مخاوف في النجف من مساعي إيران لفرض مرشحها خلفا للسيستاني

شهرودي مهد للخلافة بإنشاء مكتب له في معقل المرجعية.. والمالكي التقاه في زيارته الأخيرة لطهران

صورة تعود إلى عام 2005 تجمع بين الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وآية الله محمود هاشمي شهرودي (أ.ب)
TT

تتنوع فتاوى آية الله العظمى علي السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى، لتشمل شتى مناحي الحياة كالطعام والغسل والزواج والجنائز. وفي الشؤون الدنيوية، أيد السيستاني العملية الديمقراطية في العراق مصرا على إجراء انتخابات مباشرة منذ اليوم الأول للاحتلال وحذر من قيام حكم ديني على النمط الإيراني.

ورغم بلوغه الواحدة والثمانين، لا يزال السيستاني يمارس تقليده اليومي بتحية زائريه كل صباح في منزله الكائن في شارع جانبي ضيق، لا يبعد سوى بضع خطوات عن القبة الذهبية اللامعة لضريح الإمام علي. لكن المناورات لخلافته بدأت بهدوء، حيث تحاول إيران الدفع بمرشحها، رجل الدين المتشدد الذي سيمنح طهران نفوذا مباشرا على الشعب العراقي، لنيل هذا المنصب، مما يؤجج المخاوف من الهدف الإيراني بعيد المدى بنقل ثورتها الإسلامية إلى العراق.

وقد تحدد خلافة السيستاني، وهي عملية طويلة ومبهمة ونتائجها غير مضمونة بأي حال من الأحوال، العلاقة بين الإسلام والديمقراطية لا في العراق وحده حيث يشكل الشيعة غالبية السكان، بل في العالم الشيعي الذي يمتد من الهند إلى إيران ولبنان وما سواهما. وتلقي المنافسة مزيدا من الشك على الديمقراطية الوليدة في العراق، التي تعيش سياساتها حالة من الاضطراب حيث تتنافس فصائلها الثلاث - الشيعة والسنة والأكراد - على السلطة، وهي المنافسة التي يبدي المحللون قلقا من أن تسهم في إعادة البلاد إلى الحكم الاستبدادي مرة أخرى. ويقول محمد بحر العلوم، وهو زعيم سياسي وديني بارز وكان أحد نجليه سفيرا للعراق في الكويت والآخر وزيرا للنفط «العراق ليس في حاجة إلى هذا النزاع الآن، حفظ الله السيستاني».

مرشح إيران هو آية الله محمد هاشمي شهرودي، العراقي المولد والذي رأس النظام القضائي الإيراني لعشر سنوات، ولا يزال مسؤولا بارزا في الحكومة هناك. وبتمويل من إيران قام ممثلوه على مدى شهور بإنشاء شبكة رعاية عبر العراق، وتأمين منح دراسية للطلاب في العديد من المدارس في النجف وتوزيع المعلومات. ويقول مهدي الخلاجي، زميل بارز في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي قضى 14 عاما في دراسة المدارس في قم: «إنه يعد نفسه هناك لخلافة السيستاني».

أثارت هذه الخطوة مخاوف من محاولة إيران بسط نفوذها المتشعب بالفعل في الحياة السياسية والاقتصادية في العراق. كما أثارت الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى طهران، حيث التقى شهرودي، مزيدا من التوترات. ويعتقد المؤرخ ريدار فيسر في مدونته عن السياسة العراقية أن زيارة المالكي: «لم تفعل شيئا للقضاء على الشائعات بشأن نوايا إيران».

وعملية اختيار المرجع الأعلى معقدة وعفوية إلى حد ما تعتمد على إرادة الشعب، معبرة عمن يختارونه ليقدموا إليه زكاة أموالهم (الخمس) والمصادقة على المنحة الدراسية للزعيم الروحي من قبل بقية المراجع. ويقول ولي ناصر، وهو مسؤول سابق بوزارة الخارجية الأميركية وأكاديمي ومؤلف كتاب: «إحياء المذهب الشيعي»: «لا تستطيع الحكومة الإيرانية إملاء رغباتها على خيارات الشيعة، فهي عملية ديمقراطية خالصة».

وقد يتطلب الأمر سنوات عدة قبل الإعلان عن الخليفة القادم.

ويقول سامي العسكري، السياسي الشيعي الذي عاش في المنفى في إيران، والذي يعرف آية الله شهرودي منذ وجوده هناك: «سيتطلب الأمر من النجف عامين أو ثلاثة قبل ظهور المرجع الجديد. إنها ليست كالفاتيكان، فعملية الاختيار بطيئة ومعقدة، لأن المرجعية هيئة قيادية شيعية في العراق».

جدير بالذكر أن النجف وحوزتها العلمية دأبت على النأي بنفسها عن الخوض في السياسة والالتزام بحياة التقوى والزهد والتدخل في الشؤون السياسية إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك. وقد تمكن آية الله السيستاني الإيراني المولد، من الإقامة في النجف بشكل جزئي لأنه لم يكن متورطا في السياسات الإيرانية. وتدخل في اللحظات الحاسمة خلال فترة الاحتلال الأميركي، كان من بينها الحدث الأبرز عندما دعا مئات الآلاف من أنصاره في عام 2004 إلى النزول إلى الشوارع للمطالبة بإجراء انتخابات مباشرة على الرغم من اعتراض السلطات الأميركية، وكان أيضا صوت الاعتدال وضبط النفس خلال سنوات المذابح الطائفية عندما كان العراق على حافة السقوط في أتون الحرب الأهلية.

لكنه رفض على مدى أكثر من عام لقاء السياسيين - فنادرا ما كان يغادر منزله خلال السنوات الأخيرة - وكان عرضة لشائعات متصلة بشأن اعتلال صحته. بيد أنه في صباح أحد الأيام القريبة، كما يفعل في كل صباح، حيا زائريه الذين اصطفوا خارج منزله المتواضع المحاط بواجهات المتاجر التي تبيع الأغراض الدينية، ووافق على لقاء مراسل صحيفة «نيويورك تايمز»، على الرغم من رفضه إجرائه مقابلة معه. جلس السيستاني في غرفة فسيحة مفروشة بالسجاد الإيراني، وساعده مساعدوه للوقوف لمصافحة زائريه وتبادل معهم عبارات المجاملة ولم تظهر عليه أي علامات عن معاناته من مرض خطير.

يثني رجال الدين الشيعة على علم آية الله شهرودي، ويعود ذلك إلى تلقيه تعليمه على يد آية الله محمد باقر الصدر، الذي اغتيل في عام 1980 من قبل نظام صدام حسين ولا يزال شخصية تحظى بتقدير بارز. بيد أن رجال الدين هنا يفضلون رؤية زعيم مقيم في النجف يرتقي إلى مستوى آية الله لحماية نهج النجف الأكثر سلميا. ويقول بحر العلوم: «كان شهرودي يشغل منصبا رسميا في إيران، حيث عمل رئيسا للسلطة القضائية، والنقطة المهمة بالنسبة للحوزة في النجف هي الاستقلالية، والاستقلال الكامل عن أي نوع من الحكومات، حتى ولو كانت الحكومة العراقية».

ويقول محمد المنا - خاني، رجل دين بارز: «لقد تغير نهج شهرودي في التفكير، فلو كان لا يزال مقيما في النجف ومحتفظا بنفس الآراء التي تعلمها من الصدر، لكان أفضل بالنسبة له، لكن إقامته 30 عاما في إيران كان لها أثر واضح عليه». ولا تتواتر معلومات كثيرة عن شهرودي هنا في النجف، لكن المعلومات الضئيلة التي يتم تناقلها تحوي تفاصيل عن حياته ونفيه وصعوده نجمه في الحياة السياسية، وتعاطفه الشديد مع الإسلام المتشدد، والذي يقف على طرف نقيض مع ما دأبت عليه النجف. تتلمذ شهرودي في النجف على يد آية الله الخميني، قائد الثورة الإسلامية عام 1979، والذي قال عنه في سيرته الذاتية بأنه «أكبر نعمة منّ بها على المؤمنين في هذا الزمان». وعندما قام شهرودي بالتدريس في قم كان من بين طلابه حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني. وتظهر الصورة في نهاية الكتاب آية الله شهرودي إلى جانب المتشدد الإيراني الشهير مصطفى جمران، الذي حصل على الدكتوراه من بيركلي، والذي انضم إلى الثورة وأسس حركة أمل الشيعية في لبنان قبل مقتله في الحرب الإيرانية - العراقية عام 1981.

ويؤكد شهرودي على معاناته في ظل حكومة صدام حسين - فقد اختفى ثلاثة من أشقائه ولا يزال مصيرهم مجهولا. ويقال أيضا إنه ثري في تناقض صارخ لما يتوقعه المؤمنون من قادتهم والذي تجسد في آية الله السيستاني. ويقول الخلاجي، المحلل والطالب السابق في قم: «شهرودي واحد من أثرى الشخصيات في إيران. فهو يستورد البضائع، وله شركات ويمتلك الكثير من المصانع. وحياته الشخصية مترفة». وأشار إلى أن شهرودي بحكم كونه أحد أعضاء الحكومة الإيرانية، حقق ثروة في السنوات الماضية عبر استيراد قطع غيار السيارات ومعدات لاستكشاف النفط من أوروبا الشرقية.

لم يزر آية الله شهرودي النجف منذ أن بدأ ممثلوه في إنشاء مؤسسته هنا، ويقول إبراهيم البغدادي، عراقي يدير مكتب شهرودي في النجف: «إنه يرغب في الحضور وزيارة المدينة، فهي بلاده ومسقط رأسه». ووصف البغدادي التوترات المحيطة بوجود مؤسسة شهرودي في النجف بأنها محاولة من آخرين في المجتمع الديني لإرباك الشارع. وأشار إلى أن نظام الحكم الإيراني لا يصلح في العراق: «الدستور هنا هو السائد، والعراقيون صوتوا لذلك». وتشكل المجاهرة بالسعي لخلافة آية الله السيستاني انتهاكا للتقاليد المرعية ولهذا يكتفي البغدادي بالقول «بالنسبة للمستقبل، لا أحد يدري. الأمور بيد الله».

* خدمة «نيويورك تايمز»