الأب الإيطالي باولو دالوليو لـ«الشرق الأوسط»: خرجت بجثتي من سوريا لكن روحي بقيت فيها

قال إن المسيحيين اعتادوا أن يكونوا درجة ثانية وشاكرين للسلطة على كل نعمة

الأب الإيطالي باولو دالوليو
TT

من دمشق إلى بيروت، انتقل الأب الإيطالي باولو دالوليو بعدما أنهت الكنيسة التي يتبع لها مهمته في سوريا، مقدمة بذلك الغطاء للنظام السوري من أجل إبعاده بعد قضائه أكثر من ثلاثين سنة متنسكا في دير مار موسى الحبشي في ريف دمشق. في دير للآباء اليسوعيين في قلب العاصمة بيروت، يقيم الأب باولو في انتظار سفره في الأيام المقبلة إلى كردستان العراق، حيث تتأسس رهبانية جديدة تعنى بالحوار المسيحي - الإسلامي، يغادر بعدها إلى روما، مسقط رأسه، للاطمئنان على عائلته، قبل عودته مجددا إلى بيروت في سبتمبر (أيلول) المقبل.

بكثير من الحزن يتحدث الأب باولو عن الوضع في سوريا وعن كيفية مغادرته إياها قسرا «أنا حزين للغاية، خرجت بجثتي من سوريا لكن روحي بقيت فيها، وقريبا القيامة إن شاء الله». ويقول في حوار خاص لـ«الشرق الأوسط»: «النظام السوري ضغط على الكنيسة لتجبر على إبعادي، وبادر بعدها إلى التطبيق السريع للقرار وترحيلي من سوريا».

ويسهب الأب باولو في الحديث عن سوريا «ما قبل الثورة». ويوضح أن «سوريا عاشت سلاما مشبوها لعشرات السنين، فالمعتقل كان ممتلئا وغرفة التعذيب (شغالة)، والخوف مسيطرا، والناس يخافون الحديث عن الحكومة حتى في (فراش العرس)»، على حد تعبيره. ويلفت إلى أن «الناس اعتادوا عدم سيلان الدم في الشوارع والعودة إلى منازلهم مساء بأمان، وهذا ما أصبح مفقودا اليوم في ظل الثورة والحرب الأهلية والانفلات الأمني».

الشعب السوري اليوم «يطلب حرية ويطلب ديمقراطية ويطلب كرامة»، لكن «أسبابا جغرافية موضوعية خاصة بسوريا تجعل تحقيق ذلك صعبا»، وفق الأب باولو الذي يتحدث بأسف شديد عن «حرب أهلية قائمة في سوريا وعن صراع سني – شيعي، وعن عدم ممارسة المسؤولية الدولية تجاه سوريا»، من دون أن ينسى التأكيد على أن «لإسرائيل مصلحة في ما يحصل، وكل ذلك يسهم في أن يذبح الشعب السوري (بالرخص)».

بتأثر عميق وبلغة عربية تزاوج بين الفصحى والعامية مطعمة بلكنة إيطالية، يسأل الراهب اليسوعي «ما العمل أمام ذلك كله؟»، ليسارع بعدها إلى الإجابة بأن «الرجاء يبقى في أن يثمر العمل الميداني والإعلامي، لعل الله ينظر إلينا»، مضيفا «ما إلنا غيرك يا الله». يشمئز الأب باولو لدى سؤاله عن اعتبار النظام السوري أن ما يحصل ليس بحراك شعبي وإنما فوضى تفتعلها «جماعات إرهابية مسلحة»، ويجيب بانفعال «ثمة كذبة كانت مضحكة لو لم تكن نتائجها كارثية بالنسبة لحقوق الناس. أعرف شخصيا الشباب والشابات، هم لا يرغبون في العنف وحمل السلاح، وخرجوا عراة الأيدي إلى الشوارع مطالبين بالحرية، لكنهم باتوا أعداء النظام الحقيقيين لأنهم يريدون توطيد الحق مكان الباطل»، معتبرا أن «النظام محق في ترحيله وفق هذا المنظار»، ومحذرا في الوقت عينه من أنه «كلما طالت الحرب فتح المجال أمام مزيد من التعصب والجهل وممارسة الحرام والانفلات الأمني الذي يظلم الجميع على حد سواء». زيارة الأب باولو إلى مدينة القصير على خلفية أحداث طائفية شهدتها المدينة شكلت القشة التي قصمت ظهر البعير، وجعلت النظام السوري يدفع أكثر باتجاه ترحيله، خصوصا أنه سبق أن أصدر مذكرة بإبعاده مطلع ديسمبر (كانون الأول) الفائت. ويؤكد أن «ثمة مسيحيين اصطفوا مسلحين مع النظام وهم يحاربون مع الجيش السوري الحر وكتيبة الفاروق والفئات المسلحة، وفي المقابل هناك الجيش والأمن والشبيحة على أشكالها والمدنيون المسلحون»، مشددا على أن ما يحصل في سوريا «حرب أهلية، ويمكن لمن يريد من الطرفين أن يعطيها لونا طائفيا أن ينجح بسرعة». لا ينكر دالوليو أن مدينة القصير في محافظة حمص شهدت «ظواهر من العنف الطائفي، لكن معظم سكانها والمجتمع المدني فيها يرفضون المنطق الطائفي في الحراك الثوري»، موضحا أن «هناك مسيحيين يشاركون في الثورة لكن لا أحد قادر على ضبط الفئات الفاعلة ميدانيا ولجم تصرفاتها». ويضيف «ذهبت للقصير من أجل البحث عن بعض المخطوفين والمخفيين المفقودين منذ أشهر. عاد المخطوفون إلى بيوتهم، لكن الحاجة اليوم لجنة مصالحة أهلية». ويؤكد الأب باولو لدى سؤاله عن مدى مشاركة مسيحيي سوريا في الحراك الشعبي، أن «معظم السكان باتوا يلزمون منازلهم خوفا أمام العنف الممارس في الشارع، والمسيحيون من جملتهم»، متسائلا «من هم الأبطال الذين سيخرجون تحت الرصاص، فهذا يحتاج إلى تربية وفكر وعقيدة، فيما المسيحيون معتادون أن يكونوا دائما درجة ثانية وتابعين ومأمورين وشاكرين للسلطة على كل نعمة، فمن أين سيأتون بالعزم للنزول إلى الشارع؟». لا يخفي الراهب اليسوعي الذي ترك روما، حاضنة الكاثوليكية في العالم، حاملا إيمانه ورسالته إلى دير سوري عتيق، رافعا راية الحوار المسيحي – الإسلامي، أن «الكنيسة هي الشعب المؤمن بالله، ولا يجب أن ننتظر كثيرا من الأحبار والرؤساء الروحيين»، من دون أن يمنعه ذلك من الإشارة إلى أنهم «لهم دور بلا شك، وللأسف كان مؤيدا إجمالا للنظام السوري». ويعرب عن اعتقاده بأنهم (رؤساء الكنيسة السورية) قد «اعتادوا منذ عشرات السنين على دعم النظام كونه يشكل الغطاء المريح لممارستهم الدينية وليس الإنجيلية التي تتطلب حرية وحرية رأي وحياة». ورغم تأثر الأب باولو، الذي لم يتردد في التبرع بدمه للجرحى في القصير والصلاة من أجل المعتقلين والشهداء، فإنه متصالح مع نفسه ومع كنيسته. يقول «لا عتب لدي على أحد، لكني أتأسف على كثيرين ممن يكذبون ويعرفون أنهم يكذبون ويقنعون أنفسهم بالكذب ويرددونه خوفا من أشباح». ويضيف «أصلي لكل من أساء لي، وأدعو لكل من اضطهدني، وأطلب لهم البركة والتوفيق والنعمة والتغيير حتى يفرحوا بحرية الإنسان وكرامته».

ويشدد الأب باولو مرارا وتكرارا على أهمية «العمل للمصالحة الإسلامية - الإسلامية في سوريا، وعلى أن يكون المسيحيون الغضروف في ركبة النزاع السني الشيعي في المنطقة».