جنوب القاهرة يستعيد تاريخه في انتخابات الرئاسة

خرج من ضواحيها قيادات الحكم والمال والمعارضة على مر العصور

TT

بدت ضواحي جنوب القاهرة أمس كمن يستعيد نفسه من التاريخ القديم، بمناسبة أول انتخابات رئاسية حقيقية على الإطلاق في البلاد. ومنذ أكثر من ألف سنة تأسست هنا، ولقرون، ثلاث عواصم لمصر، كانت عامرة بالسياسة والتجارة والمؤامرات. وفي نصف القرن الماضي اشتهرت هذه الضواحي بتخريج قيادات الحكم والمال والمعارضة.

ومن بعيد يتقدم الحاج حسين الطابور الطويل، بـ«عكازه» وطاقيته الزرقاء وثوبه الأبيض، أملا في الوصول إلى غرفة الاقتراع. كان مبنى مدرسة عمر بن الخطاب متهالكا والأرضية ترابية تغطيها القاذورات، أما المقاعد والمناضد داخل غرف الاقتراع الثلاث في هذه المدرسة الواقعة في ضاحية دار السلام بجنوب القاهرة، ففي حالة يرثى لها.

ونظر الحاج حسين حوله وقال، قبل أن يأخذ بيده ضابط جيش من الذين يؤمنون الانتخابات: «جئت لاختيار رئيسي.. سيعيد مصر قوية ونظيفة». وشهدت غالبية اللجان الانتخابية زحاما. اختلط الناخبون في الطوابير الطويلة تحت الحر أملا في الوصول إلى مقر الاقتراع. توجهات مع المرشحين الإسلاميين، وأخرى مع اليسار، وثالثة مع الليبراليين الذين يحلو لنشطاء إطلاق كلمة «فلول» عليهم، للإشارة إلى عملهم مع النظام السابق.

وبين وقت وآخر يتحرك ضابط أو جندي من رجال الجيش لإعفاء رجل مسن أو سيدة عجوز، من الوقوف في الدور، واصطحابه إلى باب غرفة الاقتراع. وفي داخل غرفة اللجنة الفرعية رقم 32 بمدرسة عمر بن الخطاب، كان القاضي المشرف على اللجنة، واسمه الأول عبد الحميد، يتنقل في نشاط مع كل ناخب بداية من البحث عن اسمه في جدول الناخبين، حتى يطمئن بدخول ورقة الاقتراع في الصندوق البلاستيكي الشفاف، ليشير إلى الحرس بإدخال الناخب التالي.

في جنوب العاصمة، من ضاحية السيدة زينب إلى ضاحية المعادي.. غرف الاقتراع ساخنة حارة، وشمس الصيف تضرب من الشبابيك. وفي اللجنة 32 كان العرق يتقاطر من جبين القاضي. وأخيرا دخل الحاج حسين، ووقع أمام اسمه، وأخذ ورقة ووقف وراء ساتر، وعلم على المرشح الذي يريده.

ينتمي حسين لشريحة الطبقة الشعبية التي عانت على مدى عقود من الفقر ونقص الخدمات والمعيشة في مناطق سكنية غير مخططة. كان قديما من عمال الشركة الوطنية للحديد والصلب في ضاحية حلوان جنوبا، وأجبرته سياسات النظام السابق هو وألوف من زملائه على الخروج للتقاعد المبكر في تسعينات القرن الماضي.

وتوجد ثلاث شرائح تصويتية في جنوب القاهرة.. الطبقة الشعبية وتضم موظفين وعمالا لم يستفيدوا من نظام الحكم السابق، ولم يعارضوه بشكل منظم، لكنهم خرجوا مع ملايين المصريين في «ثورة 25 يناير 2011»، مثل الحاج حسين. وشريحة المعارضين الألداء للحكم، والمنظمين في حركات وأحزاب منذ السبعينات، ضد الرئيسين الراحل أنور السادات والسابق حسني مبارك.

أما الشريحة الثالثة فتضم ما يسمى بـ«أنصار الاستقرار» من رجال أعمال وعاملين في الحكومة وموظفين كبار في القطاع الخاص والبنوك.

وعكس الناخبون في ضواحي المعادي ودار السلام والسيدة زينب، وغيرها، خليطا ينتمي إلى مشارب متباينة، ولهذا كان من الصعب تحديد إلى أين تتجه الأصوات، لكن الجدل واللغط عن مستقبل البلاد، يذكرك بالحال الذي كانت عليه جنوب القاهرة قديما، حين كانت عاصمة عامرة منذ بداية الفتح الإسلامي، بأسماء مختلفة منها «العسكر» و«القطائع» و«الفسطاط»، حيث كانت تعج بصراعات الأمراء والتجار وقادة الجند.

ويوجد هنا أيضا مجمع الأديان الذي يعبر عن التسامح والتعايش، ويضم مساجد وكنائس ومعابد يهودية. وقال الحاج حسين وهو يخرج: «قد لا يمتد بي العمر للتصويت في انتخابات أخرى، لكن ما قمت به اليوم جعلني أشعر بأنني أولد من جديد».