جدل حول كيفية التعامل مع متهمين يتعمدون ازدراء قضاة لاهاي

صربي مخاطبا القضاة حول استغلاله لثغرات قانونية: أنا هنا لتحطيمكم وأعيش أفضل لحظات حياتي

TT

قام السياسي الصربي فويسلاف سيسيلي بتوبيخ القضاة مرارا خلال الأعوام الـ9 التي أعقبت وصوله إلى لاهاي، بينما يتفاخر باستفزاز المدعين ومحاولة خداعهم. وفي أثناء إحدى الجلسات التي عقدت في الآونة الأخيرة ضمن محاكمته على جرائم الحرب التي ارتكبها، حاول سيسيلي مجددا القيام بتلك التصرفات لخداع هيئة المحكمة. وأصر سيسيلي، خلال قيامه بدحض الاتهامات الموجهة إليه بالتحريض على العنف العرقي، على أن الخطابات المثيرة لم تكن بالأمر الجديد. وبدأ سيسيلي في الاستشهاد بكلمات إحدى الأغاني المفضلة لديه، وقال بصوت رنان بعض الأبيات الشعرية التي تقول: «إلى السلاح، أيها المواطنون! شكلوا صفوفكم!.. وليتشبع تراب أرضنا من دمائهم القذرة!».

واستدار سيسيلي بعد ذلك إلى رئيس المحكمة الفرنسي جان كلود أنتونيتي وقال له بسعادة كبيرة: «أنا واثق أنك تعرف تلك الأبيات، إنه النشيد الوطني لفرنسا».

وتم السماح لسيسيلي، المعروف بانفعاله الشديد وذكائه الحاد، بذكر تلك الكلمات في المحكمة، حيث إنه يقوم بالدفاع عن نفسه من دون محام. واستخدم سيسيلي موقعه، طيلة فترة المحاكمة، في تكييل الإهانات لمسؤولي المحكمة ومهاجمة خصومه السياسيين في بلاده وتعطيل الإجراءات عن طريق بعض المطالب الاستثنائية. وتعتبر هذه القضية، التي دخلت عامها الخامس، الأطول من بين القضايا المعروضة على المحكمة لمحاكمة المشتبه بهم بارتكاب أعمال وحشية خلال فترة الحروب اليوغسلافية في التسعينات من القرن الماضي.

وتمت محاكمة الكثير من المتهمين المعروفين بالعنف أمام تلك المحكمة وغيرها من المحاكم الدولية الأخرى، وكان من بين هؤلاء الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش، الذي وافته المنية إثر أزمة قلبية عام 2006 قبل انتهاء المحاكمة. وأثارت محاكمة سيسيلي الطويلة جدلا كبيرا حول التغاضي عن مثل تلك السلوكيات السيئة التي تصدر عن المتهمين خلال المحاكمة قبل أن يتم تغيير قواعد المحاكمة.

وفي الوقت الذي يتسع فيه نطاق العدالة الجنائية الدولية ويتم إصدار مذكرات توقيف بشأن بعض المشتبه بهم من ذوي المناصب العليا، أصبح من المرجح أن تتم محاكمة المزيد من القادة العسكريين والزعماء السياسيين الذين لديهم ميول درامية ومعتادين على سلوك مثل تلك الطرق.

وينتظر رئيس ساحل العاج السابق لوران غبابغو المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، بينما لا تزال هناك مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير. ومن المقرر صدور حكم ضد الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور خلال الشهر الجاري، ومن المتوقع بدء محاكمة الجنرال راتكو ملاديتش، القائد العسكري السابق لصرب البوسنة، في مايو (أيار) القادم.

ويؤكد المحامون والأكاديميون أن القضاة الدوليون كانوا متساهلين نوعا ما حتى الآن في محاولة لدفع المحاكمة إلى الأمام والإبقاء على التزام المتهمين بإجراءات المحاكمة. وقام تايلور، على سبيل المثال، بمقاطعة جلسات محاكمته في البداية حتى حصل على فريق المحامين والمساعدين القانونيين المميزين الذي طالب به، بينما دخل سيسيلي في إضراب عن الطعام عندما قام القضاة بفرض محام احتياطي لوضع حد للمهاترات التي يقولها. وبعد 4 أسابيع من عدم تناول أي طعام أو دواء، أخبر قضاة الاستئناف سيسيلي، الذي كانت قد خارت قواه، بأنه يمكنه الاستمرار في الدفاع عن نفسه. وفي كلتا الحالتين، أدى رضوخ المحكمة أمام هذا الابتزاز إلى إثارة نوع من اللغط.

ومع ذلك، فإن السؤال الذي يثار باستمرار بين القضاة والمحامين هو كيفية تعديل تلك الإجراءات للحد من تلك المزايدات وأعمال البلطجة، مع المحافظة على معايير العدالة في نفس الوقت. وفي الحقيقة، تختلف الإجابات على هذا السؤال بصورة كبيرة.

وبناء على القواعد المعمول بها في المحاكمات المؤقتة وفي المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، والتي تم إقرارها في العقدين الماضيين، يعتبر حق الفرد في تمثيل نفسه في المحاكمة أحد الحقوق الرئيسية، رغم عدم سماح الكثير من الدول بمثل هذا الحق في أنظمتها القضائية. ورغم ذلك، يمكن تقييد أو تعليق هذا الحق في حال رفض المتهم التعاون أو استمراره في عرقلة المحاكمة. ويصر غيديون بواس، كبير المستشارين القانونيين للقضاة الذين قاموا بمحاكمة ميلوسيفيتش، على ضرورة تشديد تلك القواعد. وفي كتابه «محاكمة ميلوسيفيتش»، كتب بواس قائلا: إن الدروس المستفادة من قضية ميلوسيفيتش ومحاكمة سيسيلي تؤكد أن تلك الإجراءات «هي ببساطة شديدة التعقيد والصعوبة لدرجة أن هناك احتمالا كبيرا للغاية بحدوث تلاعب أو تشويش أو تأخير أو ظلم في نهاية المطاف».

ويختلف غوران سلوتير، وهو قاض وأستاذ القانون الدولي في هولندا، مع هذا الرأي، حيث يقول: «إن إدارة المحاكمات والسيطرة عليها أمر متروك للقضاة، ورغم أن البعض لم يتفهم بعد تلك القواعد، فإنه لا يمكن لأحد أن يمنع المتهمين من تمثيل أنفسهم في المحاكمات». ويؤكد سلويتر أنه من المرجح أن العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، والذي صدرت بحقه مذكرة توقيف من قبل المحكمة الجنائية الدولية قبل مقتله في أكتوبر (تشرين الأول) كان سيرغب في الدفاع عن نفسه من دون أي محام. ويضيف سلوتير: «كانت تلك القضية ستصبح حالة مثيرة للغاية فيما يخص تمثيل المتهم لنفسه أمام المحاكم، ولكننا لن نشاهد تلك القضية أبدا».

ودعا خبراء إلى التوصل إلى حل جذري لتلك المسألة، فقال جيفري روبرتسون، وهو قاض دولي سابق ومحامي دفاع يقيم في لندن، إنه ربما قد حان الوقت للابتعاد عن النظام الأنجلو - أميركي الذي تعتمد عليه كثير من قواعد العدالة الجنائية الدولية. وقال روبرتسون: «قد يكون القانون المدني أكثر ملاءمة من القانون العام فيما يتعلق بمحاكمات جرائم الحرب المعقدة»، حيث إن القانون المدني لا يعتمد على تعاون المتهم. ويعطي القانون المدني دورا أكبر للقضاة، الذين يفحصون الأدلة ويقدمون استنتاجاتهم والتي يستطيع الدفاع تقديم الطعون عليها.

وقد أثار بعض المتهمين الاستياء بصورة أكبر من سيسيلي. وكان أكثر تصرفات سيسيلي سوءا، من وجهة نظر المحكمة، إصراره على استخدام موقع الإنترنت الخاص به بصورة مستمرة، والذي تتم إدارته من بلغراد، لطباعة الوثاق السرية الخاصة بالمحكمة وكشف أسماء الشهود المحميين. ويقول المدعون إن تصرفات سيسيلي أدت إلى قيام 10 من الشهود المهمين على الأقل بالانسحاب أو تغيير شهاداتهم.

وتمت إدانة سيسيلي مرتين بازدراء المحكمة، ويتم محاكمته مرة ثالثة بنفس التهمة، ولكن لم يؤد ذلك إلى حدوث أي تغيير يذكر، حيث إنه بمجرد إغلاق هذا الموقع في بلد ما، يظهر في مكان آخر. ونجح سيسيلي، الذي يتحدث في المحكمة باعتباره متهما ومحاميا في نفس الوقت، في توضيح موقفه بصورة كبيرة، حيث أكد مرارا وتكرارا منذ قيامه بتسليم نفسه للمحكمة عام 2003 أنه يستخدم المحكمة كمرحلة سياسية، لأنها كانت «رغم كل شيء محكمة سياسية» أسسها الغرب لمعاقبة صربيا. ويقول سيسيلي: «لذا، فإن السبيل الوحيد للتصدي لتلك المحكمة هو عن طريق الخطابات السياسية التي تعتبر أكثر ذكاء من تلك المحكمة».

وتمت إدانة سيسيلي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، حيث تحمله لائحة الاتهام المسؤولية عن بعض الجرائم مثل القتل والاغتصاب والنهب التي ارتكبتها عصابات القوات الصربية غير النظامية التي قام بحشدها عام 1991 للحرب في كرواتيا والبوسنة. ومن المتوقع أن يصدر قرار المحكمة خلال العام الجاري.

ولم يقم سيسيلي بطلب أي شهود دفاع، ولكن في الوقت الذي انتهت فيه محاكمته الشهر الماضي، ألقى سيسيلي خطابا استمر لمدة 10 ساعات على مدار 3 أيام، مع التركيز بصورة واضحة على الانتخابات الصربية التي ستجرى في مايو المقبل. ولا يزال سيسيلي يشغل منصب زعيم الحزب الراديكالي الصربي اليميني المتطرف الذي يحظى بنفوذ كبير. ويتباهى سيسيلي قائلا: «أنا أحتقر تلك المحكمة. أنا هنا لتحطيمكم. قد يؤثر هذا الأمر علي من الناحية الجسمانية، ولكني أستمتع به، حيث إنني أعيش أفضل لحظات حياتي».

* خدمة «نيويورك تايمز»