أميركا بدأت الحرب الإلكترونية ضد إيران أيام بوش.. وأوباما كثف الهجمات

مسؤولون يروون قصة الهجمات الإلكترونية التي تشنها واشنطن على البرنامج النووي الإيراني بالتعاون مع إسرائيل

TT

منذ الأشهر الأولى لتوليه منصبه، أصدر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أوامر سرية بشن هجمات بالغة التعقيد على أنظمة الكومبيوتر التي تشغل منشآت تخصيب اليورانيوم النووية الرئيسية في إيران، على نحو أدى إلى توسيع نطاق أول استخدام مستمر للأسلحة الإلكترونية من جانب أميركا، بحسب مشاركين في البرنامج.

واتخذ أوباما قرارا بتسريع وتيرة الهجمات – التي قد بدأت في عهد بوش وحملت اسم «الألعاب الأولمبية» – حتى بعد أن كشف النقاب عن جانب من البرنامج بشكل عارض في صيف 2010 بسبب خطأ برمجي سمح له بالهروب من مفاعل «ناتانز» الإيراني وأرسله حول العالم على شبكة الإنترنت. ومنحه خبراء تأمين أجهزة الكومبيوتر الذين بدأوا في دراسة الفيروس الذي قام بتصميمه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، اسم «ستاكسنت».

وفي اجتماع طارئ في غرفة العمليات في البيت الأبيض في خلال أيام من «هروب» الفيروس، نظر أوباما ونائبه جوزيف بايدن (الابن)، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية في تلك الفترة، ليون بانيتا، في ما إذا كانت أكثر محاولة طموحة من جانب أميركا لإبطاء تقدم الجهود النووية لإيران قد باءت بالفشل الذريع.

«هل يجب أن نوقف تلك الجهود؟»، سؤال طرحه أوباما، بحسب أعضاء في فريق الأمن القومي الخاص بالرئيس كانوا موجودين في غرفة العمليات.

وعندما تم إخباره بأنه ليس من الواضح كم المعلومات التي يعرفها الإيرانيون عن الكود وقدمت له أدلة عن أنه ما زال يحدث حالة من الدمار، قرر أوباما مواصلة الهجمات الإلكترونية. وفي الأسابيع التالية، هاجمت نسخة أحدث من الفيروس مفاعل «ناتانز»، تليها نسخة أخرى. دمرت آخر سلسلة من تلك الهجمات، بعد بضعة أسابيع من اكتشاف فيروس «ستاكسنت» حول العالم، ألفا من بين أجهزة الطرد المركزي البالغ عددها 5000 جهاز، التي كانت تستخدمها إيران في تلك الفترة لتنقية اليورانيوم.

تعتمد هذه الرواية حول الجهود الأميركية والإسرائيلية المبذولة لتقويض البرنامج النووي الإيراني على مقابلات أجريت على مدار الـ18 شهرا الماضية مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين وإسرائيليين حاليين وسابقين مشاركين في البرنامج، إضافة إلى مجموعة من الخبراء الخارجيين. ولم يوافق أي منهم على الكشف عن هويته نظرا لأن تلك الجهود كانت على درجة عالية من السرية، فضلا عن أن بعض أجزائها ما زال مستمرا حتى يومنا هذا.

قدم هؤلاء المسؤولون تقييمات مختلفة حول مدى نجاح البرنامج التخريبي في إبطاء تقدم إيران في طريق تطوير قدرتها على تصنيع أسلحة نووية. وتشير التقديرات الداخلية لإدارة أوباما إلى أن تلك الجهود توقفت لمدة تتراوح ما بين 18 شهرا وعامين، غير أن بعض الخبراء من داخل وخارج الحكومة يبدون أكثر تشككا، مشيرين إلى مستويات تخصيب اليورانيوم في إيران قد شهدت ارتفاعا بشكل مطرد، مما يمنح الدولة وقودا كافيا لتصنيع 5 أسلحة أو أكثر، مع تخصيب إضافي.

ويعتبر الوقوف على ما إذا كانت إيران ما زالت تحاول تصميم وتصنيع سلاح نووي أم لا قضية محل نزاع، إذ تشير آخر تقديرات الاستخبارات الأميركية إلى أن إيران قد تخلت عن جوانب رئيسية من جهود التسليح بعد عام 2003، على الرغم من أن هناك أدلة على استمرار بعض من تلك الجهود.

أنكرت إيران في البداية تعرض منشآت تخصيب اليورانيوم لهجوم من فيروس «ستاكسنت»، ثم ذكرت بعد ذلك أنها عثرت على الفيروس واحتوته. في العام الماضي، أعلنت الدولة أنها قد بدأت تشغيل الوحدة الإلكترونية التابعة لجيشها، وقال العميد غلام رضا جلالي، رئيس منظمة الدفاع السلبي، إن الجيش الإيراني مستعد «لمحاربة أعدائنا» في «حرب الفضاء الإلكتروني والإنترنت». غير أنه لم تكن هناك سوى أدلة محدودة على أنها قد بدأت في شن هجمات مضادة.

أقرت حكومة الولايات المتحدة مؤخرا بأنها تعكف على تطوير أسلحة إلكترونية، ولكنها لم تعترف مطلقا باستخدامها. وكانت هناك تقارير عن هجمات وجهت مرة واحدة ضد أجهزة كومبيوتر شخصية يستخدمها أعضاء في تنظيم القاعدة، وعن هجمات مدروسة تستهدف أجهزة كومبيوتر تدير أنظمة دفاع جوي، بما في ذلك هجمات إلكترونية تم توجيهها أثناء الغارة الجوية بقيادة حلف الناتو على ليبيا العام الماضي. غير أن هجمات «الألعاب الأوليمبية» كانت من نوع مختلف تماما وأكثر تعقيدا.

يبدو أن تلك هي المرة الأولى التي قد استخدمت فيها الولايات المتحدة الأسلحة الإلكترونية بشكل متكرر لتعطيل بنية تحتية أخرى للدولة، إضافة إلى استخدام كود برمجة في تحقيق هدف لم يكن من الممكن بلوغه حتى ذلك الحين إلا من خلال قصف دولة أو إرسال عملاء لزرع متفجرات. ويعتبر كود البرمجة نفسه أكبر من فيروس الكومبيوتر العادي 50 مرة، بحسب كاري ناتشنبرغ، نائب رئيس «سيمانتيك»، واحدة من المجموعات الكثيرة التي قامت بفك شفرة الكود، في ندوة عقدت بجامعة ستانفورد في أبريل (نيسان). وفي الوقت الذي توصلت فيه التحقيقات الجنائية الهادفة لسبر تفاصيل كود البرمجة جزئيا إلى طريقة عمله، فإنها لم تفضِ إلى أي نتائج في ما يتعلق بهوية الطرف المسؤول.

وتجري عملية مماثلة بهدف اكتشاف أصل سلاح إلكتروني آخر يعرف باسم «فليم»، الذي اكتشف مؤخرا أنه قد هاجم أجهزة الكومبيوتر الخاصة بمسؤولين إيرانيين، وسرقة معلومات من تلك الأجهزة. لكن يبدو أن كود البرمجة يعود إلى 5 سنوات مضت على الأقل، ويقول مسؤولون أميركيون إنه لم يكن جزءا من هجمات «الألعاب الأولمبية». وقد رفضوا تحديد ما إذا كانت الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية الهجمة الإلكترونية بفيروس «فليم» أم لا.

كان أوباما، بحسب رواية مشاركين في الكثير من الاجتماعات التي عقدت في غرفة العمليات حول هجمات «الألعاب الأولمبية»، على وعي شديد بأنه مع كل هجمة، تقتحم الولايات المتحدة مجالا جديدا، مثلما أدرك سابقوه مع أول استخدام للأسلحة الذرية في أربعينات القرن الماضي، والقذائف العابرة للقارات في الخمسينات منه، والطائرات من دون طيار في العقد الماضي. وأعرب بشكل متكرر عن مخاوفه من أن يؤدي أي اعتراف من جانب أميركا باستخدام أسلحة إلكترونية – حتى في ظل الظروف التي تتطلب توخي أقصى درجة من الحذر - إلى تمكين دول أو إرهابيين أو مخترقي نظم من تبرير هجماتهم. قال أحد معاونيه: «ناقشنا تلك المفارقة أكثر من مرة». وقال آخر إن الإدارة مانعت صياغة «نظرية كبرى لسلاح ما زال يتم اكتشاف إمكاناته». لكن أوباما خلص إلى أنه حينما تعلق الأمر بردع إيران، لم يكن أمام الولايات المتحدة أي خيار آخر.

وقال لمعاونيه إنه في حالة فشل هجمات «الألعاب الأولمبية»، لن يكون هناك متسع من الوقت لكي تجدي العقوبات والسبل الدبلوماسية مع إيران نفعا. ربما تشن إسرائيل هجوما عسكريا تقليديا، على نحو يقود إلى نزاع قد يشمل المنطقة بأكملها. يعود الحافز لشن هجمات «الألعاب الأولمبية» إلى عام 2006، عندما رأى الرئيس جورج بوش بضعة خيارات جيدة في التعامل مع إيران. في تلك الفترة، كان الحلفاء الأوروبيون لأميركا منقسمين حول تأثير تكلفة فرض العقوبات على إيران على اقتصاداتهم. وبعد توجيه اتهام زائف لصدام حسين بإعادة إنشاء برنامجه النووي في العراق، لم يعد بوش يحظى بقدر كبير من المصداقية عند مناقشته طموحات نووية أخرى للدولة بشكل معلن.

بيد أن الإيرانيين استشعروا ضعف موقفه، ومدفوعين بيأسهم من المفاوضات، واصلوا جهود تخصيب اليورانيوم في موقع تحت الأرض في مفاعل «ناتانز»، ذلك الموقع الذي لم يتم الكشف عنه سوى منذ 3 سنوات فقط. اصطحب الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، مراسلين في رحلة إلى المفاعل وتحدث عن طموحات كبرى تتمثل في تركيب 50.000 جهاز طرد مركزي. كان قول دولة لا تملك سوى مفاعل نووي واحد – يأتي وقوده من روسيا – إنها بحاجة لوقود لبرنامجها النووي السلمي موضع شك بالنسبة لمسؤولي إدارة بوش. لقد خشوا من احتمالية استخدام الوقود لغرض آخر، بخلاف الإمداد بالطاقة، وهذا الغرض على وجه التحديد هو بناء مخزون يمكن تخصيبه لاحقا لتصنيع قنبلة نووية، إذا اتخذ الإيرانيون قرارا سياسيا بالقيام بذلك. وحث مسؤولون من أنصار العمليات العسكرية في إدارة بوش - أمثال نائب الرئيس ديك تشيني - الرئيس على التفكير في شن هجوم عسكري على المنشآت النووية الإيرانية قبل أن يتسنى لها إنتاج وقود مناسب لتصنيع سلاح. ولعدة مرات، استعرضت الإدارة الخيارات العسكرية وخلصت إلى أنها ستؤجج منطقة في حالة حرب بالفعل، وستكون لها تبعات غير مؤكدة.

على مدار سنوات، أدخلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أجزاء وتصميمات معيبة في الأنظمة الإيرانية – حتى التلاعب في مصادر التيار الكهربي الخارجية على النحو الذي يعرضها للانفجار – غير أن تلك الأعمال التخريبية لم يكن لها سوى تأثير محدود نسبيا. انضم الجنرال جيمس كارترايت، الذي أنشأ غرفة عمليات إلكترونية صغيرة داخل مقر القيادة الاستراتيجية الخاصة بالولايات المتحدة، المسؤولة عن الكثير من القوى النووية لأميركا، إلى مسؤولين استخباراتيين في طرح فكرة جديدة متطرفة على بوش وفريق الأمن القومي التابع له. وكانت الفكرة هي تصنيع سلاح إلكتروني أكثر تعقيدا إلى حد كبير من ذلك الذي قد صممته الولايات المتحدة من قبل.

كان الهدف هو التمكن من الوصول إلى أزرار التحكم في أجهزة الكومبيوتر بمفاعل «ناتانز». وتطلب هذا الوصول إلى المسار الإلكتروني الذي يقطع اتصال مفاعل «ناتانز» بالإنترنت، والذي يعرف باسم «الفجوة الجوية»، نظرا لأنه يفصل المفاعل عن العالم الخارجي. سيخترق كود البرمجة أجهزة الكومبيوتر المتخصصة التي تتحكم في أجهزة الطرد المركزي.

تمثلت المرحلة الأولى من تلك الجهود في ابتكار كود برمجة يمكن إدخاله بأجهزة الكومبيوتر، التي صنعتها شركة «سيمنز» الألمانية، وأحد المصنعين الإيرانيين، لتخطيط عملياتهم. كانت الفكرة هي وضع مخطط مكافئ للمخطط الكهربي لمفاعل «ناتانز»، لفهم كيف تتحكم أجهزة الكومبيوتر في أجهزة الطرد المركزي العملاقة التي تدور بسرعات فائقة. كانت التوصيلات معقدة، وما لم يتم فهم كل دائرة، ربما تفشل جهود التحكم في أجهزة الطرد المركزي.

فعليا، سيتعين على الكود إرسال رسالة إلى المراكز الرئيسية لوكالة الاستخبارات الوطنية التي ستصف النظام والإيقاع اليومي لعمل مفاعل تخصيب اليورانيوم. كانت التوقعات للمفاعل متدنية؛ قال أحد المشاركين إن الهدف كان ببساطة هو «إتلاف التروس» وتوفير بعض الوقت. كان بوش متشككا، لكن نظرا لعدم امتلاكه خيارات أخرى، صدق على تلك الخطوة.

تطلب الأمر من أكواد البرمجة شهورا للقيام بمهمتها ونقل الأخبار للوطن، مع خرائط للعناوين الإلكترونية للموجهين، وما ثبت أنه مخططات لكيفية اتصالهم بأجهزة الطرد المركزي الواقعة تحت الأرض.

بعد ذلك، قررت وكالة الأمن القومي ووحدة إسرائيلية سرية تحظى باحترام المسؤولين الاستخباراتيين الأميركيين لما تتمتع به من مهارات إلكترونية، ابتكار فيروس معقد يهاجم من الداخل.

كان التعاون الوثيق غير المعتاد مع إسرائيل مدفوعا بأمرين. أولا، تتمتع الوحدة 8200 الإسرائيلية، وهي جزء من الجيش الإسرائيلي، بخبرة فنية تفوق خبرة وكالة الأمن القومي، وكان لدى الإسرائيليين معلومات مفصلة عن العمليات الحالية في مفاعل «ناتانز»، التي ستشكل أهمية في إنجاح الهجوم الإلكتروني. غير أن مسؤولين أميركيين كانوا يوجهون تركيزا لشيء آخر، ألا وهو إثناء الإسرائيليين عن شن هجمة استباقية على المنشآت النووية الإيرانية. وللقيام بذلك، سيتعين على الإسرائيليين الاقتناع بأن السلسلة الجديدة من الهجمات يحقق نجاحا. والسبيل الوحيد لإقناعهم بذلك، بحسب الكثير من المسؤولين الذين أجريت مقابلات معهم، هو إشراكهم بشكل مكثف في كل جانب من جوانب البرنامج.

سرعان ما ابتكرت الدولتان فيروسا معقدا أطلق عليه الأميركيون اسم «عطل برمجي» (Bug). ولكن كان هذا العطل البرمجي بحاجة لاختبار. ومن ثم، ففي ظل حالة من السرية الشديدة، بدأت الولايات المتحدة في إنشاء أجهزة طرد مركزي مماثلة تماما لأجهزة الطرد المركزي الإيرانية طراز «P1»، وهو عبارة عن تصميم قديم لا يمكن الاعتماد عليه اشترته إيران من عبد القادر خان، أبو القنبلة النووية الباكستانية الذي كان قد بدأ ترويج تكنولوجيا تصنيع الوقود في السوق السوداء. ولحسن الحظ بالنسبة للولايات المتحدة، كانت قد امتلكت بالفعل بعض أجهزة الطرد المركزي طراز «P1»، بفضل الديكتاتور الليبي العقيد معمر القذافي.

حينما تخلى معمر القذافي عن برنامج الأسلحة النووية في عام 2003، قام بتسليم أجهزة الطرد المركزي التي قد اشتراها من باكستان، ووضعها في مخزن في معمل للأسلحة في تينيسي. استعار مسؤولون عسكريون واستخباراتيون يشرفون على هجمات «الألعاب الأولمبية» بعضها لاستخدامها في عملية أطلقوا عليها اسم «الفحص المدمر»، بالأساس إنشاء مفاعل يمثل نسخة طبق الأصل من مفاعل «ناتانز»، غير أن نشر الاختبار عبر مجموعة من المعامل الوطنية التابعة لوزارة الطاقة لمنع حتى أكثر العمال الموثوق بهم في منشآت الطاقة النووية من اكتشاف ما كان يجري مجراه.

حققت تلك الاختبارات الأولى ضيقة النطاق نجاحا مذهلا؛ فقد اخترق الفيروس (العطل البرمجي) أجهزة الكومبيوتر، وظل كامنا بها لمدة أيام أو أسابيع، قبل إرسال تعليمات بإسراعها أو إبطائها بشكل مفاجئ، بحيث تتعرض أجزاؤها الحساسة، التي تدور بسرعة تفوق سرعة الصوت للتدمير. وبعد عدة بدايات خاطئة، نجحت العملية. في أحد الأيام، مع اقتراب نهاية مدة ولاية بوش، تم عرض حطام من أحد أجهزة الطرد المركزي على طاولة الاجتماعات في غرفة العمليات، كدليل على القوة المحتملة لسلاح إلكتروني. وأعلن عن أن الفيروس جاهز للفحص في مقابل الهدف الحقيقي؛ مصنع تخصيب اليورانيوم الإيراني الموجود تحت الأرض. «كانت تأثيرات الهجمات الإلكترونية السابقة قاصرة على أجهزة كومبيوتر أخرى»، قال مايكل هايدن، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، رافضا إيضاح المعلومات التي كان يعرفها عن تلك الهجمات في الفترة التي كان يشغل فيها هذا المنصب. قال هايدن: «ذلك هو أول هجوم مميز، حيث يستخدم الهجوم الإلكتروني في إلحاق دمار مادي»، لا لمجرد إبطاء جهاز كومبيوتر آخر أو اختراقه لسرقة بيانات منه.

وأضاف هايدن: «اتخذ شخص ما قرارا خطيرا لا سبيل للرجوع عنه». وعلى الرغم من ذلك، فلم يكن اختراق الفيروس مفاعل «ناتانز» بالمهمة السهلة؛ فقد تعين على الولايات المتحدة وإسرائيل الاعتماد على مهندسين وعمال صيانة وآخرين - جواسيس وشركاء عارضين - يتمتعون بإمكانية الدخول إلى المفاعل. «كان هذا هدفنا المنشود»، هكذا تحدث أحد مهندسي الخطة. وأضاف: «يتضح أنه دائما ما كان هناك أحمق لا يفكر كثيرا في شأن محركات الأقراص المصغرة التي بحوزته». وفي حقيقة الأمر، بدت محركات الأقراص المصغرة مهمة في نشر الأشكال المختلفة من فيروس الكومبيوتر؛ ولاحقا تم ابتكار طرق أكثر تعقيدا لإدخال الكود الضار.

كانت الهجمات الأولى صغيرة، وعندما بدأت أجهزة الطرد المركزي تدور بسرعة لا يمكن السيطرة عليها في عام 2008، كان الإيرانيون في حالة من الارتباك والحيرة بشأن السبب، بحسب معلومات جمعتها الولايات المتحدة لاحقا. وقال أحد مهندسي الهجوم السابق: «كانت الفكرة هي أن الإيرانيين سيلقون اللوم على الأجزاء المعيبة أو الأنظمة الهندسية المعيبة أو مجرد الافتقار إلى الكفاءة.

كان أحد أسباب ارتباك الإيرانيين هو أن الهجمتين لم تكونا متماثلتين. إضافة إلى ذلك، من الممكن أن يختبئ الكود داخل المفاعل لعدة أسابيع، ويقوم بتسجيل عمليات طبيعية؛ وعندما هاجمت، بعثت بإشارات إلى غرفة تحكم مفاعل «ناتانز» على نحو يشير إلى أن كل شيء بالطابق السفلي يعمل بشكل طبيعي. وقال مسؤول أميركي: «قد يكون هذا أكثر الأجزاء براعة في الكود».

انتشر لاحقا في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومقرها فيينا، خبر شك الإيرانيين في أدواتهم إلى الحد الذي جعلهم يأمرون العاملين بالجلوس في المنشأة والإبلاغ عن كل ما يشاهدونه. وقال المشارك في الهجمات: «كان الهدف هو أن يجعلهم الفشل يشعرون بغبائهم، وهو ما حدث. وعند عدم عمل بعض أجهزة الطرد المركزي، عمد الإيرانيون إلى إغلاق جميع المنصات التي تربط بين 164 آلة باحثين عن تعرضهم لأي نوع من التخريب المتعمد بجميع الأجهزة». وقال أحد المسؤولين: «لقد بالغوا في رد فعلهم. فقد اكتشفنا بعد ذلك بفترة قصيرة أنهم فصلوا العاملين من العمل». وأظهرت الصور، التي حصل عليها مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية من كاميرات مراقبة في مفاعل «ناتانز» تستخدمها الوكالة الدولية في رصد ما يحدث بين الزيارات، النتائج. وكان هناك بعض الأدلة على حدوث تخريب، لكن كان من الواضح أن الإيرانيين أبعدوا أجهزة الطرد المركزي التي ظهرت في السابق وهي تعمل بكفاءة. وبمرور الوقت، غادر بوش منصبه ولم يحدث أي دمار شامل. ونصح بوش أوباما خلال لقائه به في البيت الأبيض قبل أيام من تنصيبه بالإبقاء على برنامجين سريين؛ هما: «الألعاب الأوليمبية»، وبرنامج الطائرات التي تعمل من دون طيار في باكستان. وعمل أوباما بنصيحة بوش.

تولى أوباما منصبه وهو مهتم بالأمور المتعلقة بالإنترنت، لكنه ناقشها خلال حملته الانتخابية من جهة تعرض الخصوصية للتهديدات وتعرض البنية التحتية لمخاطر من خلال الإنترنت مثل الشبكة الكهربائية ونظام التحكم في حركة الهواء. وأصدر تعليمات بإجراء دراسة لتحسين أنظمة الدفاع الأميركية وأعلنها بابتهاج شديد في الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض. ما لم يقله أوباما حينها هو أنه كان يتعلم كذلك فنون الحرب على شبكة الإنترنت. وكان مهندسو «الألعاب الأوليمبية» يقابلونه في غرفة العمليات والطوارئ حاملين معهم مخططا بيانيا مطويا يطلقون عليه «حرام الجواد» يبين المنشآت النووية الإيرانية. وسمح أوباما باستمرار الهجمات وكان يحصل كل بضعة أسابيع، بالتأكيد بعد حدوث هجوم كبير، على أحدث التقارير ويصرح باتخاذ الخطوة التالية. وكان يحدث أحيانا هجوم أخطر وأكثر جرأة من الذي سبقه. وقال مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأميركية: «لقد كان منشغلا منذ أيامه الأولى في المنصب بكل خطوة من شأنها إبطاء البرنامج النووي الإيراني، سواء عن طريق القنوات الدبلوماسية أو العقوبات فضلا عن كل القرارات الهامة. ويمكن القول إن الاستعداد لأي نشاط آخر لم يكن استثناء لهذه القاعدة». مع ذلك لم يظل الحظ حليفه كثيرا، ففي صيف عام 2010 أي بعد فترة قصيرة من مهاجمة مفاعل «ناتانز» بشكل جديد من فيروس «ستاكسنت»، بات من الواضح أن هذا الفيروس، الذي لم يكن من المفترض أن يغادر ماكينات مفاعل «ناتانز»، قد تحرر مثل حيوان كان محبوسا في حديقة الحيوان وعثر على مفاتيح القفص. وألقيت مهمة إبلاغ أوباما وبايدن بهذا النبأ على عاتق بانيتا ولاعبين بارزين آخرين في «الألعاب الأوليمبية» هما الجنرال كارترايت، نائب رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، ومايكل موريل، نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية. وقالا إنه حدث خطأ في كود البرمجة أدى إلى وصوله إلى جهاز الكومبيوتر الخاص بالمهندس خلال اتصاله بأجهزة الطرد المركزي.

عندما غادر المهندس مفاعل «ناتانز» ووصل جهاز الكومبيوتر بالإنترنت، فشل العطل البرمجي الذي صممه الأميركيون والإسرائيليون في اكتشاف تغير البيئة الخاصة به، وبدأ يتكاثر وينتشر حول العالم، وفجأة تم كشف كود البرمجة وإن لم يتضح الهدف وراء ذلك على الأقل بالنسبة إلى مستخدم الكومبيوتر العادي. وقال أحدهم للرئيس: «نعتقد أن الإسرائيليين قد عدلوا أمرا ما، ولا نعلم ما إذا كنا جزءا من هذا الأمر». وطرح أوباما بحسب رواية مسؤولين كانوا حاضرين في ذلك اليوم عددا من الأسئلة خشية أن يحدث كود البرمجة أضرارا خارج المنشأة النووية. وجاءت الإجابات بألفاظ حذرة، فاستشاط بايدن غضبا وقال: «لا بد أنهم الإسرائيليون. لقد تمادوا كثيرا».

كان يستهدف كل من الإسرائيليين والأميركيين جزءا محدد من أجهزة الطرد المركزي التي تمثل جزءا حيويا وهاما من المفاعل، حيث تؤدي خسارته، بحسب استنتاجاتهم، إلى انتكاس وتراجع الإيرانيين بشكل كبير. ولم يتضح المسؤول عن هذا الخطأ البرمجي.

السؤال الذي يواجه أوباما هو ما إذا كان ما تبقى من فيروس «الألعاب الأوليمبية» يتعرض للخطر أم لا، في الوقت الذي يقوم فيه شكل مختلف من الفيروس بالتكاثر «في البرية»، بحيث يستطيع خبراء سلامة الحواسيب تحليل هذا الفيروس ومعرفة الغرض من ورائه.

ووفقا للمسؤولين، قال أوباما لفريق الأمن القومي: «لا أعتقد أننا نمتلك معلومات كافية»، ولكنه أمر في نفس الوقت باستمرار الهجمات الإلكترونية، التي تعد أفضل آماله في تعطيل البرنامج النووي الإيراني، ما لم تقم العقوبات الاقتصادية بالتأثير على إيران بصورة أكبر وخفض عائداتها من بيع النفط. وخلال أسبوع واحد، تسبب نوع آخر من هذا الفيروس في تعطل ما يقل عن 1000 جهاز طرد مركزي، في الوقت الذي يستمر فيه عمل فيروس «الألعاب الأوليمبية». لا تقتصر الهجمات الإلكترونية الأميركية على إيران، ولكن محور اهتمام هذه الهجمات، «كان منصبا بصورة كبيرة على بلد واحد».

أخبر أوباما مساعديه مرارا أن هناك بعض المخاطر المترتبة على استخدام هذا السلاح، أو بالأحرى الإفراط في استخدامه. وفي الواقع، لا تعتمد البنية التحتية لأي دولة في العالم على أنظمة الكومبيوتر بقدر ما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية، بما يجعلها عرضة لمثل هذه الهجمات. يعتقد معظم الخبراء أنها مسألة وقت فقط قبل أن تصبح الولايات المتحدة الأميركية هدفا لنفس هذا السلاح الذي يستخدمه الأميركيين، بصورة سرية، ضد إيران.

* خدمة «نيويورك تايمز»