اجتثاث الأكراد يعيد إلى ذاكرتهم ممارسات النظام السابق

مسؤول كردي: لدينا أكثر نظام قضائي فاسد في العالم

احد عناصر الشرطة يتفقد بيتا مدمراً في شمال اقليم ديالى العراقي («نيويورك تايمز»)
TT

تم اكتشاف جثة ضابط الاستخبارات الكردي، وسام جماعي، المنسية في حقل في بلدة السعدية، التي تقع شمال شرقي العراق في يناير (كانون الثاني). وسرعان ما تلقى أفراد أسرته وأصدقاؤه رسائل نصية تطرح أمامهم خيارا من اثنين إما الرحيل أو القتل. جاء في إحدى الرسائل التي تلقاها ابن عمه: «لقد قُتل وسام، انتظر دورك. إذا أردت أن تعيش غادر السعدية».

وغادرت نحو ثلاث عائلات كردية منازلها بعد مقتل جماعي وانتقلت إلى خانقين بحسب مصادر محلية؛ إلى المدينة التابعة للحكومة المركزية لكنها تحت حماية القوات الكردية. وجاء الأكراد الآخرون من السعدية إلى هنا بعد نزاعات على ملكيات تعود جذورها إلى سياسة صدام حسين في السبعينات والتي تمثلت في تهجير الأكراد ليحل العرب محلهم.

ويعرقل استمرار نزوح أكراد العراق الذين يمثلون أقلية، سواء كان ذلك بسبب الإرهاب أو القضاء، المصالحة التي يسعى إليها العراقيون في أعقاب انسحاب القوات الأميركية ويعد هذا مظهرا من مظاهر التدهور السريع في العلاقة بين الحكومة الكردية التي تتمتع بحكم شبه ذاتي وتتخذ أربيل مقرًا لها والحكومة المركزية في بغداد. مع ذلك يثير النزاع، الذي يتركز بالأساس على حقول النفط وإن لم يخل من إرث تاريخي طويل من المظالم وتطلع الأكراد إلى الاستقلال، أسئلة جوهرية بشأن مستقبل وحدة العراق. ويقول مسؤولون أميركيون إن الأزمة أخطر من مجرد توترات سياسية بين حكومة المالكي، التي يهيمن عليها الشيعة والأقلية السنية التي استشاطت غضبًا من مذكرة التوقيف التي صدرت بحق طارق الهاشمي، نائب الرئيس السني في ديسمبر (كانون الأول).

لدى الأكراد، على عكس السنة، قوات الأمن الخاصة بهم واحتياطي نفط ومطارات وسياسة خارجية قائمة على الأمر الواقع، حيث لديهم مندوبون يعملون في دول أخرى. قد يؤدي هذا في النهاية إلى سعيهم للحصول على المزيد من الاستقلال عن بغداد. وكتب جوست هلترمان، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية في تقرير أخيرا: «يريد القادة الأكراد مغادرة العراق خوفًا من استعادة الحكومة المركزية لقوتها ويبدو أنهم يعتقدون أن تلك اللحظة قد حانت».

في آخر حدث يوضح النزاع المحتدم منذ زمن، أوقفت السلطات الكردية تصدير النفط بزعم أن حكومة بغداد لم تسدد مستحقاتها لشركات النفط التي تعمل في كردستان. وأثار هذا، وكذلك عقد النفط، الذي وقعته حكومة إقليم كردستان مع «إيكسون موبيل» دون موافقة الحكومة المركزية، غضب المسؤولين في بغداد مما دفعها إلى حرمان حكومة كردستان من مليارات الدولارات المخصصة لها في الميزانية. ووصف مسعود برزاني، رئيس إقليم كردستان، المالكي بالمستبد وأعرب عن مخاوفه من استخدام بغداد للطائرات الأميركية «إف 16» في شنّ هجوم ضد الأكراد. وتبادل الجانبان الاتهامات بتهريب النفط واختلاس الأرباح. قال محمد إحسان، ممثل حكومة إقليم كردستان في بغداد: «لا يمكنني أن أحترم ذاتي وأنا أعمل مع هؤلاء الأشخاص في بغداد». ويدعو إحسان إلى إجراء استفتاء على استقلال كردستان مقرًا أن ذلك غير ممكن في المستقبل القريب بسبب معارضة الغرب. وأضاف قائلا: «يفكر كثيرون بهذه الطريقة».

ويشعر مسؤولون أميركيون بالقلق من تفكير القادة الأكراد في إبرام عقد لبيع النفط إلى تركيا في محاولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصاديًا، فمثل هذه الخطوة غير قانونية وغير مرجحة قبل عام 2014 وهو العام الذي سيشهد انتهاء حكومة كردستان من مد خط أنابيب النفط الخاص بها. وذكر هلترمان في تقريره: «مع ذلك يأمل الأكراد في أن يلتقي تعطش تركيا إلى النفط والغاز مع تعطشهم إلى دولة».

ويقع الأكراد أسرى للذكريات المؤلمة للقمع الذي عانوا منه خلال عهد صدام حسين، ومثل العرب السنة والشيعة الذين خاضوا حربا طائفية وحشية، يتشبث الأكراد بهوية قومية ضيقة تقوم على العرق لا المواطنة.

وتساءل بكير كريم، عضو البرلمان العراقي الكردستاني: «كيف لنا أن ننسى؟». ووصف العراق بـ«الدولة المزيفة» التي صنعتها بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى والتي لم تفعل سوى «تعذيبنا وإلحاق الأذى بنا». وأضاف: «إذا سألت أي كردي ما إذا كان يريد الاستقلال عن العراق، سيجيبك بنعم بلا تردد». تقع خانقين على بعد بضعة أميال من الحدود الإيرانية في نهاية حزام من الأرض الوعرة في شمال محافظة ديالى التي تمتد من السعدية مرورًا ببلدة جلولاء وهي من المدن المتنازع عليها. إنه مكان للصراع العرقي، حيث يحاول العرب والأكراد اتباع آليات الديمقراطية لفضّ النزاعات التي يمكن أن تنتهي بالدم رغم ذلك. ويوجد خارج المكتب السياسي الكردستاني في جلولاء جدارية لثلاثة رجال يمثلون الأعراق الثلاثة في المنطقة وهم العرب والأكراد والتركمان ومكتوب أسفلها: «كلنا أخوة». أما بالداخل، فيوجد قادر محمد، مدير المكتب الذي يلوح بتقرير استخباراتي تلقاه مؤخرًا من السلطات في بعقوبة، عاصمة ديالى. ويزعم التقرير تخطيط تنظيم دولة العراق الإسلامية، الذي ينضوي تحته عدد من الجماعات المسلحة، للقيام بهجمات لزعزعة استقرار الأمن في المحافظة. ومن أهداف تلك الهجمات محمد، الذي قال: «لست خائفًا، فهذا واجبي، وعلي أن أؤدي عملي».

ويوشك كريم علي، البالغ من العمر 60 عاما، على المغادرة هو الآخر، فمثل الكثير من الأكراد هنا، أُجبر علي على النزوح في منتصف السبعينات في إطار تنفيذ سياسة صدام حسين لـ«التعريب» التي كانت تهدف إلى الحد من التباين العرقي. وانتقل كريم حينها إلى الرمادي، عاصمة الأنبار، لكنه استعاد منزله القديم عام 2003 بسبب خوف بعض العرب من انتقام الأكراد فعادوا إلى منازلهم القديمة في مناطق أخرى. ورغم الدعاوى القضائية المقامة من أجل الفصل في النزاعات الناتجة عن سياسة «التعريب»، يقول الأكراد إن السجلات التي يمكن أن تثبت ملكيتهم قد أُتلفت. لذا يطالب العرب حاليًا باستعادة المنازل التي صودرت من الأكراد خلال حقبة صدام حسين. وقال علي إن هذا ما حدث له، حيث أوضح قائلا وهو يقف خارج منزله: «إن هذا المنزل لوالدي. كان علي إخلاء المنزل خلال عشرين يوما». ويروي كيف اقتيد إلى قسم الشرطة مكبلا بالأغلال منذ عدة أشهر وأُجبر على التوقيع على وثيقة تنازل عن المنزل لعربي كان لديه عقد الملكية منذ عام 1975 إلى عام 2003.

وقال: «لا يختلف هذا عما كان يحدث خلال فترة حكم صدام حسين، بل إنه أسوأ لأنني كنت يافعًا آنذاك». وتم الحصول على نحو 400 منزل في جلولاء بطرق مشابهة بحسب مسؤولين محليين. وينخرط إحسان، ممثل حكومة إقليم كردستان في بغداد، في أمور تتعلق بتلك المناطق المتنازع عليها، حيث أوضح أن الفساد يهيمن على العملية. وقال: «لدينا أكثر نظام قضائي فاسد في العالم»، حيث وصف التقرير الخاص بالنزوح الداخلي في العراق الصادر عن مؤسسة «بروكينغز» وجامعة برن العملية بـ«غير المفهومة» و«المحبطة».

وقال إحسان: «إن الأمور تزداد سوءًا، لقد انسحب الأميركيون دون إنهاء مهمتهم، ونشعر بالقلق من أن يعيد التاريخ نفسه». من جانبهم، يقول العرب من سكان المنطقة إنهم مستهدفون من الإرهابيين وإن عمليات نقل الملكية قانونية وعادلة. وفتحت رسمية أحمد، أم جماعي، الضابط المقتول، كيسا من النايلون وأخرجت منه أقراصا مهدئة لعلاج الأرق والقلق. وقالت الأم التي قُتل ابن آخر لها، وهو جندي، العام الماضي: «لم يتبق لي أي أبناء الآن». ربما يشعر الأكراد بالتحرر من قسوة ووحشية حزب البعث، لكن كان الوضع أفضل بالنسبة إلى رسمية في تلك الأيام، حيث تقول: «على الأقل كان لدي أبنائي».

* خدمة «نيويورك تايمز»