الثابت والمتحول في سياسة فرنسا الخارجية تحت حكم هولاند

ترجيح تعيين رئيس الحكومة الأسبق لوران فابيوس وزيرا للخارجية

TT

سيتسلم الرئيس الفرنسي المنتخب فرنسوا هولاند سلطاته الدستورية من سلفه الرئيس نيكولا ساركوزي يوم 15 من الشهر الحالي. وسيكون أول عمل رسمي يقوم به، عقب ذلك، تسمية رئيس حكومة جديد ثم إعلان تشكيل وزارة العهد الأولى. والمرجح أن يعهد هولاند إلى رئيس الحكومة الأسبق، لوران فابيوس، وزارة الخارجية علما بأنه كلفه، إبان الحملة الانتخابية، مهام استطلاعية دبلوماسية في الشرق الأوسط وبلدان جنوب شرقي آسيا.

وقالت مصادر فرنسية رسمية إنه من المنتظر، بعد أن تكتمل الحكومة وطواقم المستشارين، إن في قصر الإليزيه أو رئاسة الحكومة أو الدواوين الوزارية، أن تعمد باريس إلى «مراجعة شاملة» لسياستها الخارجية التي كانت «الغائب الأكبر» عن الجدل الانتخابي. وترى هذه المصادر أن استبعاد شؤون العالم خلال الحملة الانتخابية، باستثناء الملف الأوروبي الذي أصبح ملفا داخليا أكثر منه في الشؤون الخارجية، «يعني أن لا خلافات جوهرية» بين المرشحين السابقين والرئيسين المنتخب والمنتهية ولايته؛ باستثناء الملف الأفغاني. وأعلن هولاند أنه ينوي تسريع انسحاب القوات الفرنسية من أفغانستان، حيث «لم يعد لها دور هناك» ليتم إنجازه بحلول نهاية العام الحالي بينما كان ساركوزي يخطط لإتمام الانسحاب نهاية عام 2013.

وتشدد المصادر الرسمية الفرنسية على أمرين؛ أولهما استمرارية الدولة وبالتالي دوام سياستها الخارجية، على الأقل في خطوطها الكبرى، وبالتالي استبعاد حدوث تحولات رئيسية فيها ومن غير أن تكون بمنأى عن بعض «التعديلات الطفيفة» التي غالبا ما تكون، بفعل «مزاج» الرئيس الذي له اليد العليا في ميداني السياسة الخارجية والدفاع اللذين يدخلان في صلب صلاحياته الدستورية. أما الأمر الثاني فيتمثل في أن السياسة الخارجية، في فرنسا أو في غيرها، ترجمة لمصالح الدولة الأساسية خارج حدودها. ولذا، فإن المصادر الفرنسية المعنية مباشرة بهذه الملفات، لا ترى على المدى القريب تحولات ذات معنى. ولكنها، ومن باب الحذر، تدعو لانتظار التسميات الجديدة في الوظائف الوزارية والاستشارية العليا وما سيصدر عن عملية المراجعة الشاملة قبل أن يتحول التخمين إلى يقين. وفي أي حال، فإن الفريق الوزاري والاستشاري الذي سيعمل مع هولاند بحاجة لأن يبدأ سريعا لأن «الاستحقاقات الدولية» قريبة جدا. وسيكون الشهر المقبل «شهر القمم» الأوروبية «بدايته» وقمة مجموعة الـ8 (18 و19 يونيو/ حزيران في كامب ديفيد)، والأطلسية (شيكاغو، 20 و21 الشهر نفسه)، تليها بعد أقل من 3 أسابيع قمة الـ20 في مكسيكو. فضلا عن ذلك، سينشط هولاند على الصعيد الثنائي ليظهر للذين أخذوا عليه فقدانه التجربة في الحقل الدولي أن استمرارية وجود فرنسا على الساحة الدولية مؤمنة كليا. وأول قممه ستكون مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي رحبت باستقباله في برلين بعد أن كانت قد رفضت لقاءه عندما كان مرشحا.

تستبعد المصادر الفرنسية ذات العلاقة الوثيقة بالملفات التي تهم العالم العربي والشرق الأوسط حدوث تغييرات ذات معنى في توجهات الدبلوماسية الفرنسية «الجديدة» حول إيران والخليج وإزاء الملف السوري والوضع في لبنان أو النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. وقالت هذه المصادر إن هناك «إجماعا على التوجهات الأساسية» لسياسة باريس إزاء هذه الملفات وبالتالي فإنها «لا ترى سببا» لإعادة النظر بها. أما إذا حصلت تبدلات فستكون «على الهامش».

ترجح المصادر الفرنسية الرسمية أن يبقى الموقف الفرنسي المتشدد إزاء إيران على حاله، وبالتالي استمرار «المقاربة المزدوجة» التي يتبعها الغرب إزاء طهران والقائمة على الاستمرار في العقوبات والضغوط السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، وفي الوقت عينه ترك باب الحوار والتفاوض مفتوحا مع طهران، مع التركيز على معارضة باريس اللجوء إلى القوة العسكرية في الخليج لما له من تأثير على استقرارها وأمنها. غير أن باسكال بونيفاس، وهو أكاديمي ورئيس معهد البحوث في العلاقات الدولية والاستراتيجية، ينتقد السياسة الساركوزية التي يرى أنها «الأكثر راديكالية من بين كل الدول الغربية لا بل إنها تذهب أبعد مما تذهب إليه سياسة الرئيس أوباما». ويضيف بونيفاس أن ساركوزي جعل من النووي الإيراني «مسألة محورية»، بينما يرى كثير من المراقبين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو «يستغلها لأغراض سياسية داخلية». ولذا، يرجح الباحث الفرنسي أن «تقترب» سياسة هولاند من خط الإجماع الذي تقف عنده الدول الغربية فلا يذهب أبعد منه. وسيكون اجتماع بغداد بين مجموعة الـ6 (الدول الـ5 دائمة العضوية وألمانيا) في بغداد يوم 23 الحالي «أول اختبار» لمعرفة ما إذا كانت فرنسا ستحذو حذو الآخرين وستتوقف عن التصرف كأنها «حارسة الهيكل» وفق تعبير دبلوماسي فرنسي رفيع المستوى.

ولا تختلف نظرة هولاند عن نظرة ساركوزي إلى موضوع الخليج بشكل عام حيث تتمسك فرنسا باستقرار المنطقة وأمنها وبالحاجة إلى إبقاء منافذ البترول مفتوحة أمام الناقلات. ويقول خبراء عسكريون إن باريس «معنية جدا» بما قد يحصل في الخليج الذي تربطها بالكثير من بلدانه اتفاقات دفاعية وعسكرية (الكويت، وقطر، والإمارات العربية المتحدة). فضلا عن ذلك، فإن لفرنسا قاعدة عسكرية متعددة الأغراض في أبوظبي أي مقابل الشواطئ الإيرانية. وتنص إحدى فقرات معاهدة الدفاع المشتركة بين باريس وأبوظبي على التزام فرنسا الدفاع عن الإمارات في حال تعرضها لاعتداء.

وكما أن الخبراء يستبعدون انسحاب فرنسا مجددا من القيادة الأطلسية الموحدة، فإنهم يستبعدون أن تعمد إلى إغلاق هذه القاعدة التي لها بالطبع أهداف سياسية واستراتيجية وعسكرية ولكنها أيضا واجهة للسلاح والعتاد الفرنسيين في المنطقة. وتعد بلدان الخليج من أكبر زبائنه. ومعلوم أن باريس تسعى لبيع الإمارات طائرات «رافال» المقاتلة، وأن المفاوضات تتواصل بعد سنوات من المساومات المضنية. لكن دبلوماسيين عربا في باريس تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» توقعوا أن تتغير العلاقات مع بعض القادة الخليجيين «في الشكل وليس في المضمون» بالنظر إلى أن ساركوزي كان له «أسلوبه» في التعامل، الأمر الذي يمكن أن يتبدل مع هولاند الذي تختلف طباعه عن الأول.

وفي الموضوع السوري، ترى المصادر الفرنسية أن هناك «توافقا» بين الرئيسين حول الحاجة إلى حل سياسي المقصود به تخلي الرئيس السوري، بشار الأسد، عن السلطة وتنظيم انتخابات نزيهة، والابتعاد عن الحلول العسكرية التي هي، في أي حال، مستبعدة في الوقت الحاضر بسبب المعارضة الروسية (والصينية) وبسبب الحملة الرئاسية الأميركية والحاجة إلى «تمرير» الوقت وإدارة الأزمة من خلال دعم خطة المبعوث الدولي كوفي أنان. وترى المصادر الفرنسية أن خطة أنان هي «الوحيدة» الموجودة على الطاولة في الوقت الحاضر.

وكان اجتماع وزراء خارجية 15 دولة من مجموعة أصدقاء الشعب السوري بينهم الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، قرروا الحاجة إلى البحث عن «بدائل» في حال فشلت الخطة. لكن أحدا لم يكشف طبيعة هذه البدائل. ويرى بونيفاس أن ثمة حاجة «لأخذ مصالح روسيا بعين الاعتبار لأنها الجهة الوحيدة القادرة على التأثير، وهو الأمر الذي لم يتم حتى الآن». وكان هولاند قد أعلن أنه سيدفع فرنسا للمشاركة في عمل عسكري ضد سوريا إذا تم ذلك بقرار من مجلس الأمن الدولي.

وفي الموضوع اللبناني، يتمسك الجانبان بعلاقات فرنسا التاريخية بهذا البلد والتزامهما بأمنه وسيادته واستقراره، الأمر الذي ينطبق على اليمين واليسار معا. ويشكل بقاء القوة الفرنسية في إطار قوات اليونيفيل أفضل «ترجمة» للالتزام الفرنسي.

وأكدت المصادر عزم باريس على إبقاء قواتها هناك دون أن يعني ذلك الامتناع عن تخفيضها، إذ إن الأساس في نظرها هو الوجود على الأرض وليس العدد. وترى باريس أن ثمة «مخاطر» ترخي بظلالها على لبنان، وأن من مهام فرنسا «مساعدته» على تجاوزها بأقل قدر ممكن من الخسائر.

هكذا تبدو السياسة الخارجية قريبة من البقاء في أطرها المعروفة، بما في ذلك إزاء النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، حيث تشدد باريس على الحاجة إلى «تغيير في المقاربة» التي لم تعط حتى الآن أي نتيجة إيجابية، مع التأكيد على أن الهدف المنشود هو إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. لكن المصادر الفرنسية ترى أن نتنياهو «لا يعتبر أن ثمة عاملا ضاغطا من شأنه أن يحمله عن التزحزح من موقعه»، ولذا فإنه «لا يتحرك».

يبقى أن انفتاح باريس على «الربيع العربي» وعلى الحركات الإسلامية لا يبدو أنه سيتغير. وإذا كانت المصادر الفرنسية لا تبدو سعيدة بالمسار الذي تسلكه الأمور أحيانا، فإنها تتمسك بخطها الأساسي وهو استعدادها للتحاور والعمل مع الحركات التي تقبل اللعبة الديمقراطية وترفض العنف ولا تتجاوز «عددا من الخطوط الحمراء» مثل الحريات ودور المرأة وخلاف ذلك.