انتخابات مجلس الشعب السوري.. بـ«رائحة البارود ولون الدم»

المؤيدون يرونها «رسالة لأعداء الداخل».. والمناهضون يصفونها بانتخابات «مجلس الشبيحة»

TT

الخبر المقتضب جدا الذي بثته وكالة الأنباء السورية (سانا) ليل الثلاثاء الماضي عن قيام «مجموعة إرهابية» بإطلاق نار على المرشح لمجلس الشعب علي حسن الطه في ساحة بصرى بمدينة درعا مما أدى لمقتله، قد يبدو عاديا ضمن سيل أخبار القتل المتدفقة من الساحة السورية، لكنه حتما ليس عاديا بالنسبة للمرشحين المقدر عددهم بحسب المصادر الرسمية بـ7195 مرشحا بينهم 710 نساء. أحد المرشحين قال لإحدى وسائل الإعلام المحلية خلال أحد البرامج المكرسة للترويج للانتخابات: «إن الترشح في هذه الظروف أقرب إلى العمل الفدائي». بينما قال آخر: «إنه رسالة قوية لأعداء الداخل وأعداء الخارج».. عبارتان تختزلان واقع الانتخابات التشريعية المرتقبة في 7 مايو (أيار) الجاري، في سوريا الغارقة بدماء أبنائها، أو كما يصفها الناشط الشاب يامن بـ«انتخابات برائحة البارود ولون الدم».

وكما أن كل ناشط مستهدف من قبل النظام والأجهزة الأمنية، كذلك كل متعاون مع النظام. وبهذا ليس المرشحون في وضع آمن، ولا يحسدون على هذه الصفة، فهم محط كراهية كل من خرج إلى الشارع وطالب بإسقاط النظام، وتعرض للقتل والاعتقال والتنكيل والتهجير، مما يجعل هذه الانتخابات تجري في محيط من الاستفزاز والنقمة والحزن. فالخيمة التي نصبها عدد من المرشحين وسط العاصمة لم يدخلها أحد لا من المارة ولا من أهل الحي، رغم الأنوار الباهرة والعراضة الشامية والضيافة الفاخرة، فلم تصمد سوى ساعات قليلة أمام استهجان الناس الذين رأوا فيها «رقصا على دماء السوريين وتنكيلا بجراحهم».. قال صاحب أحد المحال في المنطقة معلقا على هذه المظاهر منتقدا رجال الأعمال الذين «يهدرون المال في الشوارع، بينما العالم يرسل مساعدات للشعب السوري المنكوب».

يؤكد النظام السوري والمؤيدون له أن المشاركة بالانتخابات «واجب وطني» مما يؤكد على «نهج إصلاحات النظام»، إذ تأتي تتميما لحزمة الإصلاحات التي أعلن عنها الرئيس بشار الأسد قبل نحو عام متضمنة «تعديل الدستور» مما اعتبره الإعلام الرسمي «قفزة نوعية نقلت البلاد من نظام الحزب القائد إلى النظام شبه الرئاسي، كما صدر قانون للأحزاب رخص لنحو تسعة أحزاب جميعها تتنافس على مقاعد مجلس الشعب، والتي كانت محتكرة لحزب البعث الحاكم، وتحالف الأحزاب المنضوية تحته (الجبهة الوطنية التقدمية)، كما صدر قانون جديد للانتخابات نص على خضوع الانتخابات لإشراف قضائي مباشر، ورفع حالة الطوارئ، بما يترتب عليه نظريا من إطلاق للحريات وحد لسلطات الأجهزة الأمنية».. لكن تلك الإصلاحات التي يعتبرها النظام جذرية وكبيرة، يراها المناهضون للنظام إصلاحات كاذبة، بل تزايدت الأوضاع تدهورا طردا مع تزايد الإصلاحات. ولم يتوقف القتل والاعتقال التعسفيان، وأصبحت أعداد المفقودين بالآلاف منذ انطلاق الثورة في 15 مارس (آذار) 2011 وما زال مصيرهم مجهولا، مع استمرار تعرض مدن وبلدات بأكملها للقصف المدفعي والصاروخي من قبل قوات النظام.

يتندر الناشطون بإطلاق شعار: «أوقفوا الإصلاحات» والتهكم على «رفع حالة الطوارئ» بينما «فرضت حالة الحرب على الشعب»، مما جعل من الانتخابات التشريعية تحديا كبيرا للنظام، لا سيما أنها تجري بينما يتدفق أعضاء فريق المراقبين الدوليين إلى البلاد، للتحقق من التزام النظام بتطبيق خطة أنان التي تحظى بتوافق دولي.

ومنذ الإعلان عن بدء الدعاية الانتخابية للمرشحين، كرست وسائل الإعلام الرسمية جل برامجها وخطابها للترويج للعملية الانتخابية، وبذلت آلة النظام الأمنية جهودا كبرى لتصدير مظهر انتخابي برلماني في الشوارع السورية، وسط انكفاء عن الترشح لأسباب كثيرة منها الخوف من نقمة «الثوار» وأيضا مراعاة لمشاعر المنكوبين من أبناء الشعب، وهكذا فرغت الساحة لشخصيات وأسماء طفت على سطح الأزمة كمدافعة عن النظام تحت عنوان «الدفاع عن الوطن» دلت عليهم برامجهم الانتخابية الهزيلة، والتي تجنبت في غالبيتها وجود «ثورة» في البلاد، وركزت على المطالب الشائعة مثل «مكافحة الفساد والبطالة والإصلاح» ومن باب التنويع هناك من طرح «سعيه من أجل حكومة إلكترونية»، والأطرف «السعي لإسقاط الحكومة» كما يلفت النظر تركيز معظم المرشحين عبر برامج تبثها وسائل الإعلام الرسمية وبجوقة واحدة على مهاجمة أعضاء مجلس الشعب السابق وتحميلهم وزر ما حصل لأنهم «لم يمثلوا الشعب تمثيلا حقيقيا ويدافعوا عنه».

السيدة سلام، وهو اسم مستعار لـ«موظفة حكومية» معروفة، تعد من الفئة الصامتة رغم ميلها الضمني للمعارضة ورغبتها بتخلص سوريا من النظام العائلي، قالت إن أحد الأجهزة الأمنية أرسل لها بشكل غير مباشر يحثها على الترشح للانتخابات، إلا أنها تملصت من الدعوة قائلة «فكرة الترشح مرفوضة من حيث المبدأ في كنف نظام يقتل الشعب»، وتضيف «يريد النظام أن يقول للعالم إنه ما زال باسطا سيطرته وإن الشعب معه.. لن أكون من ضمن المروجين لهذه الكذبة»، لافتة إلى أن «النظام فاقد للسيطرة والشرعية وقبوله دخول لجنة مراقبين دولية إلى أراضيه لمراقبة إطلاقه للنار تأكيد على ذلك»، من دون أن تستبعد نجاح النظام في استحقاق الانتخابات التشريعية، ولكنه سيكون كنجاحه في «انتخابات الإدارة المحلية والتي عزز من خلالها وجود أعوانه من رجال الأمن لا الحزب، كما كان يجري سابقة في مجالس المدن»، وتؤكد «نحن الآن نعيش فصول مسرحية مماثلة».

وإذا كانت السيدة سلام تمكنت من التملص من طلب الأجهزة الأمنية، فإن كثيرين غيرها لا يمكنهم ذلك. إحدى المرشحات، وهي مهندسة، خلال برنامج على التلفزيون الرسمي، قالت أثناء مداخلتها: «لقد طلبوا مني الترشح»، فقاطعها المذيع «بالطبع تقصدين أن زملاءك هم الذين طلبوا منك الترشح». بالإضافة إلى ذلك يبدو واضحا أن هناك سعيا إلى هذا التمثيل على سبيل المكافأة للمؤيدين لدفاعهم الشرس عن النظام بمختلف الوسائل، حيث غلب على المرشحين شخصيات عرفت إعلاميا على نطاق واسع كمنافحين عن تجاوزات النظام، أطلق عليهم الثوار السوريون لقب «أبواق النظام».

من الظواهر اللافتة في قوائم أسماء المرشحين كثرة العاملين في حقل الإعلام والفن مقابل أغلبية ساحقة من رجال الأعمال، لا سيما في مدينتي حلب ودمشق. أما باقي المدن فالمشاركة ضحلة وتكاد تقتصر على المناطق التي لا تشهد توترات كبيرة كطرطوس وريفها، والمناطق الموالية كأحياء الزهرة وعكرمة في مدينة حمص التي تختفي في باقي أحيائها مظاهر الانتخابات تماما، وكذلك محافظة إدلب، أما في حماه ودرعا فبالكاد ترى اللافتات، حيث لا يسجل هناك أي مشاركة تذكر، لتظهر في حلب حيث تنخرط طبقة رجال الأعمال بالانتخابات على نحو واسع، وكذلك في دمشق ومع ذلك فانتشار الدعاية الانتخابية في الشوارع ليس كما جرت العادة في الدورات السابقة، وتكاد تنحصر في محيط المقرات الأمنية والمراكز الحكومية، وسط المدينة وتكاد تغيب في المناطق الأخرى. ففي دمشق توجد اللافتات في الساحات الرئيسية: السبع بحرات، ويوسف العظمة، والتحرير، والعباسيين، وشارع بغداد، وأتوستراد المزة، وتغيب عن باقي الأحياء والضواحي، كما تتعرض تلك اللافتات والصور لمحاولات التشويه والإزالة على مدار الساعة، ضمن حملة يقوم بها ناشطون تحت اسم «حملة تنظيف الشوارع».

ومع اقتراب موعد الانتخابات أطلق ناشطون حملة أخرى لمرشحي مجلس الشعب لسوريا الحرة، وقاموا بإلصاق صور لـ«رموز الثورة السورية» من شهداء وثوار معروفين أمثال «غياث مطر وعبد الباسط الساروت.. إلخ» في عدة أحياء من مدينة دمشق: برزة، والمزة، والميدان، والروضة، وكفرسوسة، وغيرها، فحسب رأيهم هؤلاء من يمثلون الشعب السوري، وليس «الشبيحة» والراقصات الذين يمثلون النظام فقط، بحسب تعبير أيمن الذي شارك في إلصاق صور الشهداء.

المؤيدون للنظام يجدون في هذا الحراك والدعوات لمقاطعة الانتخابات «إرهابا» وعملا ضد «الديمقراطية والحرية»، ويعتبرون الضالعين فيه «أعداء الداخل» و«أدوات الخارج» مما يستهدف «استقرار وأمن البلد». تدعو تالة ابنة شرطي قتل في حمص إلى المشاركة بالانتخابات «وفاء لدماء الشهداء وخطوة نحو وقف نزيف الدم والعودة إلى العقل والحوار»، إلا أن رشا الناشطة في دمشق ترد على تلك الدعوات بإعلان استعدادها للمشاركة في الانتخابات بشرط أن «يتجرأ النظام على وضع صناديق اقتراع في المناطق المنكوبة في درعا ودوما والزبداني وجسر الشغور وإدلب والخالدية وكل أحياء حمص المدمرة وفي تلبيسه والرستن وحماه.. إلخ»، وتتساءل رشا: «أين سيضع النظام صناديق الاقتراع؟ وهل هو قادر على حماية الناخبين من مؤيديه من سخط الشعب؟»، ففي الأمس أطلقت النيران على موقع تصوير ندوة لصالح التلفزيون السوري مخصصة للانتخابات في مدينة دير الزور وتم تأجيل الندوة التي كان من المقرر بثها على الهواء مباشرة.

استفاق سكان العاصمة دمشق على رؤية صور المرشحين لمجلس الشعب التي تملأ الشوارع الرئيسية في العاصمة وقريبا من المقرات الأمنية، وقد مهرت وجهوهم بكلمة «شبيح»، وقال سكان إنهم شاهدوا ذلك في شارع خالد بن الوليد، وقريبا من مركز قيادة الشرطة وفي حي المزة وفي عدة مناطق أخرى، وبث ناشطون فيديو يظهر شبابا وهم ويقومون بوضع أختام على صور المرشحين، تارة على الجبين وأخرى على منطقة الشاربين واللحية، وهم يقولون: «الثوار يشاركون بالانتخابات على طريقة الثوار».. «أطفال سوريا يقتلون وهناك شبيحة يرشحون أنفسهم لمجلس الشعب» و«الشعب السوري يقتل وهم يترشحون» و«جميعهم شبيحة» و«هذا تاجر حشيش مرشح نفسه!!» و«ذاك ممن يعتبرون أنفسهم مشايخ» و«يضعون صورهم على حاويات الزبالة»، و«يدفعون لهم كي يرشحوا أنفسهم».. و«في الأحياء الثائرة لا يمكنهم إلصاق صورهم، ولكنهم يلصقونها عند مقرات الأمر، ونحن لا نخاف الأمن»، وعندما صادفت الشاب صورة لسيدة مرشحة وبعد أن طبع جبينها بكلمة «شبيح» اعتذر من الصورة، وكتب: «عفوا هذه شبيحة».