باكستان تفقد خدمات إنجليزي يدرس في قراها منذ 65 عاما

قرر التقاعد في سن 94 وقائمة زواره في معقله الجبلي تشمل الأميرة ديانا والجنرال ضياء الحق

جوفري لانغلاندز أمام كلية آتشيسون في لاهور (نيويورك تايمز)
TT

خلال الاجتماع الكبير الذي عقد مؤخرا وحضره زعماء القبائل في هذه المنطقة الجبلية الوعرة والنائية، برز بين ضيوف الشرف، رجل إنجليزي يرتدي حلة وحذاء لامعا، أما شعره الأبيض فكان ممشطا بعناية، وكانت الصحيفة الصباحية مطوية على فخذه.

كان الرجل، جوفري لانغلاندز، شاهدا على الكثير من الفصول الدرامية التي شهدتها باكستان منذ وصوله إلى البلاد، أثناء مولد البلاد الفوضوي قبل 65 عاما. تناول لانغلاندز الشاي مع الأميرات، وتناول العشاء مع الحكام الديكتاتوريين واختطفه رجال القبائل وعاصر العديد من الحروب. ومع بلوغه سن الرابعة والتسعين، يبدأ لانغلاندز، الضابط البريطاني السابق الذي تقاعد برتبة «رائد»، وعمل طوال حياته في التدريس، مغامرة جديدة، هي التقاعد.

وعلى مدى الـ25 عاما الماضية، كان لانغلاندز يعمل ويقطن في شيترال، المنطقة التي يغطي قمم جبالها الجليد في شمال باكستان. وقد تحولت مدرسة لانغلاندز إلى كلمة السر للتميز، إذ يشهد كل عام انتقال أبرز الطلبة الذين يتجاوز عددهم الألف طالب، ثلثهم من الطالبات، إلى الجامعات في المدن الكبرى، أو الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة. هذا النجاح يتضح بجلاء في بناء المدرسة في منطقة تعج بالعنف والمكائد، فإلى الشرق منها وادي سوات، حيث حارب الجيش الباكستاني متمردي طالبان عام 2009، وإلى الغرب يقع إقليم نورستان حيث خاضت القوات الأميركية عددا من أصعب معاركها.

قبل عدة سنوات ظهر عدد من الأميركيين في المنطقة يسألون أسئلة عن أسامة بن لادن، وقال السكان المحليون إنهم كانوا من عناصر وكالة الاستخبارات المركزية. لكن بالنسبة لـ«الرائد» كما كان يعرف، كان ذلك فصلا عزيزا في حياة شهدت الكثير من المغامرات والدراسة في بلده الثاني. وهو يتحول إلى الفصل التالي بنزعة واضحة من التردد. وقال أثناء جلوسه في شرفة تطل على واد فسيح يتناثر فيه عدد من المنازل ذات الأسقف القصديرية: «أعتقد أن الوقت قد حان للتأني في ما تبقى من الحياة»، ثم نهض واقفا، وقال: «لكن لا يزال هناك الكثير مما يمكن القيام به، فالجلوس بلا عمل لم يكن مطروحا بالنسبة لي على الإطلاق».

كان لانغلاندز جنديا في سلاح القوات الخاصة خلال الحرب العالمية الثانية، وشارك في الهجوم على الدفاعات الألمانية على الساحل الفرنسي، وفي أغسطس (آب) 1947 استقر به المقام في الهند البريطانية، حيث شهد الانفصال الدامي لشبه القارة الهندية. وخلال هذه الأحداث علق في محطة على قطار مليء باللاجئين الهندوس، وتعرض لإطلاق الرصاص من مسلحين مسلمين، وفي أقصى الجنوب شاهد السيخ يهاجمون مسجدا. ويصف هذه الأحداث بأنها «مرعبة ولم يكن أحد يعلم ماذا سيفعل».

بعد مغادرة البريطانيين الآخرين، ظل لانغلاندز في باكستان، يعمل معلما في كلية آتشيسون في لاهور، المدرسة الأكثر رقيا في باكستان. وعلى مدى ربع قرن هناك، قام بتدريس مادة الجبر إلى أبناء الصفوة الباكستانيين، الذين تحول البعض منهم إلى قادة للجيش والسياسة والرياضة. من بين هؤلاء الطلاب ظفر الله خان جمالي، الذي كان رئيس الوزراء الباكستاني بين عامي 2002 و2004، وعمران خان لاعب الكريكت الذي تحول إلى العمل السياسي.

في عام 1979 انتقل إلى شمال وزيرستان، الواقعة في الحزام القبلي، ليدير مدرسة المنطقة التي تنامت شهرتها اليوم بسبب غارات الطائرات الأميركية من دون طيار. بيد أن لانغلاندز يذكر أن رجال القبائل أوغاد أكثر منهم أشرار. ففي إحدى المرات احتجزه رجال القبائل رهينة لمدة ستة أيام في محاولة لتغيير نتائج الانتخابات غير المرضية لهم. ولم تفلح خطتهم لكن خاطفيه عاملوه بلطف حتى أنهم أصروا على اصطحابه إلى التدريب على استخدام السلاح. وقال بضحكة رقيقة: «لم يكن الأمر سيئا. كانوا في غاية الأدب معي عندما علموا أنني في سن الحادية والسبعين. وقبل أن أغادر، أصروا على التقاط الصور التذكارية معي».

الحياة أكثر هدوءا في شيترال، الواقعة في الركن الشمالي من إقليم خيبر بختنخاو، والتي نجت من جحيم طالبان بسبب طبيعتها الجغرافية وعزلتها الثقافية. وعلى عكس غالبية الأفراد في المناطق المحيطة بالمنطقة لا ينتمي أبناء منطقة شيترال إلى عرقية البشتون، ويكمن حبهم الأكبر في لعب نوع معين من البولو، وتعليم أبنائهم والعيش بحرية.

يعد لانغلاندز، إلى حد بعيد، مثالا إنجليزيا حيا على الهند البريطانية الحية، حيث يعيش الرجل في كوخ صغير متداع في وسط المدينة، حيث يستيقظ كل صباح في الساعة الـ05:40، ويقدم له الخادم الإفطار الذي يضم عصيدة الشوفان وبيضة مسلوقة وكوبين من الشاي. يقوم لانغلاندز بتصفح أحدث الصحف، التي تصل إلى الوادي عبر خدمات الطائرات غير المنتظمة في الوادي والتي قد تعود لبضعة أيام.

ثم يأتي بعد ذلك مساعده الذي يجيب عن هاتفه وينقل له ما جاء في بريده الإلكتروني، ثم يقله إلى العمل. يظهر مشاهير الزوار على الصور العتيقة التي تحتل حائط مكتبه. وتشمل قائمة الزائرين الأميرة ديانا، أميرة ويلز، التي زارت شيترال عام 1991، والجنرال محمد ضياء الحق، الرئيس الأسبق لباكستان، والذي كان يعرفه لانغلاندز عن قرب. وقال: «ذات مرة أبقى الجنرال ضياء الحق وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر حتى يقابلني».

خلف هذه الضحكة المرحة يكمن ذكاء فطري وتحفظ دبلوماسي. وهو أسلوب قديم يتناقض مع ميزانية بملايين الدولارات وعمل خيري يحركه الإعلام لمساعدات التنمية الحديثة. وهو يتقاضى 270 دولارا شهريا - وهو مبلغ ضئيل مقارنة حتى بالمعايير المحلية - ويتنقل مستخدما الحافلات العامة. وهو يعلم اللغة الأوردية لكنه يرفض استخدامها. ويقول: «أشعر دائما بأن عملي هو تطوير مستوى اللغة الإنجليزية». لم يتبق الكثير من عائلته، ففي سن الثانية عشرة توفي والداه ولم يتزوج على الإطلاق ولم يزره أخوه التوأم الذي يعيش في إنجلترا سوى مرتين. وقال عندما سئل عن فلسفته: «أنا أتقبل الحياة كما هي».

يعتبره أبناء شيترال واحدا منهم، فيقول مولتان محمود، عامل بناء: «(الرائد) قيمة لا تقدر بثمن، لا يمكننا تعويضها». لكن استبداله يمثل ضرورة، فقد تسببت الجلطة الدماغية التي أصابته قبل عدة سنوات في رعشة تصيب يديه. ويبدي الأطباء قلقا بشأن ما يمكن أن يسببه شتاء قارس آخر في شيترال. ويبدو القلق المحلي واضحا في كلام السكان المحليين، وعندما يرحل «الرائد»، هل ستحيي مدرسته الفخورة تراثه؟

الإجابة، أنهم يأملون في مدير إنجليزي آخر - لكنه في هذه المرة سيدة. فبداية من سبتمبر (أيلول) ستدار مدرسة لانغلاندز من قبل كاري سكوفيلد، الكاتبة التي نشرت كتبا حول رجال العصابات الفرنسية مثل ميك غاغار، وكان أحدث كتبها عن الجيش الباكستاني، وتعترف سكوفيلد، 58 عاما، بأنها لا تتمتع بأي خبرة تعليمية لكنها تقول إن أهالي شيترال يصرون على ضرورة الاستعانة ببريطاني آخر. وقالت في محادثة هاتفية من لندن: «إنهم يحملون عشقا كبيرا للانغلاندز، وأعتقد أنهم يرغبون في استنساخه».

لا تزال الأعمال الملحة تنتظر، ففي الوقت الذي تراجع فيه أداء لانغلاندز خلال السنوات القليلة الماضية، تراكمت المشكلات، من تأخر الطلبة في دفع المصاريف الدراسية، وتأخر رواتب المعلمين، وعدم وجود أجهزة كومبيوتر أو مؤسسة أو أموال. وبالفعل جمعت سكوفيلد 55 ألف دولار لتحسين الطريق الوعر إلى المدرسة، ففي العام الماضي انقلبت حافلة المدرسة التي كانت تقل 14 طالبا على جانبها، ولحسن الحظ لم يصب أي طالب بأذى.

وفي الوقت ذاته سينتقل لانغلاندز إلى لاهور، حيث أعد له طلابه السابقون شقة صغيرة على أرض المدرسة القديمة «آتشيسون كولدج». وقد اختار أيضا مدفنا له في مدافن المسيحيين في المدينة، ويقول إن هناك الكثير من الأصدقاء الذين دفنوا بالقرب من البوابة والذين يأتي لزيارتهم. لكنه يقول إنه يتعين في البداية القيام بأمور كثيرة: كتابة مذكراته، والاحتفال بيوم ميلاده الخامس والتسعين الذي سيشاركه فيه أخوه، وجمع التبرعات. وهو يحلم الآن ببناء سكن مدرسي في شيترال، وإنشاء أفضل أكاديمية على الإطلاق. وقال بنبرة واثقة، ولمعة في عينيه: «أنا أرفض أن أجلس من دون عمل».

* خدمة «نيويورك تايمز»