بوتين.. حكم في معركة تواجه فيها المبادئ المصالح في سوريا

يرى أن الانحناء للضغوط الغربية قد يضر بمصالح بلاده أكثر من خسائر في المنطقة

TT

منذ أشهر طويلة، يحاول واضعو السياسات الغربيون قدح زناد فكرهم لمعرفة المصالح الاستراتيجية التي تجعل روسيا شديدة التصميم على دعم الرئيس السوري بشار الأسد، ذلك الزعيم الذي يواجه ثورة شعبية ضده والذي يبدو أنه في طريقه للخروج من السلطة على أي حال.

إنها مسألة مفهومة، فالقرارات تأتي من فلاديمير بوتين، الذي يدفعه منصبه كرئيس لروسيا للقلق بشدة من الثورات والتدخلات الغربية.

إنه الرجل الذي دافع بنفسه، أثناء احتضار النظام الشيوعي، عن مقر جهاز الاستخبارات الروسي (كي جي بي) في مدينة درسدن ضد الحشود الغاضبة من المواطنين الألمان.

وتزايدت شكوك بوتين حول سياسات الشوارع مع اندلاع «الثورات الملونة» في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حينما قامت الاحتجاجات المؤيدة للغرب، والتي كان بعضها مدعوما من جانب الولايات المتحدة الأميركية، بالإطاحة بمجموعة من الزعماء الذين كانوا أصدقاء لروسيا.

ومنذ اندلاع ثورات الربيع العربي الأخيرة، ظل القادة الروس ينظرون إليها من خلال نفس وجهة النظر، على أنها ليست ناتجة عن التغير الاجتماعي وإنما عن التدخلات الغربية التي تهدف جزئيا إلى الإضرار بروسيا.

لا يعير بوتين الكثير من الاهتمام لتفاصيل السياسة الخارجية، ولكن هذه الفكرة تلمسه بصورة شخصية، حيث إنه قد فقد صوابه في شهر أبريل (نيسان) عام 2011، عندما قامت قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالهجوم على ليبيا على الرغم من الاعتراضات الروسية، مما دفعه إلى إلقاء خطاب سخر فيه من أن يكون التدخل الغربي يهدف إلى تعزيز الديمقراطية.

وفي شهر فبراير (شباط) عام 2011، وعندما كانت الحشود التي يزيد عددها عن المليون تتجمع في ميدان التحرير، قام نائب وزير الخارجية الروسي بزيارة الرئيس المصري السابق محمد حسنى مبارك حاملا رسالة تهدئة مفادها أنه ينبغي التوصل إلى حل للأزمة الداخلية التي تشهدها مصر من خلال الحوار، مشددا على موقف روسيا الحازم ضد التدخلات الخارجية في شؤون مصر الداخلية. اتضح لاحقا أن هذا الاجتماع كان الأخير لمبارك مع أي مبعوث أجنبي، حيث استقال من منصبه بعدها بيومين.

من الصعوبة بمكان الفصل التام لردود الأفعال هذه عما يحدث داخل روسيا على مدار العام المنصرم، حيث بدأت فترة حكم بوتين الجديدة، التي ستستمر لأكثر من عقد من الزمان، في إشعال غضب المواطنين الروس.

وعلى الرغم من وجود القليل من أوجه المقارنة على الأرض بين ثورات الربيع العربي والاضطرابات الحالية التي تشهدها روسيا - حيث ما زالت حركة المعارضة الروسية صغيرة الحجم ومتمركزة في موسكو فضلا عن انتهاجها لأساليب معتدلة - أدى التغيير المفاجئ الذي حدث في روسيا إلى شعور الحكومة الروسية بالقلق من إضفاء الشرعية على أي معارضة شعبية، فضلا عن قيام وسائل الإعلام الإخبارية المملوكة للحكومة الروسية برسم صورة قاتمة لدول الربيع العربي التي شهدت ثورات، بينما قام الدبلوماسيون الروس بالتقرب من الأنظمة الحاكمة الجديدة في العالم العربي بصورة تتسم بالبطء والحذر.

وفي هذه الأثناء، يخشى القادة الروس من أن يؤدي صعود الإسلاميين في العالم العربي إلى بث روح جديدة في حركة التمرد المسلح التي تشهدها منطقة شمال القوقاز، التي يقطنها أغلبية سنية.

وباختصار، كانت سوريا بالنسبة إلى روسيا بمثابة الفرصة لكي تؤكد رفضها للتدخلات الغربية ولشبح الثورات.

لقد أكدت روسيا مرارا على أن معارضتها هي في الأساس مسألة مبدأ، مما يجعل من الصعب عليها التراجع عن أفكارها. يقول ليونيد ميدفيدكو، الذي يغطي الأحداث في سوريا لصحيفة «برافدا»، الصحيفة الرسمية للحزب الشيوعي، إن روسيا لا تستطيع أن تدعو علانية إلى تنحي الأسد، لأن هذا من شأنه أن يخلق «سابقة شديدة الخطورة لأي شعب لا يحب حكومته».

يضيف فيدفيدكو، والذي يعمل محللا إقليميا في «الأكاديمية الروسية للعلوم»: «لا نرغب في السماح بمثل هذه الإنذارات، لأنه من الممكن توجيهها فيما بعد إلى أي دولة. لا يمكننا أن نسمح لهذا السابقة بالتأصل، حيث إنهم الآن لا يحبون الأسد، ثم قد لا يحبون شخصا آخر في لبنان بعدها. لقد رأينا بالفعل كيف كانوا لا يحبون شخصا ما في ليبيا، وشاهدنا بأم أعيننا المصير الذي آلت إليه حياة القذافي».

ومع ذلك، تتراجع روسيا عن توجيه الدعم الصريح للأسد، رغم أن هذا التراجع يتم بخطى متثاقلة. ففي الأسبوع الماضي، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أنه لكي يتم احتواء الفصائل المختلفة في سوريا: «من الضروري أن تكون هناك مرحلة انتقالية، وهذا أمر واضح».

يتبع كل خطوة تدريجية تخطوها روسيا بعض الأمور التي تؤكد ثبات موقفها، مثل الرفض الذي أصرت عليه في نهاية الأسبوع الماضي في مؤتمر جينيف للموافقة على استخدام بعض العبارات التي توحي بأن الأسد قد لا يكون جزءا من الحكومة الانتقالية. تساعد هذه الأساليب التي تنتهجها روسيا على إطالة أمد العملية الدبلوماسية لأسابيع وربما لأشهر - وهو ما قد لا يمثل إزعاجا كبيرا بالنسبة للحكومات الغربية المنقسمة بشدة فيما بينها حول مسألة التدخل العسكري في سوريا.

ومع تزايد أعداد القتلى في سوريا بشكل كبير، فقد يكون أحد المخاوف الرئيسية التي تنتاب روسيا هو تصلب الرأي العام العربي ضدها، حسبما أكد دبلوماسي عربي بارز، والذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته ووفقا للبروتوكول. أضاف هذا الدبلوماسي أنه مع تزايد أعداد القنوات الإخبارية، مثل «الجزيرة» و«العربية»، التي تقوم بصورة منتظمة ببث مقاطع فيديو مروعة حول المجازر التي تحدث في سوريا، اضطر المسؤولون الروس أخيرا لتقبل حقيقة أنه: «على عكس العقود الأربعة الماضية، فإن الشارع العربي قد أصبح له صوت الآن».

يقول الدبلوماسي العربي: «إنهم يستيقظون الآن على واقع جديد، حيث أصبحوا يدركوا أن تحليلاتهم كانت خاطئة وأنه ينبغي عليهم اتخاذ مسار جديد».

يؤكد نفس الدبلوماسي أن هذا الإدراك يتناقض مع الرغبة في الوقوف على المبادئ ورد الإهانة التي تعرضت لها روسيا عندما جرى تجاهلها في موضوع ليبيا، مضيفا: «السؤال الآن هو: هل ستستمر روسيا في موقفها في سوريا حتى النهاية؟».

تعتمد الإجابة عن هذا السؤال على الحسابات الخاصة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد يرى أن الانحناء للضغوط الغربية قد يضر بمصالح بلاده أكثر من خسارة سوريا، وربما يسعى، في حال تقبله لفكرة عدم إمكانية تمديد فترة حكم الأسد لأكثر من نهاية العام الجاري، للمتاجرة بموقف روسيا للحصول على بعض الامتيازات.

وكل ما يتبقى لنا الآن هو الجلوس في صمت ومشاهدة حشود المعارضة وهي تحتفل بانتصارها. لا يعد هذا خيارا سهلا على الرجل الذي قضى أياما عصية، داخل مبنى جهاز الاستخبارات الروسية في مدينة درسدن منذ عقدين من الزمان، في حرق المستندات التي تمثل سنوات طويلة من العمل، ثم قام - بعد أن اقتنع أن بلده التي خدمها قد تخلت عنه - بالخروج من المبنى للدفاع عن نفسه وزملائه ضد الحشود المتجمهرة خارجه.

* خدمة «نيويورك تايمز»