الأسد «المنبوذ» سيقاتل حتى النهاية

أحلام «ربيع دمشق» سبقت «الربيع العربي» بعقد من الزمان.. لكن اتضح أنها خدعة

بشار الأسد
TT

قبل أكثر من عقد على بدء الربيع العربي، كان هناك ربيع دمشق. فخلال الأشهر الأولى لتولي بشار الأسد الحكم في سوريا عام 2000، شهدت الساحة السورية موجة من حرية التعبير بعدما بعث بمؤشرات فسرت بنيته تخفيف القبضة الشمولية التي حكم بها والده. وشكل حينها معارضو النظام سبعون ناديا حواريا، وكانوا يلتقون بحرية وأصدروا مجلتين معارضتين.

لكن شهر العسل لم يدم طويلا فسرعان ما بدأت الحقبة الجديدة، التي شنت فيها قوات الأسد أعمالا انتقامية، اعتقل خلالها المعارضون، وتوقفت معها الإصلاحات الاقتصادية.

ويقول الناشط السوري محمد العبد الله، الذي شارك في الحوار قبل أن يجد نفسه وأخاه ووالده في السجن بعد عدة أشهر من رفع راية الإصلاح: «تأكدنا من أن الربيع لم يكن سوى وسيلة لدفع السوريين إلى قبول تحول السلطة من الأب إلى الابن. وبات جليا أنه لم يكن إصلاحيا». واليوم، تستخدم حكومة الأسد القوة الغاشمة في مواجهة انتفاضة شعبية، أسقطت مثيلاتها أنظمة في الشرق الأوسط خلال الثمانية عشر شهرا الماضية. وصرح الرئيس السوري، الذي بات منبوذا عالميا، جهرا وخفية أنه لن يهرب ولن يرضخ للضغوط الغربية، حيث يرى الأسد أن بقاءه هو الضمانة الوحيدة لحماية طائفته العلوية، التي تمثل 12 في المائة السوريين، من المذابح الجماعية التي يمكن أن يتعرضوا لها.

وقال القس باتريك هنري ريردون، راعي كنيسة كل القديسين الأرثوذوكسية الأنطاكية في شيكاغو، الذي التقى الأسد لمدة 90 دقيقة في ديسمبر (كانون الثاني): «هو يعلم تماما كيف ينظر إليه العالم. لكنه يرى في ذلك ضرورة ميتافيزيقية بأن عليه الحفاظ على وحدة بلاده، وأنه في سبيل القيام بذلك ينبغي عليه الإطاحة ببعض الرؤوس».

عندما تولى الأسد السلطة في أعقاب وفاة والده، حافظ الأسد الذي حكم سوريا ردحا من الزمن، كان هناك انطباع على نطاق واسع بأن الرئيس الجديد شخصية إصلاحية، قد يتبنى المعايير الغربية من الحداثة والانفتاح في حكم دولة عربية. فقد عاش في لندن وتزوج سيدة بريطانية المولد، وأيد استخدام تكنولوجيا الإعلام الحديثة، وكان محبا لأغنيات فيل كولينز وإيلو والبيتلز.

وعلى عكس شقيقة الأكبر باسل الأكثر صلابة، والذي توفي في حادث سيارة عام 1994، لم يتدرب بشار على الحكم، بل كان طبيبا وعالما وعلمانيا ومنفتحا على العالم في أسلوبه وبلاغته.

وفي كلمته أثناء أداء اليمين الدستورية كرئيس لسوريا، تحدث الأسد عما بدا للكثيرين دعوة للتغيير، فقال: «ينبغي أن نواجه أنفسنا ومجتمعنا بشجاعة، وأن نبدأ حوارا شجاعا، نكشف فيه عن نقاط ضعفنا».

لكن رد فعل الحكومة على ربيع دمشق أثبت أنه مؤشرا أكثر دقة على الكيفية التي سيكون عليها حكمه.. فبرغم تصريحاته حول بناء مجتمع أكثر ديمقراطية وحداثة، تبنى الأسد خطابا تبدو فيه سوريا وكأنها تتعرض لمؤامرات من المتطرفين الإسلاميين والولايات المتحدة وإسرائيل. وكانت الضغوط القوية التي تمارس عليه من الخارج خلال الخمسة عشر شهرا الماضية تقابل برفض أكثر قوة.

ويقول ديفيد ليش، المؤرخ في جامعة ترينيتي في سان أنطونيو ومؤلف كتاب عن الأسد: «إنه يعتقد أنه إذا ما تحولت سوريا إلى كوريا شمالية أخرى في الشرق الأوسط لعشر سنوات، فلا ضير في ذلك».

وعلى الرغم من نفي حكومته أي مسؤولية لها في عمليات القتل الجماعية للقرويين، ألقى الأسد كلمة أمام البرلمان السوري تعهد فيها بالدفاع بقوة ضد ما اعتبره تهديدا وجوديا لبلاده. وقال: «لا يحب إنسان عاقل الدماء، لكن عندما يدخل الجراحون إلى غرف العمليات، ويشقون جرحا، ينزف الجرح، ويقطع الجراح ويبتر، هل ندين الجراح لأن يديه ملطخة بالدماء أم هل نمتدحه على إنقاذه روح إنسان؟».

عندما تولى الأسد الرئاسة للمرة الأولى، بدا أشبه بنوع مختلف من الحكام العرب، ينأى بنفسه عن بعض زخارف السلطة الاستبدادية، وكسر التقاليد، فكان يصطحب زوجته إلى المطاعم في دمشق دون حراسة، حتى أنه كان يقود السيارة بنفسه.

ويضيف ليتش، الذي كان يتلقي بالرئيس السوري بصورة منتظمة على مدى العقد الماضي: «لكن الأسد سرعان ما بدأ في الاعتقاد أن مستقبل سوريا يرتبط بشكل كلي بمصيره الشخصي. فالسلطة مثيرة للشهوة، وعندما تحاط بالمتملقين تبدأ في تصديقهم».

وعلم الأسد أيضا أنه رغم وراثته منصبه عن والده، لكن سلطته تعتمد على رضا الجيش والقوات الأمنية، إضافة إلى طائفته العلوية، بحسب ليتش.. وكان ليتش شاهدا على تردد الأسد للمرة الأولى في مواجهة القوات الأمنية عندما تلقى الكاتب دعوة لزيارة الرئيس، حيث اعتقل في مطار دمشق وتم استجوابه لثلاث ساعات من قبل ضابط أمن كان يدير مسدسه حول أصبعه.

وعندما التقى ليتش بالأسد وأخبره بما جرى، عبر الرئيس عن فزعه، لكنه على الرغم من ذلك أوضح أنه لن يستطيع القيام بأي شيء حيال سوء المعاملة، فهو بحاجة إلى القوات الأمنية لإنجاز مهمات أخرى. وأكد أن «هذه هي الطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الأوضاع في سوريا».

رفض الأسد في تصريحاته فكرة أن تكون الثورة الحالية نتيجة لحالة الإحباط الذي أصاب الشباب الذي لا يرى مستقبلا في دولة لا تقدم سوى عدد محدود من الوظائف، ومحسوبية متأصلة فيها حتى النخاع، وعوضا عن ذلك ألقى الأسد باللائمة على القوى الاستعمارية ووسائل الإعلام الأجنبية والفتنة الداخلية. ويؤكد عبد الله، الذي سجن في الفترة من عام 2005 وحتى 2006 لمعارضته نظام الأسد، والذي يعمل الآن في المركز السوري للدراسات الاستراتيجية والسياسية في واشنطن، على أن ذلك كله من قبيل الدعاية الإعلامية وأن الأسد لا يؤمن بكلمة منه. وأشار إلى أن الأسد يعتمد على وسائل - ربما كانت ذات جدوى إبان عهد والده - لكنه لا يمكن أن ينجح الآن في عصر فيديو الإنترنت والقنوات الفضائية.

فقد صرح هذا الشهر، بأن «وحشا» فقط هو من يأمر بارتكاب مثل هذه المذابح التي يؤكد المتمردون أنها ارتكبت من قبل الميليشيات الموالية للحكومة. بطبيعة الحال، لا يرى الأسد نفسه وحشا، لكنه كزعيم يدافع عن عائلته وطائفته ورؤيته لسوريا كحصن ضد الإسلاميين المتشددين، بحسب إيال زيسر، الباحث في التاريخ السوري في جامعة تل أبيب في إسرائيل.

ويقول زيسر: «ليس للأسد خيار، فهو يرى ما حدث للقادة الآخرين. وهو ليس بمفرده، فكل ما يملكه هو الجيش والعلويون، أشخاص مستعدون للقتال لا من أجله، بل للنجاة بأنفسهم». ربما يكون الرحيل عن سوريا احتمال فكر فيه الأسد ورفضه، فيقول مالكوم هونلين، نائب الرئيس التنفيذي لمؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية الكبرى، الذي أمضى أكثر من ثلاث ساعات في محادثات مباشرة مع الرئيس الأسد خلال زيارة له لسوريا العام الماضي: «قال لي إنه وعائلته قادرون على النجاة بأنفسهم لكن العلويين سيتعرضون لمذابح، إضافة إلى الأقليات الأخرى، ومن ثم لا يمكنه ترك سوريا». لكن ذلك لا يعني أن الأسد يقف بمعزل عن المعلومات. فهو يرسل بانتظام رسائل إلى عائلته ويحتفظ بالكثير من روابط المواقع الإلكترونية الشيقة بحسب رسائل البريد الإلكتروني التي سربها معارض سوري لصحيفة «الغارديان» البريطانية.

وتقول إحدى رسائل الأسد إلى زوجته، تحمل كلمات أغنية لبلاك شيلتون: «أنا صداع متنقل.. خربت حياتي.. مؤخرا لست الشخص الذي أُريد أن أكون».. وحملت رسائل البريد هذه الكثير منها تفاصيل بشأن الجولات الشرائية لأسماء الأسد، وترتيبات شحن أثاث من لندن، وأجهزة لخفق العجين من موقع أمازون وأحدث أفلام هاري بوتر على أسطوانات «دي في دي» من لبنان. (وقالت صحيفة «الغارديان» إنها تحققت من مصداقية رسائل البريد الإلكتروني من الأشخاص الذي شكلوا الطرف الثاني من المراسلات مع الأسد وزوجته).

ويرى عالما النفس السياسي جيرولد بوست وروثي برتسيس من جامعة واشنطن، أن الأسد واحد من قادة العالم الذين يصفونهم بأنهم «أبناء الخيار الثاني، الذين تحولوا إلى زعماء عن طريق المصادفة». فالأسد في سوريا وبنيامين نتنياهو وراجيف غاندي في الهند وجون كنيدي في الولايات المتحدة، كان على كل منهم التأقلم مع الوصول غير المتوقع إلى السلطة بعد وفاة شقيق كان يفترض به لعب هذا الدور.

والأسد، الذي نشأ متوقعا تولى أخوه باسل الحكم في أعقاب والده، ظل بعيدا عن الأضواء وشخصية خجولة حتى عام 1994، عندما توفي أخوه في حادث سيارة. ولعل ذلك يوضح السبب في تصريحه لباربرا والترز، من شبكة «إيه بي سي»، بحسب صحيفة «واشنطن بوست» في ديسمبر (كانون الأول): «أنه لا يسيطر على القوات المسلحة السورية». وقالت «واشنطن بوست»: «ليس هذا ما تفاوض عليه. فقد انتزعه والده من عمله الطبي. لكنه لا يرغب في مشاهدة ذرية الأسد تموت تحت ناظريه.. لذلك فهو يعيش هذا الانفصال المتنافر، كما لو أنه لا يستطيع أن يتحمل حقيقة ما يدور حوله».

وأشار ليتش إلى أن الكثيرين في الغرب نظروا إلى الأسد كشخصية إصلاحية محتملة لأنه قضى ببساطة 18 شهرا في بريطانيا، لكن «هذه الرؤية أهملت جوانب أخرى في شخصيته، والتي تشكلت في ظل والده.. إنه يعتقد حقا أن هناك مؤامرة تحاك ضدهم، أكثر مما يمكننا في الغرب أن نفهمه».

ولا يعتقد أي ممن التقوا الأسد خلال الأعوام القليلة الماضية أنه سيترك سوريا طواعية، إلا لو خسر كل شيء.. ويضيف ليتش: «إنه مصمم على القيام بكل شيء عكس ما فعله (الرئيس المصري السابق) حسني مبارك، وهو ما يعني القتال حتى الرمق الأخير».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»