هولاند يفوز برئاسة فرنسا بعد خسارة تاريخية لساركوزي

الرئيس المنتخب يستعد لمعركة الانتخابات التشريعية الشهر المقبل

ساركوزي وزوجته كارلا يغادران بعد الإدلاء بصوتيهما في باريس أمس (أ.ب)
TT

قلب الناخبون الفرنسيون أمس صفحة حكم اليمين وفتحوا أبواب قصر الإليزيه مجددا أمام اليسار بعد غياب دام 17 عاما. فقد فاز المرشح اليساري فرنسوا هولاند بالرئاسة بحصوله، وفق النتائج الأولية، على 52 في المائة من أصوات الناخبين، فيما حصل الرئيس المنتهية ولايته على 48 في المائة منها. ووصلت المشاركة إلى 80.4 في المائة محققة بذلك ارتفاعا متواضعا قياسا إلى ما كانت عليه في الدورة الأولى قبل 15 يوما.

ولم تحدث «المفاجأة الكبرى» التي وعد بها نيكولا ساركوزي أنصاره، كما فشلت استراتيجيته الانتخابية في انتهاج خط يميني متشدد يغازل طروحات اليمين المتطرف في مواضيع الهوية الوطنية والإسلام والأمن والهجرة، في اجتذاب ما يكفي من أصوات ناخبي مرشحته مارين لوبين التي حصلت في الجولة الأولى على نحو 19 في المائة من الأصوات. ويبدو أن قرار لوبين الامتناع عن التصويت لأي من المرشحين الذي فهم على أنه رغبة منها في إسقاط ساركوزي، ساهم في إقناع عدد من ناخبيها بحجب أصواتهم عن ساركوزي مما يفسر هامش الفوز المريح الذي حصل عليه الريس الاشتراكي الجديد.

وبعد نصف ساعة فقط من إعلان النتائج الأولية، اعترف ساركوزي بهزيمته في كلمة ألقاها أمام أنصاره. وقال ساركوزي إنه اتصل بهولاند وتمنى له «حظا سعيدا»، كما أعلن أنه بعد هذه النتيجة قرر العودة «مواطنا عاديا» في إشارة منه إلى تخليه عن الحياة السياسية كما كان قد أعلن إبان الحملة الانتخابية.

ووصف ساركوزي النتيجة بأنها «خيار ديمقراطي جمهوري» وأن هولاند «أصبح رئيس فرنسا وبالتالي يتعين إظهار الاحترام تجاهه»، في وقت كانت فيه القاعة تصفر للتعبير عن حنقها من النتيجة. وقال ساركوزي إنه «انخرط في هذه المعركة بكل قواه» لكنه فشل في إقناع أكثرية من الفرنسيين بصواب سياسته.

وشدد ساركوزي على أنه «يتحمل كامل المسؤولية» عن هذه الهزيمة لأنه «قائد لا يهرب من مسؤولياته» مؤكدا أن «عصرا جديدا» قد بدأ وأنه سيكون إلى جانب المواطنين الذين يشاركونه في المثل والقيم. وأنهى ساركوزي كلمته في محاولة للتخفيف من صدمة مناصريه بالقول إن الحياة حافلة بالنجاح والفشل وإنه سيبقى إلى جانب من يدافع عن هذه القيم ولكن في موقع آخر.

وبعكس مناخ الخيبة والهزيمة، سيطرت على مقر الحزب الاشتراكي، خصوصا في ساحة الباستيل، حالة من الهستيريا الجماعية. وعكست تصريحات قادة اليسار وأركان حملة الرئيس المنتخب تفاؤلا بـ«الفصل الجديد» الذي بدأ أمس والآمال التي يفتحها.

ولن تنتهي «الحالة» الانتخابية مع إعلان نتائج أمس؛ بل هناك معركة جدية قد بدأت وهي معركة الانتخابات التشريعية.

وأجمع المراقبون والمعلقون أمس على اعتبار أن التكتيك الانتخابي الذي سار عليه ساركوزي أبعد عنه ناخبي الوسط دون أن يعطيه الملاءة الانتخابية الكافية من جانب اليمين المتطرف. وثمة عامل آخر لعب ضد ساركوزي هو أن نسبة لا بأس بها من الناخبين لم تصوت لصالح المرشح الاشتراكي أو لبرنامجه الانتخابي؛ بل صوتت ضد ساركوزي ولتحقيق رغبتها في التخلص منه ولحرمانه من البقاء خمس سنوات إضافية في قصر الإليزيه.

في هذا السياق، تبين أن اللهجة العدائية التي اعتمدها ساركوزي، خصوصا في ما بين الدورتين الأولى والثانية وكما بدت في المناظرة الانتخابية ليل الأربعاء الماضي، لعبت ضده. وفي المقابل، فإن نتيجة أمس أثبتت صواب الخط الذي التزم به هولاند الذي كان «أقل عدوانية» من ساركوزي وأحرص على الدعوة إلى تجمع الفرنسيين وتهدئة النفوس. ولم يكف تركيز الرئيس الخاسر على عدم تحلي هولاند بالخبرة الكافية ليدير شؤون البلاد بوصفه لم يشغل أبدا منصبا وزاريا وأمضى وقتا طويلا من حياته السياسية أمينا عاما للحزب الاشتراكي وأنه لن يكون قادرا على «حماية» الفرنسيين في عالم متغير ومعولم.

وسيدخل ساركوزي تاريخ الجمهورية الخامسة بوصفه الرئيس الثاني الذي فشل في تجديد ولايته بعد الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان الذي خسر المنافسة الانتخابية في وجه مرشح اشتراكي آخر يمثل القدوة بالنسبة لهولاند وهو فرنسوا ميتران. وكان ميتران نجح في الفوز مرتين بالرئاسة عامي 1981 (في مواجهة جيسكار ديستان) وعام 1988 (في مواجهة جاك شيراك) بحيث بقي 14 عاما في قصر الإليزيه.

وقبل أن ترتسم صورة الرئيس الفرنسي الجديد على شاشات التلفزة الفرنسية في تمام الساعة الثامنة مساء، شهدت ساحة الباستيل الشهيرة التي هي رمز الثورة الفرنسية والتخلص من النظام القديم، وكذلك حي سولفيرينو حيث يقع مقر الحزب الاشتراكي قريبا من البرلمان، تدفق الآلاف من المواطنين. وجالت باريس والمدن الكبرى قوافل السيارات مطلقة العنان لمنبهاتها. وساد في باريس مناخ الفرح وأجواء احتفالية قريبة مما عرفته العاصمة الفرنسية عام 1981، بينما خيمت الخيبة على قاعة «موتوياليته» حيث تجمع أنصار الرئيس ساركوزي.

وحتى الساعة الثامنة، بقي هولاند في مدينة تول (وسط فرنسا) التي يرأس مجلسها البلدي قبل أن يرجع إلى باريس ليلا من أجل التحدث لمناصريه وناخبيه في ساحة الباستيل.

ولن تنتهي فرنسا من هموم الانتخابات مع إسدال ستارة الرئاسيات؛ إذ إن الناخبين مدعوون مجددا للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التشريعية يومي 9 و16 يونيو (حزيران) المقبل. وإذ نجح هولاند في إعادة اليسار إلى قصر الإليزيه، فمن المرجح أن تمنحه الانتخابات التشريعية الأكثرية النيابية التي يحتاجها من أجل تطبيق برنامجه الانتخابي الذي يقوم على محاربة البطالة والتركيز على النمو الاقتصادي وإرساء نظام ضريبي أكثر ملاءمة للطبقات المتوسطة والدنيا وإيلاء النظام التعليمي الأولوية التي يحتاج إليها وإقامة الجمهورية الحيادية والعلمانية. وإذا توافر له ما يريد، فإن اليسار يكون عندها قد سيطر على السلطتين التنفيذية والتشريعية تماما وأمسك بكل مقاليد الحكم في البلاد، وهو الأمر الذي لم يحصل حتى إبان حكم الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران.

وفي أي حال، لن تكون للرئيس الذي سيدخل «نعيم» الإليزيه بعد نحو أسبوع مهلة للتلذذ بالنصر؛ إذ إن الاستحقاقات الدولية لا تنتظر. وأعلن رئيس المجموعة الاشتراكية في البرلمان جان مارك أيرو أن المرشح هولاند سيتواصل سريعا جدا وربما هذه الليلة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للتحضير لهذه الاستحقاقات المقبلة التي أهمها قمة مجموعة الثماني في كامب ديفيد (قريبا من واشنطن) يومي 18 و19 مايو (أيار) الحالي، تليها قمة الحلف الأطلسي في شيكاغو يومي 21 و22 مايو الحالي. وبعدها بأسبوعين يحين موعد قمة العشرين في مكسيكو في 9 يونيو المقبل، وما بين هذه القمم، يريد هولاند قمة غير رسمية للزعماء الأوروبيين ليطرح دعوته إلى استكمال التوافق الأوروبي حول مشكلة الديون والسيطرة عليها بقسم يشدد على العمل لصالح معاودة إطلاق النمو الاقتصادي على المستوى الأوروبي لمساعدة الاقتصادات الأوروبية المريضة على الإقلاع وبالتالي تفادي سياسات التقشف. وسيحل موعد القمة الأوروبية الرسمية أواخر الشهر الحالي.

وهكذا تلج فرنسا مرحلة سياسية جديدة؛ حيث سيسيطر اليسار على كل مفاصل السلطة في فرنسا؛ إذ إنه ممسك بالسلطة التنفيذية كما أنه يتمتع بالأكثرية في مجلس الشيوخ. وينتظر أن يعطي الناخبون الرئيس الجديد الأكثرية البرلمانية لتطبيق برنامجه وذلك في إطار التيار القوي الذي تحقق مع الانتخابات الرئاسية. ومن ملامح هذه المرحلة المطبات التي ستصيب اليمين مع فتح باب تصفية الحسابات وتحميل المسؤوليات. ومعروف أن زعيمي الوسط واليمين المتطرف ينظران نحو حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» لاقتطاع ما يمكن اقتطاعه وإعادة تشكيل الحياة السياسية الفرنسية.

وبأي حال، يصعب منذ الآن الإلمام بكل تفاصيل الصورة السياسية التي ستظهر في فرنسا ولا إمكانية للحكم على حالتها الاقتصادية والاجتماعية في الأشهر المقبلة مع استمرار الأزمة، لكن المؤكد أن الرئيس السابع للجمهورية الخامسة عازم على تطبيق برنامجه كما أنه عازم على إعادة الوحدة والوئام إلى المجتمع الفرنسي. أما نتيجة كل ذلك، فإنها اليوم تنتمي إلى عالم الغيب ويتعين الانتظار عدة أسابيع لقياس «حرارة» المجتمع الفرنسي في ظل الاشتراكيين واليسار.