السوريون: لم يعد لنا ما نخسره.. نريد الحرية

بانتظار المساعدات.. المناطق الهادئة تحمل وزر المناطق المنكوبة

محتجة سورية ترفع بقايا شظايا أسلحة استعملها النظام في قصف حمص أول من أمس (أ.ف.ب)
TT

بعد تحول غالبية سكان المناطق المتوترة إلى عاطلين عن العمل، والشلل الذي أصاب أطراف البلاد، لا تزال شعلة (الثورة) متقدة بالمظاهرات المطالبة بالحرية، كما أنها إلى تزايد.. وهنا تكمن المعجزة السورية إذ يقول أبو جميل الحمصي: «لم يعد لنا ما نخسره.. نريد الحرية».

حياة أبو جميل تكاد تكون نموذجا لحياة السوريين الذين هُجّروا من منازلهم في المناطق المنكوبة من حمص وحماه وإدلب والغوطة الشرقية إلى المناطق الهادئة نسبيا ليعيشوا على المساعدات في بيوت فتحت لإغاثتهم، يسكنون كل أربع أو خمس عائلات في شقة. لم يعرف أبو جميل الراحة في البيت الذي حل فيه وأسرته مع عائلتين أخريين، فأخذ يمضي أغلب وقته في الحديقة القريبة، بانتظار مظاهرة طيارة.. أو عمل، أو تغير الأحوال ليعود إلى حمص.

نزوح آلاف السوريين داخل البلاد باتجاه المحافظات الأخرى، لا سيما العاصمة دمشق ومدينة حلب والقلمون وسط البلاد والوادي القريبة من الساحل، مقابل تعطل الحياة في مناطق واسعة مثل محافظتي حمص وإدلب وريف حماه، خلخل التوازن المعيشي لعموم سكان البلاد، مما رتب مشاكل وتحديات جديدة فاقمت الأزمات المزمنة في المناطق المكتظة بالسكان، والتي لها علاقة بضعف توافر خدمات الكهرباء والماء والصحة والتعليم.

وبحسب الأمم المتحدة التي وضعت خطة لبحث تغطية الاحتياجات الإنسانية في سوريا بعد قيام بعثة منها بزيارة عشر محافظات سورية والتوصل إلى تقييم مشترك أجري بالتعاون مع مسؤولين سوريين في الفترة بين 18 و26 مارس (آذار) الماضي - هناك نحو مليون سوري بحاجة إلى مساعدات إنسانية، حيث إن أكثر السكان في الأماكن التي زارتها البعثة يعانون نقصا في الأدوية الأساسية، وارتفاعا حادا في أسعار المواد الغذائية، مع تضرر البنية التحتية بشدة، وندرة إمدادات المياه والكهرباء، مما جعل عائلات كثيرة غير قادرة على الحصول على احتياجاتها الأساسية اليومية، كما أن الوظائف وسبل العيش تعطلت، وارتفعت تكلفة السلع، وكثيرون لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الضرورية، أو الحصول على الخدمات الاجتماعية اللازمة، بسبب انعدام الأمن والضغوط المالية. وفي بعض المناطق، تلفت شبكات الصرف الصحي، وتلوثت مياه الشرب، وتوقف جمع القمامة، مما يمهد لتفشي أوبئة تنتقل عن طريق الماء مثل الكوليرا. ووفقا لخطة الأمم المتحدة، يستهدف البرنامج العالمي للأغذية تقديم الطعام لنحو 850 ألف شخص، وتمثل عملياته 85 مليون دولار من الميزانية. وما يأمل حسب المخطط تقديم الرعاية النفسية والاجتماعية والتعليمية للأطفال، ففي كل المناطق التي زارتها بعثة الأمم المتحدة ظهرت أعراض الإجهاد والصدمة على الأطفال، مثل تساقط الشعر ومشكلات النوم والتبول اللاإرادي.

خطة الأمم المتحدة لا تزال حبرا على ورق، لحاجتها إلى موافقة الحكومة السورية. وفي الأسبوع الماضي، بحث فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السوري، مع منسقين من الأمم المتحدة لشؤون المساعدات الإنسانية تحضيرات لتوقيع اتفاق حول آليات تنفيذ خطة الاستجابة الإنسانية لاحتياجات السكان المتضررين، بعد تأسيس لجنة لقيادة هذه العملية «برئاسة الجانب السوري». المفارقة أن المقداد أكد حرص الجانب السوري على إيصال المساعدات الإنسانية إلى «مستحقيها من الذين تضرروا جراء الأعمال الإرهابية»، بينما تحدث المسؤولون الأمميون عن الحرص «على إيصال المساعدات الإنسانية لمن يحتاجها». وبين من يحتاجها من وجهة نظر الأمم المتحدة ومن يستحقها من وجهة نظر الحكومة السورية، تتأخر المساعدات، ليعتمد السوريون على أنفسهم كل بحسب استطاعته.

جمال. ح من سكان دمشق يشير بكلامه عن مزايا (الثورة) بأنها «قربت الناس من بعضهم بعضا، فمع ارتفاع حدة عنف ووحشية النظام وارتفاع معدلات القتل والتدمير اليومي، لم تعد هناك قيمة لجني المال والثروات، وبات كل شخص يفكر في أن ما يجري اليوم لابن حمص أو إدلب أو حماه قد يصيبه غدا، مفسرا هذا بأن (الإنسان على عتبة الموت يكون بين يدي الحق فيتوب إلى ربه ويعود لإنسانيته لاقتناعه بأن كل شيء فان ما عدا الله.. الآن سوريا كلها بين يدي الحق)». هذه النظرة التدينية المثالية لا يمكن تعميمها بالمطلق على حال جميع السوريين، بل ما زال هناك تجار أزمات يستغلون الظروف لزيادة ثرواتهم، سواء كانوا من تجار المواد الأساسية، أو من أصحاب البيوت الذين رفعوا أسعار الإيجارات بشكل خيالي، ولكنهم فئة ليست كبيرة بل تكاد تكون معلومة وعرضة للمقاطعة من قبل مجتمع متضامن، يتحسس آلام أفراده، وجمعته المصائب، راح يلملم أشتاته ويشكل مجموعات إغاثة إنسانية، القسم الأعظم منها يعمل بغفلة عن النظام الذي يعتبر تقديم أي نوع من المساعدات دعما «للإرهابيين». يظهر هذا في حملات الاعتقالات التي تستهدف حتى المتعاطفين مع النازحين، أو مع (الثوار) مع أنه أمر محال ضبطه في مجتمع تحول في غالبيته إلى حاضن لـ(الثورة) حتى في المناطق الهادئة وذات الأغلبية الصامتة أو الموالية للنظام، إذ لا يمكن لتلك المناطق الانسلاخ عن محيطها ولا يمكنها العيش خارج أزمة تعيشها البلاد عموما، فمناطق الوادي في ريف حمص القريب من الساحل استوعبت عددا كبيرا من العوائل الحمصية المسيحية التي نزحت من حي الحميدية ومن مدينة القصير، وفي المقابل استوعبت مناطق القلمون أعدادا مضاعفة من العوائل المسلمة النازحة من حمص والقصير، إضافة لدمشق التي استأثرت بالعدد الأكبر، حيث يقدر عدد النازحين من محافظة حمص وحدها بنحو مائة وخمسين ألف نسمة. وتتندر إحدى صفحات الثورة السورية الحمصية الساخرة بالقول إن «النظام أخطأ مرتين مرة بتهجير الحماصنة، ومرة ثانية بإغلاق جامعة حلب.. فهو بذلك نشر الثوار في كل البلاد».

هذا الانتشار رتب أعباء كبيرة على الحكومة وأيضا على المواطنين جميعا، ففي مناطق الوادي والقلمون تمكن قلة من النازحين من إلحاق أولادهم بالمدارس، ولكن في دمشق لم يكن ذلك متاحا لازدحام المدارس بالأساس، ولم يتمكن أكثر الطلاب من متابعة دراستهم، وواقع طلاب الجامعات ليس أفضل، مع أن الحكومة سمحت لطلاب جامعة حمص بالالتحاق بجامعتي دمشق وحلب، إذ إن اضطراب الأوضاع الأمنية حال دون ذلك، فانقطع كثير من طلاب الجامعات عن الدراسة تارة تضامنا مع زملائهم المعتقلين وتارة بسبب هجوم الأمن والشبيحة على الطلبة في الجامعة، مما دفع الطلبة إلى الخوف على حياتهم، ندى طالبة طب «كلما خرجت من البيت أتلو الشهادة فقد أصادف الموت في طريقي».

وضع التعليم في البلاد ينسحب على باقي المجالات الأخرى كالصحة، فالمستشفيات العامة تعج بالمرضى، وهناك عيادات لا سيما في ريف دمشق المتمرد فتحت أبوابها لاستقبال المرضى بأسعار رمزية أو مجانية، لكنها غير قادرة على تغطية العجز في القطاع الصحي للتداوي والعلاج. خالد طبيب أسنان في بلدة قدسيا بريف دمشق يقول إنه فتح عيادته لمعالجة المرضى من النازحين مجانا، لكنه غير قادر على الاستمرار في ذلك طويلا، إنه «بحاجة لتمويل يغطي ثمن المواد المستخدمة في العلاج على الأقل». أمثال الطبيب خالد كثر في تقديم المساعدات، وبحسب تعبير سيدة أعمال حمصية أنفقت كل مالها على المساعدات في حمص، وصارت هي تعيش على المساعدات: «الشعب السوري حمل بعضه بعضا، ولكن تحت استمرار الضرب والقمع بات بحاجة لمن يحمله». هذا التوصيف يلخص واقعا يوميا ينوء بأحمال ثقيلة، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية عدة أضعاف، كنتيجة طبيعية لتضافر عدة عوامل معا، أهمها الوضع الأمني المضطرب، وانقطاع الطرق، مما جعل حركة النقل بين المحافظات محفوفة بالمخاطر، بالإضافة لتضرر مناطق زراعية واسعة وتلف المحاصيل والمنتجات الزراعية والحيوانية في المناطق المتوترة، في مقدمتها أرياف حمص وإدلب وحماه والغوطة الشرقية ووادي بردى، منها بسبب تدميرها بالقصف العنيف ومنها لاستحالة جنيها، أو لاستحالة نقلها إلى أسواق المدن الكبيرة. يقول مزارع في منطقة الحولة بريف حمص إنه اضطر لرمي منتوجات مواشيه من الحليب في نهر العاصي: «لم أستطع تخزينه في برادات بسبب انقطاع الكهرباء، ولم يشتره مني أحد، ولا توجد أسواق في حمص. ماذا سأفعل بالحليب؟» بينما يقول رامي صاحب سوبر ماركت وسط دمشق «إن أصنافا فاخرة من الأجبان والألبان الحموية لم تعد تصل إلى دمشق لأن المعمل في حماه يعتمد على حليب يأتي من جسر الشغور في إدلب، والطرقات هناك خطرة جدا». لذا، فإن رامي رفع سعر هذا النوع من الأجبان لصعوبة توافره.

إضافة إلى الوضع الأمني المضطرب، تسهم العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، في تعقيد حياة السوريين وتزيدها صعوبة، فاضطراب سعر صرف الليرة السورية وانخفاضها مقابل الدولار يرفع الأسعار على نحو جنوني، لكن عندما تتدخل الدولة وتحاول موازنة سعر الليرة بإجراءات تبدو غير واضحة ولا مدروسة، لا تتراجع أسعار السلع إلى ما كانت عليه، لذا يقول أبو جميل الحمصي: «عندما غادرنا حمص كان لنا عدة أشهر خارج حركة السوق، لا بيع ولا شراء، كل شخص يتقاسم مع جاره رغيف الخبز.. ولدى وصولنا إلى دمشق كنا مثل أهل الكهف». ومع ذلك، يؤكد أبو جميل أنه بمجرد سقوط النظام وتوقف القتل في البلاد، فإن سوريا قادرة على النهوض بنفسها، قائلا «سوريا أم الخير، ولكن للأسف الانفلات الأمني والقصف والتدمير يذهب بالخير والأرواح والأرزاق أدارج الرياح». ويوافق على هذا الكلام رياض المزارع في القصير بريف حمص: «فور توقف القصف العنيف عن المدينة والبساتين، توجه الفلاحون إلى مزارعهم وجنوا محصولهم من الفول والخس والبطاطا وإلخ.. من خضار وفواكه وباعوها أمام منازلهم بأسعار بخسة، ومنها ما وزع مجانا.. إذا عاد القصف سنعود لانتظار مساعدات تأتي من أبنائنا في العاصمة وخارج البلاد».