مصر.. «في انتظار غودو»

بعدما انفلت اللجام وطاشت عربة الفترة الانتقالية

TT

بينما يدخل الأديب الأيرلندي صمويل بيكيت، أحد أبرز كتاب مسرح العبث أو «اللامعقول»، على خط الحالة المصرية الراهنة بامتياز، وهو يشاهد عرضا جديدا لمسرحيته الشهيرة «في انتظار غودو» على مسرح ميدان التحرير بالعاصمة القاهرة، وهو المسرح نفسه الذي انطلق منه ربيع الثورة المصرية في 25 يناير (كانون الأول) من العام الماضي، وبينما يتعدد الأبطال وتتنوع الأقنعة والأدوار على خشبة المسرح المكشوف في الهواء الطلق، يصارع بطلا المسرحية في التخلص من حالة التوتر والقلق وحرقة الانتظار والريبة والتي أصبحت تحكم نظرة كليهما للآخر، انتظارا لـ«غودو» الشخص أو الطرف الثالث الذي يأملان في أن يخلصهما من هذا العبث المجنون، الذي يكاد يعصف بحياتهما معا.

في هذه الأثناء يطل أديب نوبل نجيب محفوظ من ثنايا ملحمته الروائية «الحرافيش» متحسرا على أبطاله من «الفتوات» الذين تخلوا عن هويتهم كجباة، وفارضي إتاوات على أصحاب الأعمال والمهن والتجار، وانخرطوا في ثورة 1919، أكبر ثورة شعبية ضد الاحتلال الإنجليزي، قادها زعيم الأمة آنذاك سعد زغلول.

يتعجب محفوظ، ويضرب كفا بكف، وهو يشاهد فتواته الذين كانوا يحرسون بالأمس أمن الناس في الحارة والشارع والحي، وكان أغلبهم يناصر الضعيف ضد القوي، يتعجب كيف تحولوا إلى قطاع طرق، يتفننون في سلب الناس أموالهم وممتلكاتهم، والسطو على حقوقهم تحت إرهاب السلاح والخروج على القانون.

بدوره يصرخ بيكيت غاضبا في وجه أبطاله: «أرجوكم لا تخرجوا على النص، أنا أحبكم، فبادلوني المحبة نفسها». لكنهم أشاحوا في وجهه بغضب أكثر حدة: «دورك انتهى، نحن النص ونحن أبطاله».

وبينما تعلو هتافات المتظاهرين بالميدان، اعتلى رجل بزي عسكري خشبة المسرح، وهو يردد: «لن نسمح بأن تطيش العربة، سنقطع عليها كل السبل، حتى تستقيم في الطريق».. ولم يكد الرجل يتفوه بجملة أخرى، حتى قطع عليه الطريق جوقة من المتظاهرين، وهم يرددون «يسقط يسقط.. حكم العسكر».

خارج المنصة تناثرت أقنعة المسرحية، وعلى طاولة في عمق الميدان بدأت تتراص في تراتب غير منطقي، يشتت الزمن والدلالة: هذا قناع الانقلاب الناعم، هذا قناع البرلمان المنحل، هذا قناع الدستور الذبيح، هذا قناع الغضب الممنهج، هذا قناع قانون العزل الهش، هذا قناع الأحزاب الأجوف، هذا قناع الشهداء الأبطال، هذا قناع الدولة الرخوة، هذا قناع الشرعية المنتحلة، هذا قناع انتخابات الرئيس منزوع الدسم.. ووسط ضجيج الأقنعة صاح بائع متجول، من فوق عربته الخشبية: «هنا قناع الثورة، من يشترى الأمل، من يشتري الحزن؟!».

لكن مع سخونة المشهد في الحالة المصرية، وسيولة ما يفرزه يوميا من تداعيات على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وانعكاسات الإضاءة، ما بين السطوع والعتمة على خشبات المسرح، تصاعد دراميا قناع قاطع الطريق، ومع قليل من الرتوش والبهارات لينتقل من خانة «اللص» إلى خانة «المحارب»..

أصبح هذا القناع أحد الأسلحة الحاسمة، بين دفتي صراع يقف على حافة الهاوية، يمثله من ناحية طرف يستند على القوة النوعية للمؤسسة والنظام متجسدا في المجلس العسكري؛ الذي آلت إليه أمور الحكم في البلاد عقب الإطاحة بنظام الرئيس السابق حسني مبارك، وطرف يمتلك قوة الشارع والتنظيم متجسدا في جماعة الإخوان المسلمين؛ والتي استبقت النتيجة الرسمية لسباق الرئاسة معلنة فوز مرشحها بمنصب رئيس مصر، على حساب المرشح الآخر، التي ترى أنه أحد المتسللين من عباءة النظام السابق.

يهتف قاطع الطريق من تحت القناع في فضاء المسرح: «مصر التي في خاطري»، فيرتد إليه صدى الصوت في الميدان: «إنني حرة كسرت قيودي رغم أنف العدى وقطعت قيدي».. وفي زخم الصوت والصدى، يعبث بطلا المسرحية بمفاتيح النص: «غودو مات.. غودو مات»، بينما تستند طفلة على عكاز نجيب محفوظ، وهي تصرخ في عمق المسرح الملتهب: «أنا نفسي أعيش».