عملية أمنية في إيطاليا تدمر حياة جاسوسة أميركية

عميلة سابقة تقاضي «سي آي إيه» وتشكو تقييد حركتها بسبب إدانتها في خطف متشدد مصري

سابرينا دي سوسا
TT

كانت العميلة السابقة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) سابرينا دي سوسا، تعلم أنها تقوم بمخاطرة كبيرة وهي تحجز تذكرة طيران من واشنطن إلى الهند، وكانت لا تزال تحاول تقبل فكرة أنها أصبحت مطلوبة دولية بعد أن صدرت بحقها مذكرة توقيف أوروبية.

وقد ارتأت أنها ستكون في أمان، طالما لم تتوقف الطائرة لظروف طارئة في أي مكان في أوروبا. وعلى أي حال، فقد كان عليها أن تغادر، حيث كان من الضروري أن ترى والدتها المسنة وتبلغها لأول مرة بالقصة كلها، وهي عملية اختطاف رجل دين مسلم مصري متطرف من شوارع مدينة ميلانو عام 2003، ثم توجيه الاتهام إليها في إيطاليا عام 2007 بتورطها في اختفائه، ثم استقالتها عام 2009 مما وصفته في حذر بأنه «وظيفة حكومية أميركية».

وفي سن 56، تحول مجرى حياة سابرينا دي سوسا تماما بعد أن واجهت قضية جنائية فارقة ظلت تجري وقائعها في إيطاليا لمعظم سنوات العقد الماضي، منذ أن بدأت النيابة التحقيق في اختفاء رجل دين مصري، هو حسن مصطفى أسامة نصر، المعروف باسم أبو عمر.

وكان الاستنتاج الذي توصلوا إليه في عام 2005 هو أن مجموعة كبيرة من عملاء وكالة «سي آي إيه» ومسؤولين كبارا في الاستخبارات الإيطالية هم الجناة. وتعد هذه هي أول مرة يدين فيها بلدا أجنبيا، بل وحليفا أيضا للولايات المتحدة، مجموعة من المسؤولين الأميركيين في اتهامات ذات صلة بعمليات «تسليم السجناء»، وهو أسلوب يتم فيه نقل أي شخص مشتبه في أنه إرهابي رغما عن إرادته إلى بلد آخر كي يتم استجوابه هناك.

وفي عام 2009، أدانت إحدى المحاكم الإيطالية 23 أميركيا قيل إن جميعهم تقريبا ضباط في وكالة الاستخبارات المركزية، وكثيرون منهم كانوا يستخدمون أسماء مستعارة، وجميعهم رحلوا عن إيطاليا منذ زمن طويل في اتهامات بارتكاب عملية اختطاف خطيرة، وحكم على معظمهم بالسجن عدة سنوات، إلا أن الولايات المتحدة لم تسلم أيا منهم إلى إيطاليا.

ومن بين المتهمين، يبرز اسم واحد: سابرينا دي سوسا، التي تقيم في مقاطعة كولومبيا، والتي تقول النيابة الإيطالية إنها ساعدت في التنسيق لعملية الاختطاف لكنها لم تشارك فيها فعليا. وتصر سابرينا على أنه لم يكن لها أي ضلع في عملية التسليم، وقد رفضت إخفاء اسمها، على عكس الأميركيين الآخرين الذين وردت أسماؤهم في القضية.

وهذا الأسبوع، تواجه سابرينا ما يمكن أن يكون فرصتها الأخيرة في تبرئة نفسها، حيث ستعقد محكمة النقض العليا في روما، اليوم (الجمعة)، جلسة على مدار يومين للنظر فيما إذا كانت ستؤيد أو ستسقط جميع قرارات الإدانة الصادرة بحق الأميركيين، وقد يقرر القضاة أيضا إحالة تلك القضايا مرة أخرى إلى إحدى المحاكم الأدنى درجة أو تحديد جلسة أخرى قبل انعقاد هيئة كاملة من قضاة المحكمة العليا في الخريف المقبل.

وتنكر سابرينا، التي تم تسجيلها في إيطاليا بصفتها موظفة من وزارة الخارجية الأميركية تعمل لدى القنصلية الأميركية في ميلانو، أنها كانت تعمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية، وإن كانت قد رفعت دعوى قضائية ضد الوكالة لعدم السعي في إجراءات منحها الحصانة الدبلوماسية. وفي أوراق المحكمة الإيطالية، وصفت النيابة سابرينا بأنها «عميلة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تم إلحاقها بالقنصلية الأميركية في ميلانو». وقد امتنعت وكالة الاستخبارات المركزية عن التعليق على التفاصيل الخاصة بالقضية.

وتكشف معارك سابرينا القانونية، أكثر من أي شيء آخر، عن الضريبة الشخصية الضخمة التي يدفعها ضابط الاستخبارات الأميركية حينما يسقط غطاء إحدى العمليات الاستخباراتية السرية. وأشارت سابرينا إلى أنها فقدت أصدقاء لها وكذلك تصاريحها الأمنية رفيعة المستوى. وقد استقالت من وظيفتها بعد بضع سنوات فقط، خجلا من أن تحصل على مزايا التقاعد لأنها، على حد تعبيرها، لم تستطع الامتثال لأوامر أرباب عملها بعدم السفر للخارج، حيث يعيش معظم أفراد عائلتها. ورغم أنها نجحت في إبرام بعض العقود الاستشارية، فقد وجدت صعوبة في العثور على عمل بدوام كامل، نظرا لأن اسمها لا يأتي بنتائج إيجابية عند البحث عنه على موقع «غوغل».

وتشعر سابرينا بالمرارة من الطريقة التي تم بها الكشف عن عملها، حيث إنها قد حاولت بشتى الطرق تجنب هذا الأمر. ففي عام 2009، رفعت دعوى قضائية ضد وكالة الاستخبارات المركزية ووزارتي الخارجية والعدل الأميركيتين لعدم إعطائها الحصانة الدبلوماسية. وفي شهر يناير (كانون الثاني)، أصدر قاض فيدرالي قرارا برفض دعواها، لكنها قامت بالاستئناف.

في ظهيرة يوم الاثنين، 17 فبراير (شباط) 2003، غادر أبو عمر شقته التي تقع في منطقة فيا جويرزوني في نابولي في رحلته اليومية إلى المسجد سيرا على الأقدام. كان بعض مسؤولي وكالة الاستخبارات الأميركية يعتقدون أن أبو عمر هو من قام بالتخطيط للهجوم الذي حدث في عام 2002 ضد حافلة مليئة بالطلبة كانت متجهة إلى إحدى المدارس الأميركية في ميلانو، كما تشير سجلات المحكمة الإيطالية. توقفت سيارة صغيرة إلى جوار أبو عمر، ثم تبعتها شاحنة بيضاء كبيرة، وتم إرغام أبو عمر، وهو رجل ضخم الجثة وكان يبلغ من العمر 40 عاما وقتها، على الدخول إلى مؤخرة السيارة. تم إغلاق فمه بشريط لاصق وتقييد يديه وقدميه ووضع عصابة على عينه، وفقا لمستندات المحكمة الإيطالية.

وبعد عدة ساعات، دخلت الشاحنة إلى قاعدة أفيانو الجوية في شمال شرقي إيطاليا، ومن هناك، تم نقل أبو عمر جوا إلى إحدى القواعد الجوية الأميركية في ألمانيا ومنها إلى مصر، حيث وضع في أحد سجون القاهرة. وتشير مستندات المحكمة الإيطالية إلى أن زوجة أبو عمر أبلغت المحققين الإيطاليين أنه تعرض للضرب والصعق بالتيار الكهربائي في أعضائه التناسلية أثناء وجوده في السجن.

وفي الوقت الذي تم فيه اختطاف أبو عمر، كانت سابرينا برفقة ابنها في الرحلة التي قامت بها مدرسته الثانوية إلى مادونا دي كامبيليو، وهي منطقة تزلج شهيرة في شمال إيطاليا. تقول سابرينا، وهي محللة سياسية وعسكرية، إنها كانت قد سمعت عن أبو عمر في العام السابق، لكن لم يكن لديها أدنى فكرة عن أنه قد تم اختطافه في الوقت الذي كانت فيه تعتني بابنها على المنحدرات الجليدية. وترفض سابرينا الإفصاح عن الوقت الذي تم فيه إخبارها بالعملية ومن أخبرها بذلك وما هي المعلومات التي أخبرت بها.

لم يكن من المتوقع أن تصبح سابرينا عميلة لوكالة الاستخبارات الأميركية، حيث نشأت في مومباي وقام والدها بإعدادها لتولي إدارة شركته، حيث كانت تقوم بتصميم وبناء المعارض لشركات تنظيم المؤتمرات، والتي قامت ذات مرة ببناء مذبح لأحد الباباوات الذي كان في زيارة للهند. وفي عام 1985، تزوجت سابرينا من موظف في وزارة الخارجية الأميركية تم تعيينه في مدينة مومباي، والذي نصحها بالتقدم للحصول على وظيفة في وزارة الخارجية الأميركية، حيث إنها تجيد الكثير من اللغات.

في فترة التسعينات، بدأت سابرينا، والتي كانت قد حصلت على الجنسية الأميركية، في العمل لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، طبقا لما صرح به ضابط سابق في الوكالة كان يعمل معها في ذلك الوقت. ومكنتها بشرتها الزيتونية اللون وإجادتها التامة للغات البرتغالية والفرنسية والهندية والألمانية والإيطالية من الاندماج وسط الناس والمشاركة في عمليات مراقبة المشتبه بهم بمنتهى السهولة.

في عام 1998، انفصلت عن زوجها واستقرت في روما، حيث تم تسجيلها على أنها مسؤولة سياسية في السفارة الأميركية. وفي ربيع عام 2001، أي قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 بوقت ليس بالطويل، انتقلت سابرينا إلى القنصلية الأميركية في ميلانو.

ولا تفصح سابرينا عما إذا كانت على علم بوجود خطط مسبقة لتسليم أبو عمر أم لا. وعقب تسليم أبو عمر في وقت مبكر من عام 2003، ظل المحققون الإيطاليون على مدار سنوات كثيرة تالية في إجراء تحقيقات مع عملاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية للتحقيق في القضية التي تقول عنها سابرينا إنها حدثت نتيجة الظروف.

أما بالنسبة للأدلة الموجودة ضدها، فقد أخبر أحد الضباط المسؤولين عن تطبيق القانون في إيطاليا المحققين بأنه «يشك» في أن سابرينا هي «الرئيس الحقيقي لوكالة الاستخبارات الأميركية في ميلانو»، في حين قال أحد ضباط الاستخبارات الإيطالية إن عملية التسليم كانت «تحظى بأهمية قصوى» لسابرينا ورئيس جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية في روما، وأن سابرينا قد انتقلت إلى ميلانو كي تساعد في تنفيذ تلك العملية.

وتظهر سجلات الهاتف أن هناك مكالمات صادرة من هاتف سابرينا إلى أحد الخاطفين قبل العملية بثمانية أشهر وفي وقت قريب من عملية الاختطاف، وفي النهاية تم العثور على بريد إلكتروني لعامل في القنصلية يقول إن سيدة تدعى «سابرينا» قد حذرت الزملاء من السفر إلى إيطاليا بعد عملية التسليم.

وبينما يقترب موعد جلسة المحكمة العليا في روما، لا تزال سابرينا تبحث عن عمل بدوام كامل، ولكن هذا لن يكون سهلا بالنسبة لسيدة مطاردة بعبارة «خاطفة ومدانة» على موسوعة «ويكيبيديا». وفي هذه الأثناء، تعمل سابرينا على تأليف كتابين، أحدهما عن ذكرياتها والثاني عن أحداث مشوقة من الناحية النفسية، كما تعمل مع ابن عمها على إنشاء دار للأيتام في غوا.

تدرك سابرينا تماما أن البعض في وزارة الخارجية يعتقدون أنها ليست على استعداد للتعامل مع الأخطار الطبيعية لمهنتهم. ومع العلم بوجود والدتها في الهند وشقيقاتها في ألمانيا وكندا، تقول سابرينا إنها لم تكلف بأي مهمة من شأنها أن تؤثر على قدرتها على السفر بحرية. وترى أن منتقديها لا يفهمون معنى أن يكون شخص مهاجرا عالقا في الولايات المتحدة وممنوعا من زيارة عائلته في الخارج. وعلاوة على ذلك، لم تكن سابرينا تتوقع مطلقا أن يرتبط اسمها بتكتيكات مكافحة الإرهاب التي ترى أنها شديدة التطرف.

ويقول النائب العام الإيطالي، أرماندو سباتارو، إنه في حال قيام المحكمة العليا في إيطاليا بتأييد حكم الإدانة، فإن مكتبه سوف يطلب من الحكومة الإيطالية أن تحصل على مذكرة توقيف صادرة من الإنتربول بحقها. وإذا حدث ذلك، يمكن أن يتم القبض على سابرينا في بلدان خارج الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الهند.

ولا تعرف سابرينا ما الذي ستقوم به إذا لم تبرئ المحكمة العليا ساحتها من تلك الاتهامات. والأهم من ذلك كله أنها لا تعرف كيف ستنقل ذلك الخبر إلى والدتها (85 عاما) وما إذا كانت ستخاطر بالسفر إلى الهند لتقول لها ذلك وجها لوجه. وتقول سابرينا: «لا أريد التفكير في ذلك الأمر».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»