تويني يتذكر جبران الكبير في وفاة جبران الصغير

سيرة ذاتية مصغرة.. كتبها عقب فقدانه ولده البكر

مع وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو يمران أمام صورة لولده الراحل جبران بصحيفة النهار (أ.ب)
TT

غالبا ما صار يقال لي إنّ الصورة التي حفظها اللبنانيّون عنّي هي صورة الرجل الذي وقف متكلّما، في كاتدرائية القديس جاورجيوس، أمام جثمان ابنه الذي سقط اغتيالا، ودعا إلى الصفح. أودّ أن أعلّق على هذه الصورة التي تلاحقني أو التي ألاحقها. فعندما دخل النواب رافعين النعش على سواعدهم سرعان ما عادت بي الذاكرة إلى يوم حُمِل جثمان والدي إلى هذه الكاتدرائيّة نفسها قبل عشرات السنوات، وقد مات للقضايا ذاتها إنما ليس اغتيالا.

كان ذلك في عام 1947. فإذ كنت طالبا في جامعة هارفرد، التحقت بالوفد اللبناني إلى منظمة الأمم المتحدة عشية التصويت على قرار يبتّ مستقبل فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني عليها. وقد سألني كميل شمعون، رئيس الوفد اللبناني، أن أطلب إلى والدي، سفير لبنان آنذاك لدى الأرجنتين وفي تشيلي، أن يزور سانتياغو من أجل إقناع الرئيس الشيلي بالتصويت لصالح قضيّتنا. إلا أنّ والدي جبران لم يكن قد قدّم بعدُ أوراق اعتماده إلى الرئيس غبريال غونزاليس فيديلا. أضف أنه بسبب إقامته وقتها في بيونس آيرس، كان عليه أن ينتقل إلى العاصمة التشيليّة في يوم واحد، في القطار أو بالطائرة، مما يعني القيام برحلة مضنية. والحال أنّه كان ضعيف الصحّة ويعاني من ارتفاع الضغط. اتّصلت به من نيويورك وألححت عليه في الطلب. وبدا أن هذه الرحلة تفوق طاقته، لكنه قرّر القيام بالمحاولة مخالفا رأي أطبائه ورأي والدتي التي رافقته. وعند وصولهما إلى سانتياغو في حالة من الإنهاك الشديد، وجدا في انتظارهما عربة خيل، هي صورة عن مجتمع أميركي جنوبي ما زال بالإجمال محافظا ومتعلقا بالشكليّات، لتنقلهما للمشاركة في مأدبة أقامتها على شرف والدي الجالية العربية ذات الغالبية الفلسطينيّة.

وصارت هذه العربة، إذ أستعيد صورتها فيما بعد، تذكّرني بالعربة التي تسير في طليعة المواكب الجنائزيّة. وإذ صعد أثناء السهرة إلى المنصّة ليلقي خطابه، صرعته سكتة دماغيّة. وكان، قبل عشر سنوات، قد نجا منها بـ«أعجوبة» بفضل تدخّل والدتي. لم تفلح الأمور هذه المرّة. وفي 11 نوفمبر (تشرين الثاني)، عشيّة وفاته، وجدتني أستفيق فجأة من نومي، ربما في نحو الساعة الحادية عشرة ليلا، وأفتح كتاب صلاة باللغة اللاتينية أهدته إلي صديقة فأقع على صفحة صلاة الموتى. وفي الغداة، رأيت في المكتب جميع المندوبين مقطّبي الوجوه فبادرت إلى السؤال تلقائيّا عمّا إذا كان والدي قد توفّي. فأُبلغت أنه فارق الحياة مساء أمس وتحديدا في نحو الساعة الحادية عشرة. ورافقني رئيس الوفد السوري، عادل إرسلان، بصفته صديق العائلة، إلى المطار حيث غادرت إلى بيونس آيرس. وها أنا في الحادية والعشرين من عمري أجدني قد بتّ مسؤولا، رغما عنّي إلى حدٍ ما، عن صحيفة «النهار» التي يملكها والدي. وبعدها تشابكت الأحداث بشكل متسارع. انضممت إلى والدتي ومعها إخوتي حيث أقيم قدّاسان الأوّل في سانتياغو والثاني أقامه اللبنانيون في ماندوزا، على الحدود الأرجنتينيّة التشيليّة، بعد أن أعيد جثمان والدي إلى بيونس آيرس في القطار. وأخيرا تمّ إحياء قدّاس رسمي بإيعاز من الرئيس بيرون الذي شكرته بعدها على بادرته هذه. ثمّ نظّمت رحلة عودة الأسرة ورفات والدي إلى بيروت. وإذ كان السفر بالطائرة ما يزال خيارا قليل الاحتمال آنذاك، فقد فضّلت والدتي وأخوتي العودة بحرا. وبوصول الرفات إلى بيروت في 20 ديسمبر (كانون الأوّل)، نقل فورا إلى كاتدرائيّة القديس جاورجيوس للروم الأورثوذوكس في ساحة النجمة، حيث أقيم له في اليوم التالي مأتم وطني.

ووجدتني الآن، في ذاك اليوم الواقع فيه 14 ديسمبر من عام 2005، واقفا أمام جثمان ولدي الحامل اسم جدّه، وتنبّهت فجأة، أمام هذا الجمع الغفير المضخّم بعمليات النقل التلفزيوني، أنّه علي أن أقول شيئا ما. فقد أنهى المطران جورج خضر كلمة التأبين وأشار إلى بأن ألقي كلمة. وليس المطران خضر من أشهر علماء اللاهوت الأورثوذوكس في عصرنا هذا، وأحد الشخصيات العروبية المسيحية الرفيعة، بل هو رفيق شبابي، معه أنجزت دراساتي الثانوية واختصاصي في الفلسفة. وبالتأكيد لم أكن قد حضّرت شيئا أقوله. ولم أعرف إن كان علي أن أتابع بلهجة المطران خضر اللاهوتية والفلسفية أم علي أن أجاري الحشود الصائحة معبّرة عن حزنها وغضبها. وإذ تقع كاتدرائية مار جاورجيوس في الجهة المقابلة لمجلس النواب، فقد طلب رئيسه أن ينقل إليه جثمان النائب عن الروم الأورثوذوكس جبران تويني، الذي اغتيل عشيّة ذاك اليوم مع اثنين من مرافقيه. وبعد التئام المجلس حمل النواب النعش على مناكبهم إلى الكاتدرائيّة، ولدى مرورهم رفع الحشد، هادرا مهدّدا، صور ولدي وصور سائر شهداء هذا البلد الذي سقط في سبيله الكثير منهم. ثمّ دخل الجثمان بيت الله وأنا أتساءل عمّا يمكن أن أفوه به في مثل هذه الظروف، وإلى منْ أتوجّه بالكلام؟ أإلى ابني الشهيد المسجّى على بعد أمتار مني؟ أم إلى رجال الدين؟ أم إلى الحضور المؤلّف من شخصيات الصفّ الأول في الحياة اللبنانية ومن أقرباء ومجهولين ومن مسحوقين مثلي؟ أم إلى الحشد الضخم في الخارج الذي تنقل إليه مكبّرات الصوت ما يجري في الداخل؟ أم إلى لبنان بأجمعه الذي يتابع الجنازة بواسطة النقل التلفزيوني؟ نظرت إلى ابنتَي جبران الصغريين، وهما توأمتان ولدتا له من زواجه الثاني وليس لهما من العمر سوى أربعة أشهر. كنت في حالة غير طبيعية لا تسمح لي بمواصلة تساؤلاتي الصامتة، ومن دون أن أفكّر استندت على يد المطران وارتقيت درجات المذبح متوجّها إلى باب الهيكل. ومن الأعراف السائدة أن يصار قبل دفن الفقيد إلى فتح النعش مرّة أخيرة وأن يرشّ أقرب أقربائه حفنة من تراب على وجهه. لكن نظرا إلى الطريقة التي اعتمدها مدبّرو عمليّة الاغتيال، لم يعد هناك، بالمعنى الصحيح للكلمة، لا جثة ولا وجه، وفي النتيجة لم يعد من مسوّغ لفتح النعش. بدا كلّ هذا عملا لا مثيل لوحشيته. مع ذلك، وفي لحظة توجّهي صوب النعش أوقفتني يد أحدهم. لبثت واقفا هناك هنيهة، حائرا، عاجزا وقد أُسقط في يدي. ثمّ عدت لألقي كلمة، بل لأطلق الكلام إذ لم أكن أعرف بعد بما سأتفوّه، وقلت بصوت منخفض جدّا، وبعكس كلّ التوقّعات، إنّني لا أدعو إلى الثأر، وهو ثأر لا قدرة لي عليه أساسا، كما أنني لا أؤمن به. وبطبيعة الحال طالبت بالعدالة كما أوصيت بالصفح: «فلندفن الحقد والثار». وأضفت أنني آمل أن تكون عملية الاغتيال هذه هي خاتمة سلسلة الاغتيالات وأن يجد لبنان سبيله إلى السلام. وددت أن أصرخ: «كفانا دما!»، لكن لا أظنّ أنني قلتها، أما الجمهور في الخارج فإنه، من جهته، تبلّغها بشكل جليّ.

في تلك اللحظة سادت في الكاتدرائية حركة ذهول وعدم تفهّم ربما لما حصل. فلا أحد، أو تقريبا لا أحد، كان يتوقّع، في ظلّ هذه الظروف الفظيعة، أن أمنح عفوي، ومني أنا ربما أقل من أي شخص آخر. فجوّ العنف الطاغي في البلاد كان يبرّر على الأرجح ردّا بحجم ما أصابنا مؤخّرا، وربما ما كنت لأرفض ذلك قبل دقائق من دخولنا الكاتدرائيّة. فما من شيء في الجرائم التي ارتكبت في الأشهر الأخيرة ضدّ العديد من شخصيات الصفّ الأوّل يمكن أن يبرّر أي حِلْم. لكن أنا نفسي فوجئت بهذا الكلام يصدر عنّي، وللتخفيف من وقعه رأيت من المناسب أن أضيف أنني آمل من كلّ قلبي أن تتحقّق العدالة. أحسست هنيهة بالحقد، وكانت تلك مناسبة لكي ألقي كلمة تأبينيّة في ذكرى ولدي القتيل، لكن شيئا من هذا لم يحدث. فكيف دهمتني فكرة الصفح الطارئة هذه في لحظة أتأمل فيها، وأنا مدير ظهري للجمهور، النعش الذي ترقد فيه جثّة ولدي الشهيد؟ ربما لأنني أمسكت لبرهة بيد المطران الذي تكلّم بالنفحة نفسها، إنما بمزيد من الغضب. فهو كصديق للعائلة رافق جبران في نشأته ويعرف تماما ما كان يمثّله لي وللوطن. وفي الوقت نفسه أحسست أنّ هذه الجريمة التي طالت ابني، ومزّقت كامل جسده، هي تحديدا جريمة تطال صورة الله. الله الذي خلق الإنسان على صورته تمّ الاعتداء عليه مباشرة. ووجدتني بذلك أفكر في أمور متناقضة لا حصر لها. والرغبة في الغفران لم تحجب في أعماقي حالة من الغضب الشديد على أولئك الذين حرمونا حتّى من إتمام وداعنا، ومنعونا من طبع القبلة الأخيرة على جبين غابي. بطرق متعدّدة قتلوه! ما قلته قبل لحظات هزّ كياني هزّا، وهو ما جعلني آخذ كامل وقتي، أثناء تقبّلي التعازي من المقرّبين الذين انضمّوا إلى في قاعة استقبال خاصّة، لكي أصوّب معنى خطابي وأشدّد مرّة أخرى على ضرورة تحقيق العدالة. إلا أنّ هذه التصويبات لم تكفِ وظلّ هناك من يعاتبني لائما إيّاي على تراخِيَّ. وقد أخذ علي بعض السياسيّين أنّني لمحت إلى تبرئة سوريا المتّهمة مباشرة بمحاولات وعمليّات الاغتيال الأخيرة التي استَهدفتْ، ليس جبران وحسب، بل الصحافي سمير قصير، أحد أقرب معاوني في الجريدة، وجورج حاوي، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، وإلياس المرّ، وزير الدفاع، وأخيرا الصحافيّة في تلفزيون «إل بي سي» مي شدياق.

وفي السنة السابقة كانت محاولة اغتيال بسيارة مفخّخة قد استهدفت ابن حمِيَّ، مروان حمادة، وهو صحافي ووزير وأحد مساعدي رفيق الحريري المقرّبين، ما اعتبر نذيرا بالقضاء على هذا الأخير بعد أشهر قليلة. وقد تبيّن أنّ هؤلاء الأشخاص الذين ساءهم بشكلٍ ما صفحي كانوا على حقّ، إذ إنّ سوريا أذاعت، غداة هذه الأحداث، بيانا قالت فيه إنّه كان من المتوقّع لأناس مثل جبران تويني أن يتعرّضوا للاغتيال كونهم كانوا يدعمون العدو، أي إسرائيل. لكنّني أجبت بأنّني لا أبرّئ أحدا، وبأنّ كلّ ما في الأمر أنني كنت في صدد دفن ابني المغدور. ولا أظنّ أنّ هذا كان تعبيرا عن ضعف من جانبي. وأضيف أنّ أناسا، أعرفهم ولا أعرفهم، قد حضروا مأخوذين بسورة حماس تركت أثرها فيّ، لكي يشكروني على ما قلته في ظرف على هذا المستوى من الشناعة. وأشكال التأييد هذه هي التي التقطتها الصحافتان اللبنانية والدوليّة ونقلَتَاها.

وليست هذه المرّة الأولى التي يتهدّدني فيها هذا الموت الفظيع، الذي لا يمكن وصفه، ليضيّق علي دائرته حتى أصابني في لحمي ودمي. فقد سبق أن فقدت في عام 1966 أحد أعزّ أصدقائي، كامل مروّه، وهو الأوّل في سلسلة طويلة من المعاونين والأصدقاء والشركاء، وحتّى المعارضين لي، الذين شهدتُ سقوطهم في ظروف مماثلة، حتى جاء حاليّا دور ابني.

لاحَتْ بوادر هذه الفاجعة في باريس، مساء يوم سبت قبل يومين من هذا الموت المأساويّ. كان جبران ينزل مع زوجته في شقّة صغيرة ملاصقة لشقّة العائلة. عادا من السينما وقرعا بابنا. وكان جبران قد اشترى في طريقه ألواحا من الشوكولا المرّ الذي أُحبّه كثيرا متذرّعا بذلك لكي يزورنا. وقد استغربتُ منه هذه الهديّة التي تأتي في هذه الساعة المتأخّرة من الليل، وارتبت في أنّها تخبّئ وراءها طلبا ما. وأفهمتني زوجته أنه قرّر العودة إلى لبنان يوم الأحد، أي في اليوم التالي، وأنّ كلّ محاولاتها لثنيه عن ذلك قد ذهبت سدى، وأنها هي التي بادرت إلى هذه الزيارة متخيّلة أنني ربما تمكّنت من حمله على تغيير رأيه. كان جبران يدرك تماما أنّه مهدّد، فقد سبق للعديد من أجهزة الاستخبارات أن سرّبت أسماء أولئك الذين تنوي سوريا تصفيتهم، واسم جبران على رأس اللائحة. ويبدو أنّه لم يعبأ بذلك، فقد كان عليه أن يتكلّم في مجلس النواب صباح الثلاثاء، وتحديدا عن اللبنانيين المفقودين في سوريا، وهي قضيّة مرّة ولا يرقى إليها الشك، إلا أنّ قلّة من الناس تجرّأت على تناولها.

وهذا الإيضاح هو الذي عزّز رأيي القائل بأنه يجب ألا يعود بأي شكل من الأشكال إلى لبنان في ظلّ هذه الظروف ولكي يلقي كلاما من هذا النوع في مجلس النواب. إلا أنّه حاول طمأنتي قائلا: «لن يحدث شيء». وتركتهما يغادران. وفي صبيحة يوم الاثنين كنت أتابع الأخبار على شاشة التلفزيون عندما علمت فجأة أنّ سيّارة مفخّخة قد انفجرت على الطريق من بيت مري إلى بيروت، في نحو الساعة التاسعة والنصف، وأنّه لم يُعرف حتى الآن من هم الضحايا. سارعت إلى الاتّصال بلبنان لأعرف إن كان جبران قد غادر المنزل. وجاءني الردّ بأنّه غادر قبل دقائق. بدا كما ولو أنني أحضر عملية الاغتيال مباشرة.

وبات الأمر الآن على عاتق القضاة الذين عيّنتهم لجنة التحقيق الدوليّة لكي يجلوا الحقيقة في ظروف اغتيال ولدي.

* من كتاب غسان تويني «فلندفن الحقد والثأر» - «دار النهار»