مشاعر مختلطة تساور أفغانا يعودون لبلادهم لأول مرة

وجدوا عالَما جديدا تركوه منذ عقود.. وغالبيتهم يتوجسون من إلصاق تهمة التجسس بهم

لاجئون أفغان يُجبَرون على العودة إلى بلادهم بعد سنين طويلة قضوها في باكستان
TT

أثناء المرحلة الأخيرة من رحلة العودة إلى أرض الوطن مع أسرته، جلس عصمت الله فوق شاحنة محملة بأدوات المطبخ والحطب والأثاث ومتجهة إلى كابل، بينما بدت تحته علامات ثلاثة عقود كاملة مرت وهو في المنفى. فعلى جانبي الشاحنة كانت الأسواق أكبر كثافة، والبنايات أكثر ارتفاعا وتحصينا، وكانت هناك قوافل أميركية تنسل ما بين المارة في طريقها إلى وسط المدينة. بعد يومين تقريبا من مغادرة منزلهم في باكستان، تمكن عصمت الله و22 من أقاربه من الوصول أخيرا إلى العاصمة الأفغانية، بعد 30 عاما قضوها كلاجئين، ووقفوا يتطلعون إلى بلدهم وهم يحاولون ألا يبدو عليهم الاضطراب.

وقد دفع الغموض الذي يحيط بمستقبل أفغانستان آلاف الأفغان إلى البحث عن مفر من هنا، عن طريق التقدم بطلب الحصول على تأشيرة دخول لدول أخرى، أو الحصول على حق اللجوء السياسي، أو قطع رحلات طويلة عبر الحدود. لكن كل يوم، تسبح بعض الأسر ضد ذلك التيار، عائدة إلى أفغانستان بعد سنوات من الإقامة بالخارج، ليجدوا بلدا تغير شكله بفعل كل ما حدث من تطور وحرب على يد تدخل أميركي عمره 10 سنوات، إضافة إلى استمرار العنف والاقتتال.

والبعض من هؤلاء العائدين جاءوا إلى هنا باختيارهم، مدفوعين بإحساس الحنين إلى الوطن الذي شهد ذكريات شبابهم، ومتفائلين بأنباء عودة الأمن وفرص الحياة هناك. لكن معظمهم، مثل أسرة عصمت الله، عادوا رغما عنهم، حيث أجبرهم على ذلك عدم رغبة الحكومة الباكستانية في تمديد حالة اللجوء الممنوحة لهم.

وتقدر المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن هناك نحو 3 ملايين أفغاني سيتم طردهم من باكستان بنهاية العام الحالي إذا لم يتم منحهم ذلك التمديد، وهذا النزوح الجماعي قد يؤدي إلى زيادة عدم استقرار الأوضاع في أفغانستان، حيث سيسبب ضغوطا على اقتصاد البلاد، كما سيزيد من حجم التحديات التي تواجه أجهزتها الأمنية الوليدة. ورغم تفاؤل مسؤولي المفوضية بأن هذه المشكلة ستجد لها حلا، فقد كان رد فعل الكثير من الأفغان الموجودين في باكستان تجاه اقتراب موعد ترحيلهم هو المبادرة إلى العودة إلى الوطن بعد سنوات في المنفى.

كان والد عصمت الله، الحاج بسم الله، قد فر من أفغانستان عام 1979، مع بداية الاحتلال السوفياتي، وكان عمره 35 عاما حين غادر البلاد على ظهر أحد الأحصنة مصطحبا معه زوجته وأبناءه الثلاثة، ليعود إليها هذا الشهر ضعيفا واهنا تحت وطأة العقود العصيبة التي مرت عليه، ومعه ما يقرب من 24 من الأبناء والأحفاد، معظمهم لم يسبق له أبدا المجيء إلى أفغانستان.

ومع اقتراب شاحنة الأسرة سريعا من وسط كابل، تعجب بسم الله من ذلك الاتساع الهائل الذي أصاب المدينة، حيث أصبحت المحال التجارية والقواعد العسكرية والمباني الحكومية تمتد لمسافة أميال. وتمتم قائلا «لقد عدت أخيرا إلى وطني». لكن في مقابل السعادة التي ملأت بسم الله، بدا القلق على وجوه أبنائه، الذين يتحدثون لغة البشتو بلهجة باكستانية واضحة، بسبب ما سمعوه من قصص عن الإرهاب وضعف الاقتصاد هناك. وقال محمد الله (19 عاما) لنفسه «سوف أهرب»، بينما قال شقيقه رحمة الله (33 عاما) لنفسه «لا توجد قيمة لحياة الإنسان هنا».

ومن الصعب تحديد ما كانوا يتوقعونه بالضبط، حيث لم يكن يجول بخاطرهم مدى صحة القصص التي يسمعونها، أو التصاعد الذي ستشهده معدلات العنف، أو أن جيرانهم سيفترضون أنهم جواسيس.

وهناك ما يزيد على 8 ملايين أفغاني فروا من أفغانستان ما بين عامي 1979 و2002، عاد نصفهم على الأقل منذ عام 2001، مشدودين بوعود العثور على «أفغانستان ما بعد طالبان». وحينما تبينت وعورة تلك العملية الانتقالية، عاد الكثيرون إلى الفرار مجددا، حيث بدد طول فترة النزاع إغراء العيش داخل الوطن. وقد شاهد بسم الله وأسرته موجات الهجرة تلك تماما كما شاهدوا الحرب نفسها، حيث كانوا يسمعون عنها وهم جالسون على بعد 500 ميل، عبر شاشات التلفزيون ومن خلال الحكايات التي تأتي من الأقارب والأصدقاء - وقد كانت هذه المسافة الفاصلة تضفي على مشاعر القلق نوعا من عدم الواقعية. ثم جاءت الحرب بنفسها إليهم. ففي العام الماضي، ذات ليلة دافئة من ليالي شهر مايو (أيار)، استيقظ الأشقاء على صوت انفجار هائل وأزيز طائرات الهليكوبتر وهي تحوم فوق بلدة أبوت آباد الباكستانية حيث كانوا يعيشون. وحينما استيقظ الجميع، علموا بمقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن على مسافة ميل من المكان الذي كانوا نائمين فيه. وفي اليوم التالي، ذهبوا لالتقاط الصور للمجمع السكني الذي كان يختبئ فيه بن لادن والذي تحول إلى ركام. ثم دقت الحرب بابهم مرة أخرى حين أدى تصاعد حدة التوترات بين أفغانستان وباكستان، بسبب الغارة التي قتل فيها بن لادن، إلى اتخاذ الأخيرة قرارا بعدم تجديد تأشيرات إقامتهم، وعدم وجود أي خيار أمامهم سوى العودة.

وكان رحمة الله قد ذهب إلى كابل قبل باقي الأسرة بعدة أسابيع للبحث عن منزل كبير بما يكفي 23 شخصا لكنه رخيص بما يناسب أسرة فقيرة من اللاجئين، وقد وصل إلى هناك في اليوم نفسه الذي نفذت فيه حركة طالبان هجوما منسقا على 7 مواقع في أنحاء مختلفة من البلاد، فاتصل بوالده بينما كانت الهجمات لا تزال مستمرة، وتوسل إليه قائلا «دعنا لا ننتقل. دعنا لا ننتقل أبدا إلى هنا». لكن بسم الله قال إنهم مضطرون لذلك، وأخبره بأن الحكومة الباكستانية جعلت الحياة هناك صعبة أمام اللاجئين الأفغان، وأنه يكبر في السن ويريد أن يموت على أرض وطنه.

وعليه، قامت الأسرة باستئجار سائق وشاحنة ذات سقف مفتوح، ثم حزمت أمتعتها من مراوح كهربائية وسجاجيد ودراجات وكل ما يمكن أخذه معهم، وملأ كل ابن من الأبناء حقائبه وجيوبه بالمزيد من الأشياء التي يرتبطون بها عاطفيا، حيث أخذ محمد الله معه صور زملائه في الدراسة، وأخذ رحمة الله معه ملصقا كبيرا يصور حديقته المفضلة في إسلام آباد، وأخذ عصمت الله معه قميصا مكتوبا عليه «كراتشي».

تحركت الشاحنة بهم ليلا في أوائل يونيو (حزيران) الحالي، لتصل في وقت الشروق إلى أحد المراكز التابعة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على مشارف كابل، حيث اصطفت عشرات الأسر الأخرى كي يتم فحصها. وكان هناك موظف يتنقل من شاحنة إلى أخرى يسأل الأسر عن السبب الذي جعلها تقرر المجيء، وكان معظم هذه الأسر قادما من مخيمات اللاجئين الواقعة خارج بيشاور، وهي أكبر المدن الموجودة في شمال غربي باكستان. وتم تسليم كل فرد منهم نحو 150 دولارا من المفوضية الأممية، قبل أن يذوبوا وسط المحافظات أو الولايات المحيطة، متوجهين في الغالب إلى أراض منحتها لهم الحكومة.

وحينما جاء دوره، كان رد بسم الله على موظف الأمم المتحدة «نحن هنا لأننا تعبنا من التعرض للمضايقات في باكستان. نحن على استعداد للعودة إلى الوطن»، ثم سلمه بطاقة هوية لاجئ اقتربت مدة صلاحيتها من الانتهاء.

وبعد 3 أيام، حشر الأقارب الثلاثة والعشرون أنفسهم داخل شقة مكونة من غرفتي نوم وليس بها كهرباء أو مياه، واضطر معظم الأشقاء للنوم على الأرض. وحتى بسم الله نفسه، الذي كان مبهورا في البداية بالنمو الذي صارت عليه المدينة، بدأ يتسلل إليه الإحباط. وقد ضل طريقه أثناء ذهابه إلى مسجد قديم، حيث تاه وسط الزحام الذي يعج به أحد الشوارع التي كان يعرفها جيدا. ومع ذلك، فهو يرى أن المدينة تبدو آمنة، ويؤكد «يمكننا أن نتجول في كل مكان هنا. إنها آمنة».

لكن أبناءه لم يكونوا مقتنعين بذلك، فقبل أسبوع من وصولهم تسببت ضربة جوية أميركية في مقتل أسرة مكونة من 5 أفراد في ولاية باكتيا، التي كانت الأسرة تنتمي إليها أبا عن جد. وبعد أسبوع، قتل أكثر من 20 مدنيا في مزيج ما بين هجمات من طالبان وضربات جوية من «حلف شمال الأطلسي» في يوم واحد. وعلى محطات التلفزيون المحلية، كان الخبراء ينتقدون بشدة ما سموه تأثيرا باكستانيا ماكرا. وكان ما يقلق رحمة الله هو أن يتهمه جيرانه بأنه جاسوس باكستاني وأن يهددوا أسرته. وقد أشار أحدهم إلى شاربه الكث، وهي موضة شائعة في باكستان، لكنها غير مألوفة في أفغانستان، التي تنتشر بها عادة تربية اللحية، وسأله ما إذا كان أجنبيا، مما جعله يفكر في حلق شاربه. وهو يقول «نحن غريبون هنا. يبدو كما لو كنا لا ننتمي إلى هذا المكان».

وقد ترك محمد الله المدرسة ليعمل في موقع للبناء مع بعض أشقائه، وهو يضع في محفظته صوره مع زملاء دراسته في أبوت آباد بينما يقوم بخلط الإسمنت. وهو يخبر الناس دوما بأنه أفغاني، لكنه من داخله يشعر بأنه باكستاني.

ورغم كل شيء، ما زال بسم الله يشعر بالأمل، إذ يقول إن أبناءه سيغيرون رأيهم، وإن الأمن سيتحسن في أفغانستان. لكن محمد الله لم يتظاهر بأنه يصدق والده، بل قال «حينما أرحل، لن أعود ثانية».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»