عبد الله غل: العرب يسيئون فهم العلمانية.. والمفهوم الأنغلوساكسوني بأميركا وبريطانيا مريح

قال في حوار تنشره «الشرق الأوسط»: 1500 قتلوا منذ إعلان وقف النار في سوريا

الرئيس التركي عبد الله غل («الشرق الأوسط»)
TT

دعا الرئيس التركي عبد الله غل دول الربيع العربي إلى تبني مفهوم العلمانية الأنغلوساكسوني المطبق في بريطانيا والولايات المتحدة معتبرا أن العلمانية يساء فهمها في هذه البلدان بسبب النموذج الفرنسي من العلمانية وهو النموذج «اليعقوبي» الذي يفرض نوعا معينا من معاداة الأديان. وقال في حوار تنشره «الشرق الأوسط» أجراه ناثان غارديلز، رئيس تحرير شبكة «غلوبال فيوبوينت»، مع غل خلال زيارته للولايات المتحدة لحضور قمة حلف الناتو التي عقدت في شيكاغو قبل أيام إن الموقف التركي تجاه البرنامج النووي الإيراني واضح وضوح الشمس، فـ«نحن نعارض بشكل قاطع وجود أسلحة الدمار الشامل في منطقتنا. فسوف تؤدي محاولات تطوير أو الحصول على أسلحة الدمار الشامل إلى نشوب سباق تسلح نووي في منطقتنا»، ولكنه أكد أيضا على رفض الحل العسكري. وبالنسبة إلى سوريا أكد على ضرورة تنفيذ البنود الستة في خطة أنان. وإلى نص الحوار.

* بدأ نموذج العولمة التي قادته الولايات المتحدة الأميركية في التواري في الوقت الراهن، نظرا للصعود الهائل للقوى الناشئة، لتظهر بدلا منه حقبة جديدة من العولمة التي تتسم بـ«الحداثة غير الغربية» والاعتماد المتبادل بين الهويات المتعددة. تمتلك الصين، التي بدأت في إعادة إحياء بعض تقاليدها الكونفوشيوسية القديمة في الوقت الذي تشهد فيه البلاد ازدهارا اقتصاديا، وتركيا، وهي دولة علمانية يحكمها حزب ذو توجهات إسلامية، أسرع اقتصادين نموا في العالم في الوقت الراهن. كيف ترى هذا العالم المتطور، بينما تنظر من نافذة الإمبراطورية العثمانية القديمة؟

- ما نراه اليوم هو دائرة تكمل بعضها. فمنذ عدة قرون، كانت الصين هي الاقتصاد الأهم في العالم، ثم جاءت الثورة الصناعية واحتلت بريطانيا صدارة اقتصادات العالم وتبعها الولايات المتحدة الأميركية. أما الآن، فيعود مركز الثقل الاقتصادي في العالم مرة أخرى إلى ما كان عليه الوضع في الماضي، حيث تنتشر الثروة في شتى أنحاء العالم. نحن نحيا في عالم تعددي به الكثير من مراكز القوى، حيث لم يعد من الممكن ترتيب أولويات الهويات، كالهوية «الغربية» أو «الإسلامية» أو «الصينية».

أنت محق تماما بالقول أن ما تسمى بالحداثة، كما وصفتها، لم تعد تنتمي للغرب، حيث إننا تمكنا من تكييفها لتتلاءم مع قيم المجتمع الإسلامي، تماما كما تمكنت الصين من تكييف الرفاهية الاقتصادية والعلم والتكنولوجيا لتتماشى مع الطرق الخاصة بحضارتهم العريقة.

ومن وجهة نظر فلسفية، فعلى الرغم من أنني أزعم أن مفهوم الحداثة في حد ذاته محل نقاش، فإنه ينبغي علينا الحديث عن القيم الرئيسية، مثل العدالة الاجتماعية والمساواة واحترام عقائد ولغات وأساليب الآخرين.

وعندما تتناول المسألة بهذه الطريقة، وتشرح للناس أن قيمهم لا تتناقض مع السبل والوسائل الجديدة لتحسين أوضاعهم، ستجدهم يأخذون مسؤولية عملية التنمية على عاتقهم، حيث إن زيادة الازدهار والرفاهية تنبع من ثقتهم ورغبتهم في الانفتاح والانخراط في العالم وفقا لشروطهم. وبسبب مثل هذا الإحساس بالمسؤولية، تصبح جذور الديمقراطية أكثر قوة ولا يمكن اقتلاعها بسهولة، حيث يتحالف الشعب وحكومته على تحقيق هذه التطلعات.

هذا بالضبط هو مسار الإصلاح الذي ننتهجه في تركيا في الوقت الحالي. أعتقد أن الصين وروسيا، رغم التحديات والصعوبات التي يواجهانها في الوقت الحالي، سوف يسيران باتجاه الديمقراطية بالصورة التي نفهمها، ألا وهي الحوكمة الرشيدة التي تلتزم بسيادة القانون والمساءلة.

لن تنجح فكرة «الحداثة» أبدا إذا تم فرضها من الأعلى عن طريق وسائل استبدادية، فالأمر يشبه إلى حد بعيد مسألة الهندسة الاجتماعية، التي تواجه مقاومة شديدة، لأنه ينظر إليها على أنها مجرد استيراد لقيم غربية. لقد رأينا هذا التفاعل بوضوح في ثورات الربيع العربي التي أطاحت بـ«دعاة الحداثة» المستبدين في شتى أنحاء الإقليم، ثم أصبح العرب الآن يبحثون عن المسار الذي يتناسب مع القيم الخاصة بهم.

* في خطاب ألقاه في وقت سابق من العام الحالي في القاهرة، أخبر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الإخوان المسلمين وغيرهم من القوى المتنازعة على السلطة في الديمقراطية المصرية الحديثة بأنه «لا ينبغي عليهم الخوف من العلمانية»، والتي كانت أساس التنمية الاقتصادية السريعة في تركيا. هل النظام التركي، والذي يحكم فيه حزب ذو توجهات إسلامية في إطار علماني، يعد نموذجا صالحا للتطبيق في مصر وغيرها من البلدان العربية المتحررة في الوقت الذي يقومون فيه بصياغة دساتيرهم؟

- الأمر المؤسف في البلدان العربية والمغاربية هو أن تفسيرهم للعلمانية يعتمد على النموذج الفرنسي «اليعقوبي» الذي يفرض نوعا معينا من معاداة الأديان.

عندما نتحدث عن العلمانية في البلدان الإسلامية في الإقليم، فإنه يساء فهمها بسبب النموذج الفرنسي من العلمانية. وبالممارسة العملية، كان تطبيق العلمانية في البلدان العربية والمغاربية يعني محاربة الإسلام باسم العلمانية، لذا، ينبغي علينا تفهم هذه الحساسية.

ومن الناحية الأخرى، فإذا استخدمنا التفسير «الأنغلوساكسوني» للعلمانية، كما يتم تطبيقها في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، فستجد العلمانية أمرا ينبغي أن يشعر الناس بالراحة. فكل ما تعنيه العلمانية هو فصل الدولة عن الدين، بحيث ينبغي على الدولة الوقوف على مسافة متساوية من كافة الأديان وأن تتصرف بوصفها راعية لكافة العقائد. تقوم العلمانية على احترام كافة الأديان والتعايش المشترك بين كافة العقائد.

أستطيع أن أؤكد لك من خلال مناقشاتي مع زعماء مصر وتونس، بمن فيهم الزعماء ذوو التوجهات الدينية، أنهم أشخاص متفتحون للغاية ويشعرون بالراحة التامة تجاه تطبيق هذا المعنى «الأنغلوساكسوني» من الحكومة العلمانية.

إنهم يدركون جيدا أن ما نقوم به في تركيا يعتمد بشكل رئيسي على الحريات الأساسية، والتي من بينها حرية ممارسة الشخص لمعتقداته الدينية الخاصة. إن كل ما نقوم به هو رفع الحواجز لا غير.

* من المثير للسخرية أن أحد مطالب الاتحاد الأوروبي من تركيا للحصول على عضوية الاتحاد كانت تتمثل في إخضاع العسكريين للحكم المدني، أما الآن، فينتقد البعض الملاحقات القضائية واسعة النطاق التي يتعرض لها جنرالات «الدولة العميقة»، التي صانت العلمانية التركية، مؤكدين أنها ما هي إلا هجوم مستتر على العلمانية نفسها. ما تعليقك على هذا الأمر؟

- إن كل ما تقوله النيابة العامة هو أنها تمتلك أدلة قوية كافية لإحالة هذه القضايا إلى المحاكم، حيث إنها تؤكد أن هؤلاء الأفراد كانوا متورطين في محاولة لتنظيم انقلاب ضد الحكومة المدنية. وكما تعلم، فإن التاريخ التركي الحديث قد شهد العديد من الانقلابات التي قادها الجيش، بمعدل انقلاب عسكري كل عشر سنوات تقريبا. وبالإشارة إلى تلك الحقيقة، فالمرء لا يمكنه غض الطرف عما تدعيه النيابة العامة.

وعلى أي حال، لا تزال هذه القضايا قيد التحقيق الآن، وأنا لست في وضع يسمح لي بتحديد من المجرم ومن البريء. كل ما أتمناه هو أن يتم حل هذه القضايا عاجلا وليس آجلا.

* ساهمت تركيا في التوسط بين إيران والغرب، أما الآن، وبعد أن تم فرض عقوبات صارمة على إيران، يعتقد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران باتت أكثر استعدادا لإخضاع منشآتها النووية للتفتيش، هل أنت متفائل حيال هذا الأمر؟

- بادئ ذي بدء، دعني أؤكد لك أن الحل الوحيد لهذه المشكلة يمكن من خلال الوسائل الدبلوماسية، وليس العمل العسكري الذي من شأنه أن يشعل النار في منطقة أنهكتها الحروب. وكلما حدث هذا بسرعة، كان أفضل، حيث إنه سيخفف من الضغوط التي تتعرض لها منطقة الشرق الأوسط.

تمكنت تركيا والبرازيل في عام 2010 من إقناع الإيرانيين بنقل نصف كميات اليورانيوم المخصب التي بحوزتهم خارج بلدهم حتى لا يتم استخدامها في صناعة أسلحة نووية، في الوقت الذي كانوا يمتلكون فيه 1,000 كلغم من اليورانيوم المخصب فقط. ولأسباب لا يمكن تفسيرها، لم يتم تنفيذ هذا الاتفاق، ولم تكن إيران هي المسؤولة عن هذا، لذا ضاعت هذه الفرصة. أما الآن، فتمتلك إيران 3,000 كلغم من اليورانيوم المخصب.

استضافت مدينة اسطنبول في الشهر الماضي اجتماع دول مجموعة 5+1، حيث امتثلت إيران أمام إصرارنا، في الوقت الذي لم تكن فيه كافة الدول المعنية تتحرك إلى الإمام. من الواضح أن هذا الاجتماع كان إيجابيا بصورة كبيرة، حيث إنه قد قاد لعقد اجتماع آخر يوم 23 مايو (أيار) في بغداد. هناك إشارات جيدة على أن كلا الجانبين يتصرف بحسن نية هذه المرة.

الموقف التركي تجاه البرنامج النووي الإيراني واضح وضوح الشمس، فنحن نعارض بشكل قاطع وجود أسلحة الدمار الشامل في منطقتنا. فسوف تؤدي محاولات تطوير أو الحصول على أسلحة الدمار الشامل إلى نشوب سباق تسلح نووي في منطقتنا، مما سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار. وهذا هو السبب الحقيقي من وراء نداءاتنا المتكررة من أجل إخلاء منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك إسرائيل، من أسلحة الدمار الشامل.

نحن نساند حق إيران في الحصول على الطاقة النووية لأغراض سلمية، ولكن ينبغي أن يكون البرنامج الإيراني شفافا، ويجب على قادتها طمأنة المجتمع الدولي من الطبيعة غير العسكرية لبرنامجهم النووي.

* عندما ألقيت كلمتك أمام قمة الناتو في شيكاغو في وقت سابق من الأسبوع الحالي، قلت إن المجتمع الدولي لم يقم بما يكفي لوقف المذبحة الدائرة في سوريا، ما الذي ينبغي على المجتمع الدولي القيام به ولم يقم به الآن؟

- منذ أن تم إعلان ما يسمى بـ«وقف إطلاق النار» في سوريا، لقي نحو 1,500 شخص حتفهم، فضلا عن وفاة عشرات السوريين كل يوم. نحن ندعم خطة أنان ذات الست نقاط (التي تفاوض عليها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان)، ولكن يجب أن يتم تنفيذها بشكل كامل، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الوقت الحالي.

هذا ما يجب أن يجتمع عليه المجتمع الدولي، لأن هذه الخطة قد تم إقرارها من قبل مجلس الأمن، الذي ينبغي عليه التصرف بمسؤولية والإصرار على تنفيذ الخطة بالكامل، وإلا فسيكون كل ما استطاع القيام به هو تعزيز أركان نظام حكم الأسد.

* هذا يرجعنا إلى الوراء إلى بداية حوارنا حول تحول القوى في العالم اليوم، هل ينبغي على الصين وروسيا، وهما بلدان عضوان في مجلس الأمن، تحمل مسؤولياتهما بهذا الصدد؟

- بالطبع، يعد الدور الروسي هو مفتاح الحل في هذه القضية. لا تستطيع روسيا، بطبيعة الحال، تحمل مسؤولية كافة انتهاكات حقوق الإنسان وقيام الدبابات والمدفعية بقذف المدن وإشعال الحرائق وقتل الكثير من الناس في سوريا، ولكن من الأهمية بمكان إشراك روسيا بصورة فعالة في هذا الشأن، وهذا هو أحد المجالات التي لم يتم القيام بما يكفي فيها.

* خدمة شبكة «غلوبال فيوبوينت»