مدير دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس : الأقصى ليس في خطر بل القدس وهويتها وأهلها

الشيخ عزام الخطيب لـ «الشرق الأوسط»: 3 مدارس في إسرائيل تتعاطى مع أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين

عزام الخطيب مدير أوقاف القدس
TT

«لا توجد تصدعات في أبنية المسجد الأقصى المبارك أو الصخرة المشرفة. التصدعات الخطيرة هي في حال مدينة القدس الشرقية المحتلة، فهذه المدينة برمتها تعاني خطرا على هويتها ومكانتها وعروبتها جراء المشاريع الاحتلالية. وهذه المعاناة يجب أن تقلق كل عربي وكل مسلم وكل محب للخير والعدل والسلام في عالمنا. وهي تحتاج إلى خطة استراتيجية مدروسة، لدعم صمود الإنسان الفلسطيني في القدس. ودعم الإنسان يعني محاربة الفقر والترحيل والرحيل وأزمة السكن والبطالة، فلن يحمي القدس إلى صمود أهلها، ولهذا الصمود استحقاقات كبيرة، لا بد من توفيرها. وعدم توفيرها هو الذي يهدد صمود المدينة».. بهذه الصرخة توجه الشيخ عزام الخطيب التميمي، مدير دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، خلال مقابلة مع «الشرق الأوسط».

ودائرة الأوقاف في القدس هي الجسم القانوني العربي المسؤول عن القدس. إنها تابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، ولكنها بحكم التاريخ والسياسة باتت مسؤولة عن القدس برمتها، ليس فقط لأنها تأسست سنة 1580 ميلادية، ومنذ ذلك الوقت وهي ترعى الأوقاف. وليس لأنها تتولى شؤون المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، بعد الحرم المكي والمدينة المنورة، وليس لأنها الجهة التي تعترف بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ سيطرتها على القدس سنة 1967. بل أيضا، إضافة إلى كل ما سبق، لأن عقارات القدس تابعة لها، إدارة وأملاكا؛ فهي الدائرة التي تمتلك نحو 80 في المائة من عقارات البلدة القديمة من القدس (داخل الأسوار)، علما بأن مساحة البلدة القديمة لا تزيد على كيلومتر مربع واحد، لكنها تضم أربعة أحياء: الحي الإسلامي (الذي يشكل، مع الحرم الشريف، ما يعادل نصف البلدة تقريبا)، وحي النصارى وحي الأرمن وحي المغاربة الذي أطلقت عليه إسرائيل اسم حي اليهود بعد احتلال المدينة عام 1967. وقسم كبير من الكنائس والأديرة والمقابر والبيوت تعتبر ملكا للوقف الإسلامي تم تحكيره (تأجيره مقابل بدل محدد لأجل غير محدد). كما يتبع للوقف ما يزيد على 60 في المائة من عقارات القدس خارج الأسوار، بينها 44 مسجدا و40 مدرسة ومئات البيوت ومئات الحوانيت.

اخترنا الوصول إلى الشيخ عزام عبر بوابة الأقصى الشرقية، من جهة باب الساهرة. حالما تمر من نقطة مراقبة قوات حرس الحدود الإسرائيلية، أزقة المدينة تجذبك إلى حناياها كمغناطيس يتخفى ببساط الريح. فهي زقاقات بنزلات وطلعات متعبة، وفوق العديد من عماراتها ترفرف أعلام إسرائيل، في إشارة إلى أن عصابات الاستيطان الاستفزازية تمكنت من السيطرة عليها، لكن عبق التاريخ في المدينة يحملك سريعا إلى أجواء حنين وعزة. والفسيفساء الإنسانية المدهشة تجعلك تذكر أن تحويلها إلى أرض صراع وخلاف وسفك دماء وعنف، هو حالة مؤقتة حتما. فهذا الاندماج بين زوارها المقبلين من شتى أصقاع الأرض، رهبانها وشيوخها، سياحها وتجارها، مرشدو السياحة فيها الذين يتقنون التكلم بعشرات اللغات التي يفهمها حجاج من مختلف الشعوب والألوان والأجناس، هو شهادة خالدة على أنها كانت وستبقى «الأرض المقدسة» للجميع.

تتجاوز سوق القدس بسهولة. فالتجار هنا يئسوا من مناداة الزبائن لحثهم على الشراء، وصاروا يجلسون على بوابات حوانيتهم يتابعون المارة كما لو أنهم حراس يقاومون النعاس.. «يهشون الذباب كما ترى، فالحالة الشرائية تعيسة. الناس عندنا لا يشترون»، قال مرافقي، وأضاف: «والله أقول الحقيقة، فهذه ليست الشكوى التقليدية لتجار لا يشبعون ولا يقنعون».

الحوانيت صغيرة، وبعضها بحجم صندوق خضار. قسم كبير منها لا يوجد فيه مكان للدخول، كأنها شباك سابق، أو مطبخ سابق، وضعوا فيه ثلاجة ولا يبيع سوى الماء، أو حانوت بيع خضار يتسع لخمسة صناديق، أو زقاق صار حانوتين متلاصقين، أحدهما يبيع التذكاريات والثاني يبيع الفلافل، أو أحدهما يبيع الكتب الدينية والثاني يبيع ألعاب الأطفال. وعندما يعدون الفقراء في المدينة، يحتل هؤلاء التجار مكانة مرموقة في السجل، بجدارة.

وفي القدس الشرقية 320 ألف عربي، ومنذ الاحتلال عام 1967، والسلطات الإسرائيلية تعد لهم مشاريع تيئيس للتخلص من أكبر مقدار منهم؛ فبعد أيام من احتلالها، ضمت بقرار احتلالي لإسرائيل. السكان لا يحصلون على المواطنة والجنسية الإسرائيلية، ولهذا فإنهم لا يصوتون للبرلمان ولا يترشحون فيه، ولكنهم يستطيعون التصويت للبلدية (وعادة يقاطعون الانتخابات البلدية لأنهم لا يعترفون بالاحتلال)، ولكنهم أيضا لا يحظون بالحقوق التي يحظى بها المواطن الإسرائيلي.

على مدى 46 سنة، عملت سلطات الاحتلال على تهويد أكبر قدر من المدينة، فبنت فيها 11 حيا استيطانيا، كل منها يعتبر مدينة، وسيطرت على 40 في المائة من العقارات في البلدة القديمة، وسيطرت على مبان عديدة في الأحياء العربية ووطنت المستوطنين فيها، وبنت جدارا يقطع صلاتها عن أحياء وقرى محيطة وعن الضفة الغربية، وأهملت الأحياء العربية تماما. وتصل نسبة الفقر في المدينة إلى 70 في المائة من العائلات. والمدارس تعمل بورديتين، قسم يتعلمون في الصباح وقسم بعد الظهر. وهناك نقص في الغرف الدراسية لنحو 35 ألف تلميذ، ويوجد 10 آلاف تلميذ في سن التعليم يتسكعون في الشوارع بلا حسيب ولا رقيب.

هذه الحالة تفزع عزام الخطيب بشكل خاص، فيقول إن من يريد إنقاذ القدس فعليه أن يفكر في الإنسان الفلسطيني فيها وأي مستقبل ينتظره: «أي جيل يمكن أن ينشأ لدينا في هذه الظروف؟ عندما لا يجد الشاب تعليما، بماذا يستطيع أن يعمل؟ وعندما لا يجد عملا، من أين سيوفر مالا لبناء بيت وتكوين أسرة؟ وفي ظل غياب الأرض، كونها مصادرة من الاحتلال أو باهظة الثمن بحكم أسعار السوق، كيف يبقى في المدينة؟».

كيفما تصل إلى الأقصى، تعبر محطات تاريخ مهيب. المقدسات لمختلف الديانات تحيط بك من كل جانب، يمنة ويسارا، فوق الأرض وتحت الأرض. في العليات وفي المغر والسراديب. تاريخ البشرية بين يديك، لكن هات من يعقل ويتوكل.. فالبلدة حزينة ضائقة.

وتدخل الحرم الشريف الممتد على 144 دونما من الأرض، لتنتشي بهالة من القدسية في جانب وتكتوي بنار البؤس من الجانب الآخر. المسجد الأقصى المبارك على يسارك، بقناطره وشماسيه الثماني، ومآذنه الأربع، وقبابه المترامية، وحركة المصلين والحراس المسلمين والجنود الإسرائيليين المسلحين. والصخرة المشرفة في مواجهتك، بقبتها الذهبية اللامعة وفسيفسائها الدامعة. أقدس أقداس المسلمين في المنطقة، يعيش توترا دائما، ففي كل لحظة يمكن أن تتحول باحاته إلى ساحة معارك. كل زائر يثير الشك، فهناك متطرفون يهود يحاولون باستمرار التحايل للدخول كي يقيموا الصلاة اليهودية، والأمر يثير مخاوف المسلمين من أن يصبح عادة، تتدحرج إلى إقامة مصلى ثم كنيس ثم تهديد للأقصى.. «حسب الديانة اليهودية يحظر على اليهود أن يصلوا في باحة الأقصى، فهم يعتقدون أن الأقصى بني مكان هيكل سليمان المزعوم، وأن المشي في باحاته يدنس الهيكل وآثاره. ولذلك، فإن اليهود الذين يأتون إلى هنا ليسوا متدينين يبحثون عن مكان للصلاة، بل سياسيون استفزازيون يبحثون عن وسيلة للتخلص من المسلمين ومقدساتهم، حتى ينفردوا بالسيطرة على القدس ويهدموا الأقصى»، هكذا يفسر هذه المخاوف أحد حراس الأقصى.

ونغادر بوابة الحرم من جهة «عقبة التكية» (تكية خاصكي سلطان) التابعة لدائرة الأوقاف الإسلامية والكائنة مقابل مقر دائرة الأوقاف، لنلتقي الشيخ عزام الخطيب في مكتبه المطل على باحات الأقصى. عمره 62 عاما، أمضى معظمها في وظائف ومهمات تتعلق بالأوقاف. فيوضح لنا لماذا الأردن ووزارة الأوقاف الأردنية: «نظرا لأهمية القدس، ودرته المسجد الأقصى المبارك، لدى المسلمين، فقد حظيت باهتمام ورعاية خاصة على مر العهود الإسلامية، وكان دور الهاشميين في أجيالنا المعاصرة دورا متميزا، ظهر في مراحل متلاصقة، فسجل لهم تاريخ الأمة ثلاثة إعمارات متميزة وعظيمة للمسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة، في إطار عنايتهم الشاملة بالمدينة المقدسة. الإعمار الهاشمي الأول كان بقيادة شريف مكة المكرمة، الشيخ الهاشمي الحسين بن علي (طيب الله ثراه)، وذلك منذ قيام الثورة العربية الكبرى عام 1916. وقدم للقائمين على المسجد الأقصى رجال المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى دعمه المادي والمعنوي، فخصص مبلغ 24 ألف دينار ذهبي لإعمار الرحاب الطاهرة في وقت كان في أمس الحاجة إليه. وفي 1924، وجه الحاج أمين الحسيني (رحمه الله) رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في بيت المقدس، رسالة إلى سمو الأمير عبد الله بن الحسين لتكون عمارة الحرم الشريف كلها تحت رئاسة سموه وتحت رعايته. وتابعه في ذلك الشهيد الملك المؤسس عبد الله بن الحسين، الذي كان على يديه قيام الوحدة بين الضفتين في 1950. واستمر ابنه (المغفور له) الملك طلال بهذا الاهتمام. ومنذ أن تولى (المغفور له) الملك حسين بن طلال سلطاته الدستورية أصدر توجيهاته وأوامره بضرورة العناية بالحرم وما يشتمل عليه من معالم إسلامية خالدة، وليزداد اطمئنانا للإجراءات قرر تشكيل لجنة خاصة للقيام بمهام وترميم المسجد الأقصى المبارك والمحافظة عليه، وصدر القانون الأردني رقم 32 لسنة 1954 بتشكيل لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة وبيان مهامها. وعندما قامت السلطة الفلسطينية سنة 1994، طالبت بتولي أمور الأوقاف والمحاكم الشرعية، فقامت حكومة المملكة الأردنية الهاشمية بفك الارتباط الإداري والقانوني مع المحاكم الشرعية والأوقاف الإسلامية في الضفة الغربية، وأصبحت تخضع لإشراف المسؤولين في هذه السلطة وفق القوانين والأنظمة التي كانت سارية المفعول قبل هذا القرار، وقد استثنت الحكومة المحاكم الشرعية والأوقاف الإسلامية في القدس الشريف من قرار فك الارتباط المشار إليه، على اعتبار أن موضوع وضع المدينة المقدسة قد أجل بحثه لمحادثات الوضع النهائي، وبذلك يظهر أن القوانين الأردنية بخصوص الأوقاف الإسلامية في المدينة المقدسة ما زالت هي المطبقة والسارية المفعول».

وهناك سبب سياسي لم يذكره الخطيب، يتعلق بالسياسة الإسرائيلية؛ ففي زمن حكومات اليمين الإسرائيلي ما بعد اتفاقات أوسلو، حاول الاحتلال ضرب السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بشكل عام، وتصفية أي وجود لها في القدس الشرقية. وأغلقت الكثير من المؤسسات الفلسطينية الوطنية، لكنها كانت حذرة تجاه دائرة الأوقاف، بسبب الانتماء الأردني. هذا لم يمنعها من تنفيذ عدة مخططات احتلالية في القدس وفي محيط الأقصى وبعض الأوقاف الإسلامية، إلا أن وجود الأردن في الصورة جعل الأضرار أقل.

والدائرة من جهتها بقيت عنوانا لمختلف الجهات، وعلاقاتها رتيبة مع السلطة الفلسطينية من جهة، ومع السلطات الإسرائيلية من جهة أخرى. وتحرص على علاقات جيدة مع القوى السياسية والشعبية التي تناضل من أجل الأقصى، مثل «مؤسسة الأقصى للوقف والتراث» في إسرائيل، التي تديرها الحركة الإسلامية، وتنظم العديد من النشاطات للتواصل بين فلسطينيي 48 والقدس والأقصى، ومع لجنة المتابعة العربية التي تضم الأحزاب والحركات الوطنية لفلسطينيي 48.

وكان طبيعيا أن نبادر بسؤال الشيخ الخطيب عن الأقصى المبارك، وهل هو فعلا في خطر هدم وتدمير؟ وهل الحفريات الإسرائيلية تحت الأرض تهدد بتقويض أساسته؟

فأجاب: هناك ثلاث مدارس في إسرائيل تتعاطى مع موضوع الأقصى.. الأولى تمتنع عن دخول الأقصى وتحرمه باعتبار أن الهيكل لا يبنى إلا عند قدوم المسيح المخلص، وهي مؤلفة من رجال الدين ومن السياسيين الواقعيين. الثانية تريد هدم الأقصى وبناء الهيكل مكانه، وهي تعمل بقيادة تنظيم «أمناء الهيكل» المتطرف بقيادة المدعو جرشون سلومون. والثالثة تلك التي تريد أن تقاسمنا الأقصى، مثلما قاسمونا الحرم الإبراهيمي في الخليل. أصحاب المدرستين الثانية والثالثة هم الذين يشكلون خطرا. فإذا ربطنا بين هذه التوجهات، وبين ما نسمعه من تصريحات متطرفين عن هدم الأقصى لبناء الهيكل مكانه، وما اكتشفته السلطات الإسرائيلية نفسها من نشاطات إرهابية لإحراق الأقصى وتفجيره، تكون هناك أخطار جسيمة.

* وأين تضع السلطات الإسرائيلية في هذه المعادلة؟ هل هي تهدد بتدمير الأقصى؟

- أريد أن أومن بأن مثل هذا الموقف الأحمق لا يوجد في رؤوس حكام إسرائيل. فهم يعرفون أن هناك مليارا ونصف المليار مسلم في العالم يهمهم الأقصى، فضلا عن وجود مناصرين من قوى التنوير والسلام من الأديان الأخرى. فأي خطر على الأقصى سيشعل حربا دينية، لا أدري إن كانوا يريدونها. ودعني أقل إنني أتمنى وآمل أنهم لا يريدونها.

* هل توجد حفريات تحت المسجد الأقصى؟

- لا أعرف بوجود حفريات تحت الأقصى مباشرة. حصل هذا ذات مرة في الماضي البعيد ولكنه توقف، بيد أن هناك حفريات في المناطق الواقعة حول الأقصى، وتحديدا من حائط البراق وحتى المدرسة العمرية.

* هل توجد تصدعات أو انهيارات في جدران الأقصى أو الصخرة المشرفة؟

- لا أبدا، فنحن في دائرة الأوقاف وبمرافقة مباشرة من الديوان الملكي، نتابع صيانة المباني والمساجد بشكل دائم، من خلال مهندسين خبراء. ونبني ونعمر ونعزز المباني ونصونها بطرق علمية ومهنية عالية، ولا نسمح بتصدعات.

* في إسرائيل نشر كتاب في الآونة الأخيرة يعتبر ما يقال عن «الأقصى في خطر» أنه أكذوبة وتحريض عنصري وغير ذلك. ويدعي أن مسؤولين مسلمين كبارا يتكلمون عن خطر على الأقصى، ولكنهم خلال الحديث مع إسرائيليين يتكلمون بطريقة مغايرة، وأنهم يعرفون بأن الأقصى ليس في خطر، وأن إسرائيل دعت وفودا من شيوخ الأقصى ودائرة الأوقاف لكي يدخلوا الأنفاق التي حفرتها السلطات الإسرائيلية ويروا بأعينهم أنها لا تشكل خطرا على الأقصى. فماذا تقول في هذا؟

- من يستطيع أن يفحص إن كان هناك خطر على الأقصى من هذه الأنفاق والحفريات، ليس الشيوخ، بل المهندسون الخبراء، ونحن اقترحنا في السابق ونعيد اقتراحنا اليوم، أن يتاح لخبراء دوليين ومسلمين أن يجروا الفحوصات العلمية اللازمة، والمملكة الأردنية تتابع هذا المطلب، ولكن إذا كنا نريد أن نتحدث عن خطر، فالخطر هو على القدس العربية المحتلة نفسها، على هويتها القومية وعروبتها بسبب سياسات الاستيطان والتهويد. والخطر هو على الإنسان الفلسطيني في القدس، الذي يعاني الفقر والجوع والبطالة والجهل والنواقص في المدارس وجهاز التعليم، وأزمة السكن والآفات الاجتماعية وإهمال الخدمات، وآفات الجدار العازل بل الخانق. هذه أوضاع تدفع كثيرين إلى اليأس وإلى هجرة القدس والانتقال إلى الضفة الغربية، بحثا عن عمل أو عن بيت رخيص أو تعليم أفضل، وبهذا يحققون هدف الاحتلال والمتطرفين بتقليص نسبة الفلسطينيين في القدس.

* وماذا تفعلون في هذا؟

- نحن نعمل الكثير، ففضلا عن صيانة المسجد الأقصى المبارك، بكل مرافقه ومساجده، نحن نقيم مشاريع اقتصادية غير قليلة، فالحوانيت التابعة للأوقاف تؤجر بسعر بسيط. وكذلك البيوت. وأقمنا مؤخرا مشروع إسكان من 48 وحدة سكنية، ونبني حاليا مشروعا يضم 200 وحدة. ولدينا 40 مدرسة وبرامج تأهيل واسعة للمعلمين، ونشاطات ثقافية ودينية عديدة. وفي «تكية خاصكية»، وبتمويل إماراتي سخي، نقدم 550 وجبة ساخنة يوميا لعائلات الفقراء المعوزين، على مدار السنة، تزيد بعض الشيء في شهر رمضان الفضيل. ونقدم دعما ماليا للطلاب الجامعيين من العائلات المحتاجة.

* إلى أي مدى يساهم هذا النشاط في دعم صمود القدس؟

- لن يصون القدس سوى صمود أهلها. والصمود ليس مجرد شعار نطلقه في مظاهرة أو اجتماع أو مؤتمر. الصمود هو عملية تعزيز وتعظيم وتقوية للإنسان الفلسطيني المنزرع في الأرض. توفير العمل الكريم له والدخل المناسب وشروط السكن المريح وهكذا..

* تقصد الدعم المالي؟

- أجل الدعم المالي، فنحن لا نتحدث عن شيء عادي.. نتحدث عن القدس وعروبة القدس ومواجهة الاحتلال فيها ومشاريع التهويد. نتحدث عن أهل الرباط، عن الأقصى، وعن بقية المقدسات الإسلامية والمسيحية. فما المشكلة في أن يتم تخصيص مبالغ كافية لتدعيم صمود الناس هنا. لو كان الأمر بيدي، لكنت قررت صرف راتب شهري مناسب لكل عائلة محتاجة في القدس، حتى لو شملت 70 في المائة من السكان.

* في إسرائيل يتحدثون عن تسريب عقارات فلسطينية للمنظمات اليهودية التي تعمل بتمويل ضخم من اليهود الأميركيين. فلماذا يبيع الفلسطينيون بيوتهم وأراضيهم لهذه التنظيمات في ظل الاحتلال؟

- أعتقد أن هناك مبالغة في الحديث عن تسريب عقارات.

* أي مبالغة؟

لقد شاهدت بعيني العلم الإسرائيلي يرفرف فوق عشرات البيوت في البلدة القديمة. وهناك أحياء استيطانية تقوم في قلب الأحياء الفلسطينية أو على أراض فلسطينية بيعت أو تم تحكيرها لسنين طويلة. وقد حصلنا على معلومات تقول إن 40 في المائة من العقارات داخل أسوار القدس أصبحت بملكية يهودية.

- أنا لا أنكر أن هناك ضعاف نفوس باعوا، لكن هذا البيع توقف حسب معلوماتي. وبالطبع، فإن أملاك الوقف لا يمكن أن يتم تسريبها. فأنا مدير أوقاف منذ سنة 2007، ولم يحصل أن تمت صفقة لبيع أي عقار وقفي لأي جهة غير فلسطينية في زمني. هذه القضية، حسب رأيي، أصبحت من ورائنا. لكن هذا لا يعني أننا نغمض أعيننا ونرتاح؛ فاليقظة والحذر واجبان دائما.

ونغادر مقر دائرة الأوقاف، لنسلك اتجاها آخر هذه المرة، حتى نعبر في ممرات أخرى تحكي قصة تاريخ القدس. وأول زقاق يواجهنا، ذلك المعروف منذ ألفي سنة باسم «درب الآلام». نسير فيه وفي ذكرياته الأليمة مع السيد المسيح. فمن لا يمر في درب الآلام كأنه لم يتعرف على القدس.