هولاند منكب على تشكيل حكومته الأولى.. وميركل وكاميرون يتقربان منه بعد أن رفضا استقباله مرشحا

اليسار مؤهل للسيطرة على جميع مفاصل السلطات في فرنسا.. واليمين يطالب بالتوازن والتعددية

الرئيس المنتخب فرانسوا هولاند يحيي مؤيديه من شرفة مقر الحزب الاشتراكي في باريس أمس (أ.ف.ب)
TT

انهالت التهاني من كل حدب وصوب على الرئيس الفرنسي المنتخب فرنسوا هولاند حتى من القادة الأوروبيين الذين رفضوا استقباله أثناء الحملة الانتخابية أمثال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وهي الحجة التي استخدمها معسكر الرئيس نيكولا ساركوزي لمهاجمته والادعاء أنه غير معروف على المسرح العالمي وبالتالي سيكون قاصرا عن الدفاع عن مصالح فرنسا. وها هي ميركل تعلن أنها ستستقبله بـ«ذراعين مفتوحتين»، وكاميرون يؤكد أنه راغب في التعاون معه. وما وصل من الزعيمين الأوروبيين ليس سوى غيض من فيض ما انصب من زعماء العالم على الرئيس الاشتراكي الجديد، مما يظهر أن هولاند أصاب حين قال إن انتخابه «سيغير المعطيات» على الأقل الأوروبية منها وسيحرك مياهها الآسنة لبلورة اتفاق جديد بين أعضائها الـ27 بشأن إدارة الديون وإطلاق عجلة النمو الاقتصادي.

ومنذ صباح الاثنين، بدأ الرئيس الجديد سلسلة اجتماعات مع قادة الحزب الاشتراكي ومع أقرب مستشاريه ومع القوى السياسية التي دعمته، للبحث في تشكيل فريق حكومي منسجم وصلب تتوافر فيه المساواة بين النساء والرجال ويتمتع بخبرة كافية، مع التركيز على إدخال دماء جديدة على الجهاز الحكومي والاستشاري. وحتى الآن برز لمنصب رئيس الحكومة اسمان، هما أمين عام الحزب الاشتراكي وزيرة الشؤون الاجتماعية السابقة مارتين أوبري، ورئيس المجموعة الاشتراكية في البرلمان «الحالي» رئيس بلدية مدينة نانت (غرب فرنسا) جان مارك أيرول، لتولي هذا المنصب. لكن هولاند لم يدل بأي شيء بهذا الخصوص ويحرص على عدم الكشف عن نياته، أقله علنا، رغبة منه في تفادي الضغوط ولكي يبقى طليق اليدين. والأهم من ذلك أن هولاند يعي أنه لا يتمتع بـ«فترة سماح» كالتي يتمتع بها عادة الرؤساء المنتخبون حديثا بل عليه وفورا التحضر للاستحقاقات الداخلية والأوروبية والدولية. ولخص رئيس حملته الانتخابية النائب بيار موسكوفيتسي هذه الحالة بقوله: «علينا التشمير عن سواعدنا وبدء العمل فورا».

وإلى جانب اسم لوران فابيوس رئيس الحكومة الأسبق المطروح بقوة مرشحا لتولي حقيبة وزارة الخارجية، فإن اسم الوزير السابق رئيس إقليم بروتاني جان إيف لودريان، مرشح لشغل منصب وزارة الدفاع، بينما يعتبر ميشال سابان وزير الاقتصاد السابق الأبرز لإعادة شغل هذا المنصب. ويتم تداول اسم النائب والمسؤول الاشتراكي الإسباني المولد مانويل فالس لوزارة الداخلية. ولعب فالس الذي تنافس على ترشيح الحزب الاشتراكي للرئاسة دورا مهما إلى جانب هولاند حيث كان مسؤولا عن إدارة معركته الإعلامية. وينتمي فالس إلى الجناح اليميني في الحزب الاشتراكي ولذا فإنه من أنصار السياسة الحازمة إزاء الهجرة غير الشرعية والمحافظة على الأمن، الأمر الذي من شأنه أن يهدئ من روع اليمين وشريحة السكان التي تتخوف من أن يكون انتخاب هولاند بابا لتشريع الهجرة وتفلتها من أي رقابة. لكن يتعين على هولاند أيضا إرضاء الخضر والجناح اليساري المتشدد الذي وقف إلى جانبه والذي كانت أصواته حاسمة لتحقيق الفوز مع الإبقاء على الطابع المهني الرفيع للحكومة العتيدة التي سيكون عليها قيادة العملية الإصلاحية في ظروف اقتصادية ومالية بالغة الصعوبة. غير أن معركة هولاند الذي من المنتظر أن يدخل قصر الإليزيه رسميا في 15 من الشهر الجاري لم تنته مع إعلان النتائج مساء الأحد. فبعد المعركة الرئاسية بدأت مباشرة معركة الانتخابات التشريعية التي ستجري دورتاها يومي 10 و17 يونيو (حزيران) المقبل. ويحتاج هولاند لأكثرية نيابية صلبة تمكنه من تطبيق برنامجه الرئاسي ابتداء من اليوم الأول لتسلمه مهماته الدستورية. ويتكون المجلس النيابي الذي تتطابق ولايته مع الولاية الرئاسية (خمس سنوات) من 577 نائبا يحظى اليمين، في المجلس الحالي، بأكثرية 305 مقاعد مقابل 197 مقعدا للاشتراكيين وحلفائهم. ويريد اليسار استكمال انتصاره الرئاسي بالفوز بالغالبية المطلقة في هذه الانتخابات، بينما سيسعى اليمين إلى الحد من الهزائم التي لحقته والتي تكاد تفكك صفوفه. ويلج هولاند المعركة النيابية من موقع قوي. فالتيار الذي قاده إلى رئاسة الجمهورية من شأنه أن يمكن الاشتراكيين واليسار، وفق حسابات الخبراء الانتخابيين، من تحقيق الفوز وتوفير أكثرية مريحة له تمكنه من الحكم طيلة خمس سنوات.

الجدير بالذكر أن حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليميني خسر كل الانتخابات التي جرت ما بين عام 2007 و2012 بعد أن فاز بالانتخابات الرئاسية والتشريعية، وبذلك تمكن من حكم البلاد طيلة السنوات الخمس. ولذا، فإن اليمين سيسعى من الحد من خسائره. غير أن هناك عاملين أساسيين يلعبان ضده: الأول الطموحات المتناقضة التي أطلقت خسارة ساركوزي الأعنة لها، والدور المركزي «السلبي» الذي ستلعبه مارين لوبن وجبهة اليمين المتطرف في هذه الانتخابات.

ولا يخفى على المتابعين للشأن الفرنسي أن ثمة ثلاثة شخصيات من الصف الأول تطمح إلى تزعم الحزب وتوفير الفرص للترشح للانتخابات الرئاسية عام 2017، وهي الأمين العام الحالي النائب جان فرنسوا كوبيه، ورئيس الحكومة الحالي فرنسوا فيون، وبدرجة أقل وزير الخارجية آلان جوبيه. وكل من هؤلاء بحاجة لأن يكون الحزب خلفه إذا كان يريد حقيقة أن تتوافر له الحظوظ للترشح والفوز. غير أن حزبا بثلاثة رؤوس لا يستطيع أن يصنع العجائب، وسيكون الاختبار الأول له تعيين من سيقود المعركة النيابية. وبعد هزيمة ساركوزي، فقد السطوة في فرض إرادته، ولذا فإن معارك داخلية دامية ستحصل بين تيارات الحزب وحساسياته المختلفة في الأسابيع والأشهر المقبلة. وهنا يدخل دور مارين لوبن التي يتهمها اليمين بإسقاط مرشحه ساركوزي في الانتخابات الرئاسية عندما قررت أنها ستضع ورقة بيضاء في صندوق الاقتراع. ووفق الإحصاءات المتوافرة من وزارة الداخلية، فإن الذين صوتوا بأوراق بيضاء يبلغ عددهم 2.13 مليون صوت، علما بأن الفارق بين هولاند وساركوزي كان في حدود 1.2 مليون صوت.

وتريد الجبهة الوطنية تقديم مرشحين في كل الدوائر الانتخابية. ويسمح القانون الانتخابي للمرشح الذي حاز على نسبة 12.5 من الأصوات بأن يشارك في الجولة الثانية، مما يعني أن بقاء مرشحي الجبهة في المنافسة في الدورة الثانية سيمكن مرشحي اليسار في العشرات من الدوائر من الانتصار، الأمر الذي حصل مثلا في عام 1997 وقبلها مرات كثيرة.

وهكذا، يبدو الطريق في وجه الرئيس الجديد، من الزاوية الداخلية، معبدا. وإذا فاز اليسار في الانتخابات المقبلة فإنه يكون قد وضع اليد على كل مفاصل السلطة التنفيذية والتشريعية، فضلا عن سيطرته على غالبية المجالس الإقليمية والمحلية، مما يعني أن «الوردة»، وهي شعار الحزب الاشتراكي، ستكون المهيمنة على فرنسا. من هنا، سارع اليمين إلى طرح الصوت والتظلم سلفا من «أحادية» السيطرة على السلطة، راسما بذلك قاعدة دعايته الانتخابية التي تشدد على ضرورة التعددية السياسية وتوازن السلطات وما شابه ذلك من المعزوفات التي لم يكن يتوقف عندها عندما كان هو الآمر الناهي في فرنسا.