روايات لاجئين سوريين في تركيا والأردن.. حارس سجن ومغن ومعلمة وقائد لمظاهرات دمشق

نفوا وجود طائفية لدى المعارضة.. وقدموا شهادات عن أعمال القمع والقصف الذي تتعرض له مدنهم

أطفال سوريون في مخيم للاجئين على الحدود التركية - السورية (رويترز)
TT

هرب عشرات الآلاف من السوريين من العنف وحملات القمع إلى الدول المجاورة لسوريا، حيث أقاموا في خيام على الحدود. وفي التحقيق التالي الذي أجرته «الغارديان» يتحدث لاجئون سوريون عن الأخطار التي يواجهونها، وماذا يعني بالنسبة لهم ترك منازلهم.. وفي ما يلي رواياتهم.

* أبو علي (42 عاما) من عزمارين اضطر أبو علي (42 عاما) إلى مغادرة منزله في مدينة عزمارين، وهي مدينة صغيرة يقطنها 5.000 نسمة، على مقربة من الحدود، قبل ثمانية أشهر. يمتلك أبو علي في مدينته مساحات شاسعة من بساتين الزيتون ومزرعة يمكنه رؤيتها من فوق التلال على الجانب التركي، لكنه لا يستطيع الوصول إليها. وقال «لو عدت فسوف يقتلونني». كان أبو علي يعمل مغنيا في أعراس المدينة، لكنه بدأ قبل عام في استغلال موهبته في غناء الأغنيات المعادية للأسد، في مظاهرات حماه. كان ابناه يدرسان بالجامعة عندما فر بصحبتهما وزوجته إلى معسكر اللاجئين في تركيا. وتنهد قائلا «سوف أضطر إلى بيع أرضي». ولا يزال أبو علي على اتصال دائم عبر الهاتف مع أصدقائه من سكان عزمارين، فيقول «عطل الجيش السوري تغطية الهاتف الجوال، لكننا جميعا نستخدم شرائح اتصالات تركية (توركسيل) التي تغطي 10 كيلومترات عبر الحدود، بارك الله فيهم». وأشار أبو علي إلى أنهم يقومون خلال الليل بعبور النهر لتهريب الغذاء والمؤن الطبية إلى سوريا، وأن الأفراد يصلون إلى تركيا عبر هذا الطريق أيضا. وأضاف «أنا أساعدهم في ذلك قدر الإمكان، فهم جميعا أبناء بلدي».

للوصول إلى النهر ينبغي عليك أن تخوض في أوحال تصل إلى الركبة، ناهيك عن نقطة للشرطة العسكرية في هاسيباسا، لكن مجموعة من الكلاب فقط هي التي تلاحظ اقتراب الأفراد من الحدود، المحددة فقط بالنهر. على الجانب السوري من النهر أشعل بعض الأشخاص النار. وعلى الرغم من الطقس الربيعي المعتدل، كان الماء لا يزال باردا للغاية، فكان الشباب يتبادلون الأدوار في الغوص، في الوقت الذي يحصل فيه الآخرون على التدفئة. وعندما شاهدوا أبو علي على الجانب التركي سبحوا إلى الجانب الآخر لتحيته. وهم يجلسون القرفصاء على الطين، لا يرتدون سوى سراويل داخلية بيضاء، يروون كيف مات صديقهم.

غرق صديقهم عمر شيخ محمد في العشرين من مارس (آذار) أثناء هروبه من الجيش السوري الذي أحاط بمدينة عزمارين، وقال أحدهم، يدعي نضال، وهو يرتجف «كانت السماء مظلمة وكان الماء بالغ البرودة. وكان محمد مطلوبا من قبل الجيش السوري لأنه شارك في المسيرات المناوئة للأسد، لذا فقد أصابه الرعب وقفز في الماء للوصول إلى تركيا. لكنه لم يكن يجيد السباحة، لأنه كان مرتديا ثيابه كاملة، فقد غرق ولم نتمكن من إنقاذه».

يقول أبو علي إنهم الآن يغوصون بحثا عن جثمان الشاب، ويقول نضال غاضبا لعدم شعور أحد بالمسؤولية «إن والديه يستحقان جنازة على الأقل. سألنا السلطات التركية لكنهم قالوا إن علينا العودة في اليوم التالي. وعندما سألنا السوريين قالوا (دعوه يتحول إلى طعام للأسماك)، ونحن الآن نحاول العثور على جثمانه بأنفسنا، ونخاطر بالغرق كما فعل هو».

* محمد (34 عاما) من إدلب عمل محمد (34 عاما) حارسا في سجن إدلب المركزي لمدة 11 عاما، ويقول «لم أفكر على الإطلاق في الانشقاق حتى العام الماضي». حضر محمد إلى تركيا في ديسمبر (كانون الأول) 2011 بعد الاختباء في الجبال لستة أسابيع. وفي يناير (كانون الثاني) من عام 2012 عاد إلى سوريا للانضمام إلى قوات الجيش السوري الحر، لكنهم عندما تعرضوا للهجوم من قبل قوات الجيش الحكومي فر إلى تركيا مرة أخرى، بملابسه فقط. ونظرا لأن والديه وابنه البالغ من العمر عامين لا يزالون في سوريا فقد طلب عدم ذكر اسمه.

يرى محمد أن الانضمام إلى المقاومة المسلحة كان الرد المتوقع على ما شهده خلال عمله حارسا للسجن. فقال «في أبريل (نيسان) كانت هناك مظاهرات في إدلب، اعتقل خلالها نحو 320 شخصا تم الزج بهم في السجن». وأشار إلى أن هؤلاء المعتقلين تلقوا استقبالا لدى وصولهم إلى السجن المركزي. فعلى طول الـ700 متر التي تفصل بين المبنى والبوابة الرئيسية تعرض المعتقلون للضرب بالعصي، والكابلات الكهربائية وخراطيم المياه». وأكد على أنه لم يشارك «في عمليات الضرب لأنهم جميعا كانوا من سكان إدلب. فكيف يمكنني أن أضربهم؟».

خلال الأسابيع والشهور التالية، شهد محمد عمليات التعذيب والانتهاكات التي تجري داخل السجون، من الضرب والضغط والصعق بالكهرباء. وأشعل سيجارة أخرى وسحب نفسا عميقا، ثم أردف «فقد أحدهم عينه من شدة الضرب. وإذا ما رفض السجناء القول (زعيمنا بشار) يجلسونهم عراة على زجاجات».

قبل أسبوعين نشرت منظمة العفو الدولية تقريرا يتضمن أساليب التعذيب المنهجي في السجون السورية. وأشار محمد إلى أن العنف كان يوجه ضد قوات الشرطة أيضا إذا ما تجاوزت هذا الخط. وأضاف محمد «حضر أحد الأشخاص إلى السجن للسؤال عما إذا كان ابنه قد اعتقل وأحضر إلى هنا. وبسبب أنني أجبته كانت تلك مشكلة بالنسبة لي، فقد تعرضت للتوبيخ، وسجنت في سجن المعتقلين السياسيين في إدلب ليومين، وتعرضت للضرب هناك. كل ذلك كان لأنني قلت للرجل إن ابنه كان في السجن».

في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2011 صدر أمر اعتقال بحق محمد، لأن قريبا له شارك في المعارضة المسلحة، لذا قرر الفرار للاختباء في الجبال المحيطة بالمدينة، وفي النهاية دخل تركيا في ديسمبر. وعندما انضم إلى الجيش السوري في يناير شهد العمليات العسكرية في إدلب في منتصف مارس. وقال «كانوا يهاجموننا بالدبابات، وأجلوا الناس من منازلهم وأحرقوا كل ممتلكاتهم، وأحرقوا منازل أعضاء المقاومة، وقتل الكثير من الأهالي».

وأضاف «الحمد لله أن السماء كانت تمطر، فلم تتمكن قذائفهم من الوصول إلى مدى بعيد. بهذه الطريقة تمكنا من إنقاذ عدة مئات من القتل». وعلى الرغم من إنكاره أي تحيز طائفي من جانب قوات المعارضة، فإنه من الواضح أنه يمتلئ بالمرارة بشأن مكانة وظيفته، فقال «في الوقت الذي كان ينبغي أن أحصل فيه على ترقية بعد عامين تطلب ذلك أربع سنوات حتى يتم ذلك»، ويبدي محمد اقتناعا كبيرا بأن ذلك إنما يعود لأنه سني. فقال «إنهم يضطهدون السنة في الوقت الذي يحصل فيه العلويون على كل الوظائف الجيدة». يرغب محمد، الذي يقيم الآن في معسكر اللاجئين في تركيا، في العودة إلى سوريا بأسرع وقت ممكن، لأنه يتملكه إحساس قوي بأن «أحدا ما لا بد له من القيام بشيء. فالكثير في سوريا يعيشون في حالة من الفقر. و40 عاما وقت طويل للغاية بالنسبة لأي حكومة».

* رجوى (25 عاما) من جسر الشغور عاد الربيع متأخرا إلى مدينة هاتاي التركية هذا العام، فقد كان هذا هو الأسبوع الأول منذ شهور الذي تتوقف فيه الأمطار. في الحادية عشرة صباحا كان الجو حارا خانقا داخل الخيام في معسكر ألتينوزو للاجئين، على الجانب التركي، لكن الأطفال في الخيام المدرسية، حيث يلتزم المعلمون الأتراك الذين يتحدثون العربية المنهج التركي، يتابعون الدرس بجد.

تزور رجوى (25 عاما) ابنيها، في الرابعة والخامسة من العمر، في الخيمة التي خصصت كروضة أطفال، حيث يتجمع 20 طفلا حول طاولات منخفضة يرسمون ويلونون أو يلعبون بالصلصال. ويعض ابنها الأصغر على شفتيه مركزا أثناء الانهماك في كتاب التلوين. يضم مخيم ألتينوزو 2.000 شخص من بين 17.000 شخص عبروا الحدود السورية، بحسب صوفي آتان، منسق المخيم بوزارة الخارجية التركية.

وصلت رجوى إلى تركيا للمرة الأولى قبل شهرين، وتقول «مكثنا هنا قليلا، ثم عدنا إلى سوريا مرة أخرى. لكن لأن الأوضاع لم تتطور في سوريا عدنا إلى تركيا مرة أخرى قبل شهر. ونحن هنا الآن ننتظر». تتوق رجوى إلى العودة إلى منزلها في جسر الشغور، على الرغم من أنها غير متأكدة مما إذا كان المنزل لا يزال قائما، أم لا. وقالت «سمعت أن نصف منزلنا تحطم، وأن جيراني فقدوا منازلهم، وأن الكثيرين لقوا حتفهم».

وعلى الرغم من أن رجوى لا تشعر بالألفة في ألتينوزو، يحاول آخرون التأقلم مع الظروف قدر الإمكان. فصبيحة، جارة رجوى في المخيم، ذات الأحد والعشرين عاما، والتي تقيم في المخيم منذ 10 أشهر، التقت شريك حياتها هنا. وعلى بعد أمتار قليلة من خيمة رجوى أنشأ شاب يبلغ من العمر 25 عاما من جسر الشغور قفصا لحمائمه الثلاثين التي جلبها معه في أقفاص خلال فراره من سوريا.

بعض الناس هنا أنشأوا مشروعات شبه شرعية للتعيش منها. فهناك خيمتان تبيعان الأغراض وأخرى كمخبز - كتب على الخيمة «مخبز الثورة» - حيث يقول الخبازان إنهما يبيعان الخبز بالأسعار السورية. زوج رجوى ناشط في المعارضة المسلحة، وبمساعدته ومساعدة بعض معارفه تمكنوا من عبور الجبال دون أذى للوصول إلى تركيا. وأوضحت أن الجميع لم يكونوا بمثل حظها، فقالت «كان الكثيرون يرغبون في الحضور إلى هنا، لكنهم خائفون. فالجند يسيطرون على الطرق، التي أصبحت خطرة». أما زوجها الذي يعيش لاجئا في مخيم ألتينوزو، فعادة ما يعبر إلى الجانب السوري لنقل المؤن، وحماية اللاجئين إلى تركيا. فتقول «زوجي مطلوب في سوريا، لكنه لا ينفك عن دخول الأراضي السورية. وفي كل مرة يتركنا أخشى ألا نراه مرة أخرى. نحن نحارب كثيرا. أنا أود منه ألا يذهب إلى هناك، لكنه لا ينصت إلي».

وعلى الرغم من اعترافها بأن السلطات التركية تهتم لأمرهم في معسكر اللاجئين، فإنها غير سعيدة هنا. فتقول «أنا أدعو الله كل يوم أن تنتهي هذه الحرب سريعا، حتى نتمكن من العودة سريعا».

* سلوى من اللاذقية جدران الغرفة عارية إلا من علم سوري تم تجميعه من قصاصات أقمشة وشجرة كريسماس مزخرفة مصنوعة من ورق الكريب. وتقول ريم (17 عاما) ضاحكة «أردت شجرة كريسماس، لذا صنعت واحدة. تحتفل العائلة بكل المناسبات سواء كانت عيد الأضحى أو أعياد الكريسماس». وهي شابة فارعة شعرها طويل، تعمل والدتها سلوى طبيبة نفسية وكانت لديها عيادة خاصة في اللاذقية قبل أن تقرر ابنتاها المراهقتان التنازل عن الشقة التي يستأجرنها وبيع كل ما يملكن والذهاب إلى تركيا في يونيو (حزيران) 2011. وتقول «كانت الأمور تزداد صعوبة وبدأت أخشى على أسرتي». ودخلت كل من سلوى وابنتيها ريم وإسراء (19 عاما) تركيا من المعبر الحدودي الشرعي لامتلاكهن جوازات سفر، حيث أعفت تركيا السوريين من شروط الحصول على تأشيرة دخول تركيا عام 2009، لكن انتهت صلاحية جوازات سفرهن. وتقول سلوى وهي تشعل سيجارة «لا نريد أن نلفت الانتباه هنا. إذا وجدتنا السلطات التركية، فسوف ترحلنا إلى أحد معسكرات اللاجئين». كانت ريم في السنة النهائية من المرحلة الثانوية وقت مغادرتها للبلاد. وتقول «لقد كنت أود الالتحاق بالجامعة ودراسة علم النفس مثل أمي. إن هذا صعب للغاية هنا، لأنني لا أتحدث التركية. ولم أستطع العثور على وظيفة. نحن لا نريد شفقة أو مساعدة من أحد. أريد أن أعمل، لكن لا أحد يرغب في توظيفي».

وأوضحت منظمة العفو الدولية مرارا وتكرارا أن تركيا لا تزال ترفض منح مواطني الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اللجوء، مما يحرم أمثال سلوى وإسراء وريم، الفارين من منطقة صراع، من الوجود في البلاد بشكل قانوني. وتقول ريم «من حقنا أن نعمل أو ندرس أو ندير مشروعنا الخاص. لم يكن بمقدورنا القيام بأي شيء لمدة عام تقريبا». ولا يحظون بنظام رعاية صحية مجاني مثلهم مثل اللاجئين السوريين الآخرين الذين لا يفضلون الإقامة في معسكرات اللاجئين.

منذ أربعة أشهر وجدت إسراء وظيفة في مطعم تعمل فيه لمدة عشر ساعات طوال أيام الأسبوع حتى توفر المال اللازم لمعيشة أسرتها. وتقول ريم «نقضي أنا وأمي جل وقتنا في المنزل، ونتصفح مواقع الإنترنت ونتابع أخبار ما يحدث في سوريا على شاشة التلفزيون». وتقدم سلوى، التي كانت تقيم في حي أغلب سكانه من العلويين في أنطاكية، نفسها وابنتيها كفلسطينيات كإجراء احترازي. وتقول «كان جيراننا في شقتنا القديمة يعلمون أننا سوريون، وفحصت الشرطة أوراقنا مرتين». وتضيف ريم «دائما ما يسألنا الناس في تركيا عما إذا كنا سنة أم علويين. لم أعد أجيب عن هذا السؤال لأنني أقلق من رد فعلهم إذا علموا أنني من السنة. لم يعد أحد يطرح هذا السؤال في سوريا». وتخشى ريم من انزلاق بلدها إلى مستنقع من الحرب الأهلية قريبا. وتضيف «يبدو أن الناس لم يعودوا يهتمون سوى بالطائفة التي ينتمون إليها».

* أم الدين من درعا تعمل أم الدين معلمة وأم لأربعة أبناء. وتركت منزلها في درعا بعد أن تلقت تهديدات بالقتل ووصلت إلى الأردن في منتصف شهر مارس. ألقى نظام الأسد القبض على زوجها في ديسمبر، لكنها تقول إن التهديدات بدأت العام الماضي، حيث توضح قائلة «في شهر يوليو (تموز) من العام الماضي، وجدنا قوات الأمن التابعة لنظام الأسد أمام باب منزلنا. نظرت من النافذة ورأيت عددا هائلا من الرجال المسلحين يرتدون ملابس سوداء. تبين أنهم لم يكونوا جنودا، بل كانوا شبيحة (موالين للأسد). لقد كانوا يدقون على الباب بعنف دفعني إلى فتح الباب فورا، فاندفعوا نحو الداخل وسألوني عن مكان زوجي، فأخبرتهم بأنني لا أعلم، وكنت صادقة، لكنهم نعتوني بالكاذبة. وبدأوا يمزقون الستائر ويحطمون الأثاث». ونصحها أحد الضباط بعد مغادرتهم بإحكام إغلاق المنزل عليها وعدم فتح الباب لأي شخص مرة أخرى. وتستطرد قائلة «بعد ذلك بفترة قصيرة، اتصل بي زوجي وأخبرني بعدم استقبال أي مكالمة ترد من هذا الرقم مرة أخرى. وأثار هذا في نفسي الخوف». وتم إلقاء القبض على زوجها في ديسمبر ولا تعلم عنه أي شيء منذ ذلك الحين.

قررت أم الدين مغادرة منزلها بعدما اجتاحت الدبابات المدينة في وقت متأخر من شهر فبراير (شباط) الماضي. وقالت «تم ذبح العديد من الناس، ومروا عليهم بالدبابات. وعندما كنت في طريق العودة من المدرسة إلى منزل والدتي في ذلك اليوم كانت الدماء تجري في الشوارع. وعندما وصلت للمنزل كان قد تم تدمير أو سرقة كل شيء، وكان من المستحيل البقاء هناك. وطلب مني جيراني أن أعود وأرى منزلي، وقد ذهبت بالفعل للحصول على بعض الأشياء، لكني لم أجد أي شيء، كما لم يكن أمامي سوى الهروب إلى الأردن».

وفي إحدى الليالي الباردة سافرت أم الدين هي وأربع أو خمس عائلات، بما في ذلك الأطفال والنساء، من دون أن يأخذوا معهم أي شيء. وعن ذلك تقول أم الدين «مشينا عبر الحقول، وما إن وصلنا إلى حدود درعا، حتى أخبرنا الشباب بأنه يتعين علينا السير خلال الكيلومتر المقبل نحو الحدود في صمت تام. وعندما سألت عن السبب وراء ذلك، لا سيما أننا نصطحب بعض الأطفال، قيل لنا إن أعالي الجبال تكتظ بالجنود التابعين للنظام، ولو سمعوا أي صوت فسوف يطلقون النار بشكل فوري، وهو ما قد يعرضنا جميعا للقتل. واعتقدنا أننا سوف نلقى حتفنا، ورفضنا التوقف لأخذ قسط من الراحة. وساعدني الشباب في حمل أطفالي، وكان يتعين علينا عبور الجبل، ثم وصلنا إلى سور من الأسلاك الشائكة، وكنت أحمل اثنين من أطفالي الصغار، في حين كان الطفلان الآخران يسيران أمامي. ولم يتمكن الطفلان من عبور السلك الشائك، وكانا خائفين من أن يناديا علي لمساعدتهما. وعندما عبرت السلك الشائك لم أتمكن من العثور عليهما، ولذا عدت مرة أخرى إلى الأراضي السورية للبحث عنهما، وكانا يناديان علي بصوت خافت ويقولان «أماه، ساعدينا، لقد وقعنا في الأسلاك». ووجدتهما في نهاية المطاف وخلصتهما مما كانا فيه بأقصى سرعة ممكنة، ثم عدت لحمل الطفلين الأصغر، وطلبت من الطفلين الآخرين أن يمسكا بثوبي حتى لا أفقدهما مرة أخرى».

وكان الجنود الأردنيون في انتظارهم، وتقول أم الدين «سألني نجلي، وهو في الثالثة والنصف من عمره، قائلا: لماذا يعطينا هؤلاء الجنود الشاي، في حين أن الجنود في المنزل يقتلون الناس؟.. وأجبته عليه قائلة: لأنها سوريا». وأضافت أم الدين «لم يذهب أولادي للمدرسة لمدة عام كامل، ولم يتمكنوا من اللعب في الشارع لمدة عام كامل. وفي درعا، كانوا يشعرون بحالة من الذعر طوال الوقت. إنني أعتزم بداية حياة جديدة هنا، كما أعتزم محو الاثنين وثلاثين عاما التي عشتها من حياتي، ونسيان أي شيء حدث فيها. إنني أصلي وأدعو الله أن أرى زوجي مرة أخرى، كما أدعو له ولكل المعتقلين».

* أبو شادي (40 عاما) من دمشق هناك أيضا أبو شادي، وهو متزوج من ثلاث سيدات وكان يعمل في وزارة الري والمياه السورية في دمشق، وقيل إنه وشقيقه كانا يقودان الاحتجاجات في ضاحية على مشارف العاصمة السورية دمشق. ونتيجة لهذا النشاط أصبح أبو شادي أحد المطلوبين للحكومة السورية، وهرب إلى الأردن في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، ويعيش الآن في عمان مع شقيقه الأكبر.

ويقول أبو شادي «في مساء أحد الأيام كنت أنا وشقيقي نشاهد الأخبار التي كانت تتحدث عما حدث في تونس وفي مصر، وقال المعلقون إن سوريا ستكون البلد القادم لتلك الاحتجاجات. ونظرنا لبعضنا بعضا وقلنا: لماذا لم نقم بذلك؟». وقال أبو شادي إنه لم يكن يجرؤ، قبل الثورة السورية، أن يتحدث في الأمور السياسية، حتى مع شقيقه، لكن الثورة في تونس وفي مصر قد غيرت ذلك. وأضاف «لقد نجحت الثورة في مصر وتونس في إسقاط الحكومات هناك في غضون أسابيع قليلة، واعتقدت أن الأمر سيستغرق عندنا 20 يوما، وكان هذا تصورنا في البداية، لكننا وصلنا لمرحلة يقومون فيها بقتل الأطفال الصغار».

في البداية، لم يكن الأمر يتعدى مجرد الكتابة على الجدران، ثم نجحت أول مسيرة في جذب بضع عشرات من الأشخاص، لكنها كانت مثل «أحجار الدومينو»، على حسب تعبير أبو شادي، الذي أضاف «شهدت الجمعة التالية مسيرة من 2.000 شخص، وكنا نصرخ وكانوا يردون بإطلاق النار، وكانوا يشعرون بالخوف على الرغم من أنه لم تكن لدينا أي أسلحة».

والآن تحيط الفرقتين الثالثة والرابعة بتلك المدينة التي كان يعيش فيها نحو 23.000 شخص، لكنها «أصبحت الآن خاوية على عروشها ولم يعد هناك سوى الأطفال والعجائز، بعدما هرب الآخرون». وقد هرب أبو شادي في شهر أكتوبر، ولحق به بقية أفراد عائلته. ويقول أبو شادي «أتيت إلى هنا بالطرق الشرعية. وعلى الرغم من أنني بعيد عن سوريا، فإنها لم تغب عن ذهني لحظة واحدة، ولا أستطيع العيش من دون سوريا. وسوف نعود إليها لا محالة، إن شاء الله. كل ممتلكاتنا، وكل شيء، هناك في سوريا، ولذا سوف أعيش هنا لمدة شهر أو شهرين ثم أعود مرة أخرى. كنت ناشطا قبل الثورة، وما زلت ناشطا هنا في الأردن، وأقوم بكل ما أستطيع القيام به لتقديم المساعدة. إنني أقوم بأشياء عديدة، لكني لا أريد أن أتحدث عنها الآن، لأنه ليس من الضروري الحديث عنها». واختتم أبو شادي حديثه قائلا «إنني أريد حكومة منتخبة من قبل الشعب، حكومة ديمقراطية وعادلة. ويجب تقديم كل الذين شاركوا في عمليات التعذيب إلى المحاكمة، لأن هذا هو العدل».

* باتفاق خاص مع «الغارديان»

* تم تغيير بعض الأسماء بناء على طلب ممن أجريت معهم المقابلات الشخصية