«حقوقيو» السعودية.. وفوضى الشعارات

شعارات حقوقية بمضامين سياسية متضاربة غير متماسكة عناصريا أو فكريا

TT

كان بعض من حاملي لواء «الحقوق» في السعودية على موعد مع مأزق سياسي جديد، يأتي في سياق مآزق متتابعة منذ بداية حراكهم مع موجة «الثورات العربية». وتمثل هذا المأزق في تبني كثير منهم الدفع منذ اليوم الأول باتجاه تبرئة المحامي المصري المتهم أحمد ثروت عبد الوهاب السيد، الشهير بـ«الجيزاوي»، الذي قبض عليه في مطار جدة وبحوزته كمية كبيرة من الحبوب المخدرة، والقصة مشهورة.

والحال، أن الملمح الأبرز في موقف «الحقوقيين» السعوديين من قضية الجيزاوي هو انسياقهم المباشر في تبني الإشاعات التي صدّرها بعض وسائل الإعلام المصري للشارع، وتلقفها «ناشطو جماعة 6 أبريل» المصرية، وقادوا حملة تشويه منظمة في وسائل التواصل الاجتماعي، متهمين النظام السعودي وقضاءه بتلفيق الحادثة، والحكم غيابيا على المتهم حتى قبل وصوله إلى السعودية.

أدت هذه الحملة بدورها إلى تهييج الشارع المصري الذي وصل به الأمر إلى محاصرة السفارة في مظاهرات غير سلمية، بلغت حد الاعتداء على جدران السفارة السعودية بكتابات غير لائقة وإنزال العلم السعودي من فوقها، والتضييق على ممارسة الدبلوماسيين لمهام عملهم بشكل طبيعي.

اللافت أن متبني الدفاع عن الجيزاوي من حملة لواء «الحقوق» السعودية مارسوا ذات التصعيد التحريضي تجاه السعودية، حتى بعد حديث القنصل المصري في جدة وتأكيده على أن القبض على الجيزاوي لم يكن بسبب صدور حكم غيابي عليه بتهمة «الإساءة للذات الملكية» (لا يوجد قانون سعودي من الأساس بهذه التهمة، ولا يسمح القضاء السعودي بالبت في قضية لم تحدث على أراضيه فضلا عن إصدار حكم غيابي)، وأشار القنصل إلى أن السبب يعود إلى القبض على الجيزاوي حاملا كمية كبيرة من الحبوب المخدرة باعترافه.

فكتب على سبيل المثال عبد الله المالكي موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»: «للتذكير فقط.. الرسول صلى الله عليه وسلم تم الاعتداء على ذاته الشريفة في الدنمارك ولم يتم إغلاق السفارة ولا حتى استدعاء السفير».

يذكر أن هذه المعلومة خاطئة، فالحكومة السعودية قامت في حينها باستدعاء السفير من الدنمارك. بينما قال على نفس النسق، وليد أبو الخير في «تويتر» أيضا: «متابع عن قرب قضية المعتقل المحامي أحمد الجيزاوي وفي سجن ذهبان في جدة ورجال المباحث حينما أخبروا زوجته أن عليه حكما غيابيا.. ألحقوا العار بقضائنا».

ويذكر هنا أيضا أن زوجة الجيزاوي في تصريحها على الهواء لبرنامج «القاهرة اليوم» أشارت إلى أنه لا أحد أخبرها عن سبب احتجاز زوجها حتى تلك اللحظة، وأنها غادرت إلى المدينة المنورة مباشرة عند احتجاز زوجها، فضلا عن أن القصة كما ظهر لاحقا لا أساس لها.

وعلى نفس النسق كانت محاولة توظيف - ما تبين لاحقا أنه إشاعة - الجانب الديني في قضية الجيزاوي من كونه قبض عليه قادما للعمرة (رغم أنه لم يكن محرما) طاغية على طرح المهاجمين لقررا إيقاف المتهم، فكتب عبد الله بن زعير: «أحمد الجيزاوي قدم معتمرا قاصدا بيت الله يزج به في المعتقل، وشين العابدين قاتل المتظاهرين يكرم في القصور.. سبحان ربي».

وكنموذج أخير يوضح فكرة الانسياق وراء الإشاعة الكاذبة التي ذاع صيتها، كان رد عصام الزامل على سؤال أحد المتابعين له حول تعليقه على قضية الجيزاوي، مع المظاهرة المرتقبة غدا في القاهرة أمام السفارة السعودية، فرد الزامل: «أعتقد من الخطأ اعتقال ضيوف الحرمين».

في الواقع، إن هذه الحادثة ليست الوحيدة التي توضح حالة «فوضى المفاهيم» التي تعاني منها شعارات «الحقوق» التي يتبناها من يقدمون أنفسهم كـ«حقوقيين سعوديين» منذ أحداث الربيع العربي. وهي تظهر حالة من التخندق السياسي والاستقطاب «الآيديولوجي» الذي يلغي «المفهوم الحقوقي»، ويستبدل به «النشاط السياسي».

في علم التوصيف السياسي، عندما تخضع مفاهيم جماعات «الحقوق» لوطأة الاستقطاب السياسي «الآيديولوجي» تصبح مصنفة ضمن الجماعات الاحتجاجية، التي تستمد حضورها من براق شعاراتها ومثاليتها، فتترجم على صيغة سلوك انفعالي لدى الجماهير، فتصبح اللغة السياسية لخطاب هذه الجماعات غير معقلنة، كون الجماعات والحركات الاحتجاجية تلتزم بالتنديد والرفض لممارسات السلطة، أيا كانت توجهاتها، في مقابل خدمة العقيدة السياسية الرافضة لهذا النظام أصلا تحت الشعارات الفضفاضة.

وبالتالي تؤدي إلى خطاب ظاهره «حقوقي» وجوهره سياسي، غير واضح ودقيق في تماسك عناصره، لأنها في أساسها (الجماعات الاحتجاجية) مكونة من أفراد يعبرون عن مشارب فكرية وثقافية مختلفة (يسار، قوميون، إخوان، شيوعيون سابقون... إلخ).

والحال، كان هناك أكثر من حدث يدلل بوضوح على حالة من التشظي والتخلخل في تماسك جماعات «الحقوق» في السعودية، فقبل أسبوع من حادثة الجيزاوي التي شكلت حالة غضب شعبي سعودي هذه المرة تجاه «الحقوقيين» وموقفهم المشرعن حقوقيا والمروج للإشاعة الكاذبة التي ترددت في الشارع المصري، فقد وقع قبله بأسبوع واحد الحقوقيون في مطب تقديم سجناء قيد التحقيق على خلفية علاقتهم بتنظيم القاعدة، وقدموهم في وقت سابق للرأي العام على أنهم «سجناء رأي»، حتى قام متحدث باسم تنظيم القاعدة الإرهابي في اليمن بالمطالبة بهم بالأسماء مقابل الإفراج عن الدبلوماسي السعودي المختطف في اليمن، وطالب تنظيم القاعدة بتسليم هذه الأسماء لهم في اليمن.

وسبق هذه الأحداث شرخ آخر في «شعاراتية» هذه الحملات إبان ما عرف بـ«ملتقى النهضة» الذي ألغت إقامته وزارة الداخلية في الكويت، وكان تحت إشراف الدكتور سلمان العودة، الذي بات يتبنى بدوره شعاراتية «الحقوق».

والقصة لمن لا يعرفها كالتالي: حدث خلاف حاد في شبكات التواصل الاجتماعي، و«تويتر» على وجه الخصوص، المسرح المفضل للحراك الاحتجاجي المخلخل، وكان لب الخلاف يقوم على تخندق أتباع رموز التيار الإخواني، اليسار الإسلامي، واليسار الليبرالي، مقابل أتباع رموز التيار السلفي التقليدي، انتهت بتصعيد النقد لأجندة الملتقى الذي يشرف عليه العودة، علما بأن هذه التيارات المتناحرة سياسيا كانت حتى قبل هذا الملتقى تستظل بلوحة «دولة الحقوق والمؤسسات» التي تزين معرفاتهم في «تويتر»، ما أظهر أن مفهوم الحقوق لدى هذه الجماعات غير متفق عليه حتى في ما بينهم. ومرة أخرى هذا ما يفسر خروج الشعار عن مساره الطبيعي المستقل، ليسقط في فخ التسييس، الهادف إلى اقتناص أداور ومكتسبات سياسية على حساب الفكرة الأصيلة الملتحفة بالشعارات الحقوقية.

ولن يكون من الصعوبة ملاحظة دور التباين الكبير والجوهري في الرؤية والتفسير لمفهوم «الحقوق» في إحداث حالات التشظي والخلافات الحادة ممن ينتسبون إلى «الحقوقية»، فقبل أحداث «ملتقى النهضة» بوقت يسير أيضا حدث ذات الخلاف وبذات الحدة بين من تجمعهم شعارات «الحقوق» ويفرقهم فهمها لها، في قضية الشاب السعودي حمزة كشغري، وقصته أيضا مشهورة، ورأى فيها الذين دافعوا عن حمزة من منطلق حرية التعبير خذلانا من قبل شركائهم من الإسلاميين الحركيين في شعار «دولة الحقوق والمؤسسات»، بينما رأى الحركيون الإسلاميون أن ليست هذه حرية التعبير التي يتحدثون عنها، أو بشكل أدق التي يفهمونها.

جدير بالذكر أن عدد مستخدمي «تويتر» في السعودية يصل إلى 115 ألف معرف سعودي نشط، بحسب معلومة ألقيت على هامش «منتدى جدة الاقتصادي» مؤخرا، أي ما يعني أنه يشكل ما نسبته 0,42 في المائة من نسبة سكان السعودية.

إضافة إلى مصداقية «تويتر» التي توضع على محكات حادة باستمرار، يقول الدكتور علي شويل القرني، أستاذ الإعلام السياسي في جامعة الملك سعود: «المشكلة الكبرى هي مزج الخبر بالرأي، فتضمين معلومات خبرية مع وجهة نظر هو الأخطر في الإعلام الجديد، وهنا يحدث تضليل متعمد، حيث يتم خلط الموضوع بين الرأي والحدث بطريقة تبدو فيها المعطيات في وضعها الطبيعي من الناحية الإعلامية والاتصالية».

وحول النظرية التي طالما روج لها مريدو «الإعلام الجديد»، والتي تفيد بفردانية المعبر عن رأيه، بعيدا عن سطوة الإعلام التقليدي الذي يصفونه بالموجّه، يزيد القرني في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «المشاركة الفردية هي إضافة في بناء متصاعد وتراكمات معلوماتية وآرائية حول القضية.. وتدخل عناصر معينة تحت تأثير فكر سياسي أو طائفي إلى الموضوع إما من البداية وإما في مرحلة لاحقة، من أجل أن توجهه إلى مسارات معينة من أجل الوصول إلى تحقيق أهداف حزبية أو طائفية.. ويبدو في نهاية المطاف الجميع – والكثير منهم من غير قصد – يغذي هذا الفكر السياسي أو الطائفي.. وهكذا تتشكل قضايا الرأي العام». ويتابع القرني: «وقضية الجيزاوي تشكلت بهذه الطريقة، وتحاول عناصر معينة داخل اللعبة الحزبية أو الطائفية السياسية الانضمام إلى الحشود، وإثبات الحضور، وهذا أشبه ما دار في ميدان التحرير، فكثير من العناصر انضمت إلى المكان من أجل إثبات الحضور السياسي.. فدائما هناك عناصر معينة تحاول أن تساهم في قضية (ميدان التحرير) الإعلامي، ليس عن قناعات بالموضوع ولكن من أجل إثبات الذات والمزايدة السياسية».

كل هذه المعارك وحالات الاستقطاب السياسي التي يرصدها المتخصصون تشير إلى أنه لا يوجد ما يمنع حتى الفرد الذي يتحدث باسمه أن يكون جزءا من منظومة وعجلة فكرية، يعبر عنها وليس عن نفسه بالضرورة، وبمعنى أدق، أن هذا الشق من «الإعلام الجديد» أطر حضوره السياسي والاجتماعي ومصداقيته التي ما فتئت تهتز يوما بعد آخر.