بولندا: تزايد الحنين إلى الماضي

الحداثة اجتاحت العاصمة بعد سقوط الشيوعية

مقاهي وارسو تحرص على اختيار ديكورات بسيطة تذكر زوارها بالماضي (نيويورك تايمز)
TT

مرتدين قمصانا بيضاء وأربطة عنق سوداء فراشية الشكل، لا يتوقف الندل عن تقديم المشروبات التي يتبعها أطباق مليئة بالرنجة الموضوعة في الزيت، والنقانق المدخنة في بعض الأحيان، والتي تقدم على أطباق بيضاء صغيرة.. ولولا حقائب اليد ذات التصميمات الحديثة وأجهزة «آي فون» التي تنتشر في كل مكان، لربما اعتقد البعض أننا رجعنا بالزمن عبر «كبسولة الزمن»، حينما كانت بولندا تقبع خلف الستار الحديدي، حيث انتشرت الحانات الصغيرة، مثل هذه الحانة.

كان البولنديون، في تلك الفترة الزمنية، يدافعون بغيرة شديدة عن ثقافتهم وتراثهم وأطباقهم الشهية المبهجة ضد القبضة الشيوعية التي كادت تخنقهم. وعقب سقوط الشيوعية في عام 1989، اجتاحت موجة الحداثة الغربية العاصمة البولندية عن طريق انتشار مطاعم الوجبات السريعة والأطعمة الآسيوية.

واليوم، تحول البولنديون، الذين باتوا يشعرون بالمزيد من الثقة في أنفسهم، من النقيض إلى النقيض، حيث بدأوا في إحياء تقاليدهم القديمة بدلا من الإسراع بتبني أحدث الاتجاهات الأجنبية.

تم افتتاح هذه الحانة التي تعج بالزبائن في شهر يناير (كانون الثاني)، وهي واحدة من سلسلة جديدة من الحانات تدعى «زاكاسكاس» والتي تنتشر في جميع أنحاء وارسو وتتبنى إعادة إحياء تلك النزعة من الكبرياء من جديد، حيث تحاول تلك المنشآت الجديدة إعادة إحياء أجواء الحقبة السوفياتية عن طريق تعمد استخدام الديكورات المتهالكة والقليل من الأثاث، أو عدم استخدام أي أثاث، وتقديم العروض الرخيصة.

يقول عالم الاجتماع توماسز سزلينداك: «كان ينظر لكل الأشياء المرتبطة بالعادات البولندية على أنها تافهة وفظة، وهو مؤشر على الخلفية الاقتصادية والاجتماعية المتدنية المزعومة للبولنديين، لذلك، حاول الناس إعادة تشكيل هذا العالم من جديد استنادا إلى مسلسل (السلالة الحاكمة)، وهو مسلسل أميركي قديم كان يذاع في وقت ذروة المشاهدة. بدأ البولنديون في استهلاك السوشي بأعلى معدلات استهلاك في العالم خارج اليابان، معتقدين أن هذا سيكون بمثابة إشارة على وصولهم بالفعل إلى الطريق الصحيح وأيضا على انتهاء حالة الركود التي صاحبت الحقبة الشيوعية، وتلك كانت بمثابة نكتة».

تقول إيزابيلا سكايبا، 23 عاما، بينما كانت تتناول طبق الرنجة الموضوعة في الزيت بنهم كبير، في إحدى الحانات الصغيرة: «لا يزال هؤلاء الناس يتناولون الرنجة الرديئة في منازلهم، ولكن بمجرد خروجهم من منازلهم، يحاولون التظاهر بأنهم لا يستمتعون إلا بأفضل أنواع الأطعمة فقط».

هناك العديد من الأسباب التي تجعل البولنديين يشعرون بشيء من الغرور. فمنذ نهاية الشيوعية، تضاعفت رواتبهم وارتفعت مستويات معيشتهم بصورة كبيرة. وطبقا لدراسة استقصائية حديثة أجراها مركز بولندي لأبحاث الرأي العام يدعى «تي إن إس أو بي أو بي»، فإن 75 في المائة من البولنديين راضون عن حياتهم، مما يضع بولندا ضمن دول النخبة في أوروبا. قامت الدراسة بقياس مدى رضا البولنديين عن الأوضاع الاقتصادية وأماكن العمل والحياة الأسرية والحالة الصحية.

وبينما بدأوا في الشعور بمزيد من الرضا عن أنفسهم، يحاول البولنديون الآن استكشاف ماضيهم من خلال مجموعة متنوعة من الأساليب، بداية من الأفلام الوثائقية التاريخية إلى روايات الجريمة القديمة. تتناسب حانات «زاكاسكاس» تماما مع هذا الاتجاه، لذا، تم افتتاح أكثر من 12 حانة منها في العاصمة وحدها، تبعه افتتاح فروع في جميع أنحاء بولندا. تقول إيونا سومكا، 44 عاما، التي تمتلك ثلاث حانات زاكاسكاس في وارسو: «لم أرغب في مكان منمق، ولكنني أردت مكانا قبيحا بدرجة ما، مكانا لا يشعر الناس فيه بالحاجة إلى التباهي».

تحتوي حانة «ميدزي فودكا أزاكاسكا» على أثاث متواضع، مع كراسٍ بلاستيكية بسيطة وشمعدانات على الجدران الرمادية الملطخة وموائد من الخشب الرقائقي. قامت سومكا بمحاكاة نمط الكافيتريات التي كانت منتشرة في الحقبة الشيوعية، حيث كانت النساء المسنات يأتين لتناول الآيس كريم بعيدا عن النظرات المحملقة للغرباء أو الجيران المتطفلين.

تقول سومكا بإصرار: «لقد أردت إنشاء مكان تأتي إليه السيدات الأنيقات من دون الشعور بالحرج في تناول بعض المشروبات».

تحاول مثل هذه الأماكن المخصصة للتجمعات البسيطة خلق شعور بالانتماء للمجتمع من خلال الجمع بين العديد من العادات البولندية. «زاكاسكا» هي كلمة بولندية تعني جميع أنواع المقبلات التي تصاحب الشراب. وبخلاف الرنجة الموضوعة في الزيت، تعتبر شرائح لحم التارتر والنقانق المدخنة والفطائر من أشهر تلك المقبلات. تأتي تلك المقبلات بالطبع مع المشروب الرئيسي، وبدأت حانات «زاكاسكاس» الأصلية في الانتشار في بولندا قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن أوج انتشارها كان في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وعقب سقوط الستار الحديدي، جلبت الرأسمالية للبولنديين نمطا راقيا من الحياة الغربية، ولا سيما مطاعم الوجبات السريعة، ولكن مع مرور السنين، قلت شهيتهم للأشياء التي حرموا منها تحت الحكم الشيوعي، وبدأ الإحساس بقدر من الحنين إلى الأساليب القديمة في التسلل إلى نفوس البولنديين.

يرجع هذا الشعور، بصورة جزئية على الأقل، إلى موجات الهجرة الكبيرة التي خرجت من بولندا عقب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004، حيث غادر مليونا بولندي على الأقل بلادهم إلى بريطانيا العظمى وآيرلندا وغيرها من الدول بحثا عن عمل.

يعترف رومان موتزيليفسكي، 59 عاما، والذي يعمل نادلا ويعتبر أحد الأساطير المحلية في تلك الحانات والذي يشتهر باسم «السيد رومان»: «لقد أصبح الناس عاطفيين. عملت في مطعم على طراز مطاعم دول البحر المتوسط في سويسرا في الثمانينيات، ولكن كل ما كنت أفكر فيه بعد مرور ثلاثة أشهر فقط من العمل في هذا المطعم هو الأطباق البولندية التقليدية، مثل حساء الشمندر مع اللحم المفروم و(البيجوس) وهو عبارة عن حساء من اللحم المفروم والكرنب».

بدأت هذه الموجة الجديدة ببطء في عام 2006، عندما قام صاحب مطعم محلي يدعى آدم غيسلر، 57 عاما، بافتتاح حانة «زاكاسكاس». وفي تلك الحانة الصغيرة، كان هناك سعران فقط: 4 زلوتي (1.25 دولار تقريبا) لجميع أنواع المشروبات و8 زلوتي (2.5 دولار تقريبا) للمقبلات البسيطة. ونظرا لتلك الأسعار المتواضعة، كان الندل يقدمون نوعا واحدة المشروبات في محاولة لمحاكاة قلة الاختيارات المتاحة في الحقبة الشيوعية.

يقول غيسلر، والذي يمتلك أيضا العديد من المطاعم الفاخرة في شتى أنحاء المدينة: «أردت أن أنشئ مكانا لا يتم الحكم فيه على الناس بناء على الأشياء التي يطلبونها، وبالتالي على أساس كم الأموال التي يملكونها. لقد أردت أن أنشئ مكانا يتم فيه الترحيب بالناس دون شروط، بغض النظر عما إذا كانوا أساتذة أم طلبة أم قساوسة أم ساسة أم سائقي سيارات أجرة».

يبدو أن هذا الجو يروق للجميع، حيث يتذكر غيسلر إحدى الليالي عندما جاء ثلاثة رؤساء وزارات سابقون ينتمون إلى ثلاثة أحزاب مختلفة إلى الحانة في نفس الوقت، وهم جان كريستوف بيليكي وتاديوش مازوفيتسكي وليزيك ميلر.

يقول غيسلر «بدأ الثلاثة الليلة كل على حدة، ولكنهم انتهوا بالجلوس على طاولة واحدة مع بعضهم البعض بالتأكيد».

* خدمة «نيويورك تايمز»