجارات وأكوام التراب المتناثرة في وسط الطريق لإبطاء المهاجمين الذين يأتون في عربات مسرعة والبنايات التي تركت الانفجارات آثارها على جدرانها. وتنتشر الأسلاك الشائكة في الشوارع كالحشائش النابتة، بينما تتكسر الشظايا الناجمة عن التفجيرات تحت الأقدام وتتراكم القمامة في ما يشبه التلال؛ لأن الحرب جعلت المهام المدنية الأساسية بالمدينة مثل تنظيف الشوارع من الرفاهيات الشديدة.

هذا ليس العراق الذي تتغنى حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي الآن بخروج القوات الأميركية منه وتدفق مليارات الدولارات من مبيعات النفط عليه. وقد أُنفقت مئات الملايين على تجديد وتحسين العاصمة قبل اجتماع القمة العربية هذا الأسبوع وطُليت علامات المرور على الطرق وزُرع النخيل على الفواصل بين الطرق السريعة. ويصف وزراء بغداد البنية التحتية المتهالكة للعراق بأنها فرصة للاستثمار ويقولون إن الانفجارات التي تقع من حين لآخر ليست سوى محاولات يائسة من جانب خلايا منعزلة تحاول إثبات أنها ما زالت بالساحة في بلد الغالبية العظمى فيه ملتزمة بالسلام.

لكن خلال زيارة استغرقت عدة أيام لثالثة كبريات المدن العراقية، رسم مسؤولون أمنيون وسكان صورة للموصل أسوأ كثيرا من تلك التي نقلها مسؤولون في بغداد؛ فالشعور بالقلق والخوف أبعد ما يكون عن «القاعدة» التي تسيطر هي وحلفاؤها على الحياة الاقتصادية والسياسية بالمدينة.

وتنتمي أسرة أم قاسم الشيعية، المكونة من 9 أشخاص، إلى أقلية الشبك، وهي واحدة من الأقليات الكثيرة التي تعيش في أكثر مدن العراق تنوعا من حيث الأعراق. واضطرت الأسرة لترك دارها والانتقال إلى غرفتين في منطقتين مختلفتين بالمدينة. قالت أم قاسم: «أجبروا الشبك كلها على النزوح من ديارهم إلى شرق الموصل. ومن يقاوم يقتلوه أو يفجروا بيته». وعندما بدأت الكلام جاء زوجها وقد بدا عليه الاضطراب وحذرها من ذكر اسمها الحقيقي وقال: «اعلمي أنهم يمكن أن يصلوا إلينا في أي وقت».

ويقول أصحاب متاجر إنهم يضطرون لدفع إتاوات لمتشددين. ويقول مسؤولون أمنيون إن المقاتلين المتشددين بالموصل يجمعون ملايين الدولارات شهريا ويستخدمونها في تمويل هجمات تفجيرية في أنحاء متفرقة بالعراق. وقال صيدلي كان يتحدث عندما تكون الصيدلية خالية من روادها ويصمت حين يدخل أحد: «يأتون كل 3 أشهر ليأخذوا 300 دولار، أي بما يعني 100 دولار كل شهر. يأتون دائما في التوقيت نفسه، لكنهم لا يرسلون الشخص نفسه». وأضاف: «إنهم منظمون جدا ومهذبون للغاية. لا يمكنني التخلص منهم. صاحب الصيدلية المجاورة رفض الدفع فزرعوا قنبلة داخل صيدليته وفقد أحد عماله ساقه».

والموصل هي العاصمة غير الرسمية لما يسمى «دولة العراق الإسلامية» التي تديرها «القاعدة» ويمتد نفوذها على مساحة في العراق تعرف باسم شبه الجزيرة، وهي البلدات المنتشرة بالبادية الخاوية بين نهري دجلة والفرات إلى الشمال من بغداد. وكما كان الحال في بغداد قبل 5 سنوات أصبحت الموصل مدينة من الأحياء المحصنة؛ فهناك «مناطق خضراء» خاضعة للحماية ولا يسمح بدخولها إلا لمن يحملون شارات أمنية خاصة.. أما بقية أنحاء المدينة فهي «المنطقة الحمراء». وتوجد البنايات الحكومية ومنازل كبار المسؤولين داخل المناطق الخضراء تحت حماية الجدران الخرسانية ونقاط التفتيش وحراس الأمن. أما في المنطقة الحمراء فيشعر المسؤولون بأنهم سجناء في مدينتهم مع غياب السيطرة على الشوارع.

وأعطى مسؤول أمني رفيع، طلب عدم الكشف عن هويته، تقييما يتعارض بشدة مع الخط الرسمي للدولة وقال: «الأمن مفقود تماما في الموصل. أنا ابن الموصل ولا يمكنني السير في المدينة. قوات الأمن لا تسيطر إلا على الشوارع الرئيسية». وأضاف: «أنام هنا في غرفة صغيرة، ولا يمكنني النوم في داري في حي الحدباء. وعندما أريد مغادرة هذا المبنى أحتاج إلى أكثر من 8 عربات مسلحة لحمايتي».

ومن الموصل يمتد نفوذ المتشددين حتى الحدود السورية وعبر محافظات نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى، التي تقع على الفرات، يمتد إلى محافظة الأنبار وحوض الفرات على أطراف بغداد، بينما كانت القوات الأميركية تسميه «مثلث الموت». والبادية بين نهري العراق الكبيرين ممتلئة بالكهوف والتلال والسهول الرملية والطرق والمسارات السرية التي يستخدمها البدو والمهربون. وتقول قوات الأمن إنها لا تملك العدد الكافي لتوفير الأمن في هذه المنطقة. وقال اللواء الركن مهدي الغراوي، قائد الشرطة الاتحادية في الموصل: «للأسف، الكثير من المناطق ليست تحت سيطرة الأجهزة الأمنية. إن وضع قوات في كل كيلومتر مستحيل».

ولأن هذه المنطقة تمتد عبر عدة محافظات، يستغل المسلحون غياب التنسيق بين قوات الأمن؛ إذ يكون بمقدورهم الاختباء في البعاج إلى الشمال الغربي من الموصل أو في القيارة إلى الجنوب من الموصل أو في الشرقاط شمال تكريت أو في الحويجة في الجنوب الغربي من كركوك، ليفلتوا من الملاحقة عبر حدود المحافظات. وقال الغراوي: «هذه مشكلة حقيقية بالنسبة لنا.. وهي وجوب الحصول على موافقات خاصة (تسمح) لأبي الموصل (قوات الموصل) أن ينفذ في صلاح الدين وأبي صلاح الدين أن ينفذ في كركوك». والاتصال ضعيف بين قوات الشرطة وقوات الجيش في المناطق المختلفة أو حتى بين الوحدات المختلفة في المنطقة الواحدة، مما يجعلها عرضة للاختراق.

والإتاوات التي يطلق عليها تعبير «الجزية» هي المصدر الرئيسي لتمويل المسلحين الذين ينفقون الملايين على السلاح والمنازل الآمنة والسيارات والرشا التي يدفعونها لشراء حرية قادتهم المسجونين. وفي الموصل وحدها يقول مسؤولو مخابرات إن المسلحين يجنون منها ما بين 6 و7 ملايين دولار شهريا.

ويتحدث مسؤولون عن قائمة الجزية ويقولون إنها تضم المتاجر والفنادق ومشغلي مولدات الكهرباء وسائقي شاحنات الوقود وتجار الإسمنت وسماسرة العقارات وشركات الاتصال.. والجميع يدفعون. وحتى المسؤولون أنفسهم يدفعون. وقال زهير الجلبي، رئيس لجنة إسناد أم الربيعين، التي شكلتها الحكومة المركزية لإدارة مشاريع إعادة الإعمار في الموصل: «الجزية، أقصد بها الإتاوات التي يدفعها الناس للجماعات المسلحة: الصاغة يدفعون.. الصيادلة يدفعون.. التجار يدفعون.. الأطباء يدفعون.. المقاولون يدفعون.. الكل يدفع، وهناك معلومات تؤكد أن مديري الدوائر يدفعون أيضا». وأضاف: «يدفعون الجزية لأنهم مضطرون. هناك تهديد وهناك قتل، أي واحد لا يدفع لن يبقى يوما على وجه الحياة».. وقال تاجر، طلب عدم الكشف عن هويته: «أنا أدفع للإمارة (القاعدة) بدلا من دفع الضرائب للحكومة. أدفع لهؤلاء الناس كي أحمي نفسي؛ لأن الشرطة لا تستطيع حمايتي».

ولا توجد في الموصل علامات تذكر على مشاريع إعادة الإعمار الاقتصادية التي تقيمها الحكومة في أماكن أخرى. ويصب هذا في مصلحة من يقومون بتجنيد متشددين. وقال ضابط كبير بالمخابرات العراقية يشرف على التحقيقات مع معتقلين من تنظيم القاعدة: «عادة يستقطبون الشاب العاطل الذي يمضي وقته في التسكع بالشوارع.. يدفعون له إيجار المسكن وراتب شهر ويمنحونه الهدايا بعد كل عملية يشارك فيها». وقال الشيخ محمود السبعاوي، قائد صحوة القيارة بالموصل: «ابن المدينة لا يستطيع الانخراط في الجيش أو يسكن داخل المدينة. أتحداه أن يسكن داخل المدينة. الشرطي لا يستطيع أن يسكن داخل المدينة وإلا يقتل».

وكثير من رجال الشرطة بالمنطقة من الشيعة وينتمون لمناطق بعيدة من البلاد، وهو ما يشعر أهالي المدينة بالغربة. وقال مصطفى، وكان يقف عند مدخل إحدى المناطق الخضراء بانتظار قريب ليرافقه إلى الداخل: «المالكي يرسل قوات شيعية إلى الموصل لإذلال السنة. يعلم أن الناس هنا لن يتعاونوا معها، وعلى الرغم من هذا يواصل إرسالها».

وقال علي رعد حسن، وهو متزوج وأب لثلاثة أبناء ومحبوس في سجن الغزلاني بالموصل لتوزيعه تسجيلات فيديو لتنظيم القاعدة، إنه عمل لحساب المتشددين بعد أن يئس من العثور على وظيفة ملائمة على الرغم من حصوله على شهادة في التجارة من جامعة الموصل. وقال حسن باكيا: «لديَّ أبناء وحفاظات وحليب، ومصروفاتي الشهرية تتجاوز 300 ألف دينار (نحو 250 دولارا)». وأضاف: «تقدمت للعمل بوظائف كثيرة، في التعليم والصحة والبلدية، ولم يصلني أي رد».. وعن عمله لحساب «القاعدة» قال: «أقسم بالله إنني نادم عليه، لكنني لم أستطع أن أترك العمل، أردت أن أتركه لكنني لم أستطع».