«الشرق الأوسط» تنشر يوميات ثوار ومقاتلين في «الجيش الحر»

مطبخ لكل 3 شوارع والنوم بالتناوب

مجموعة من الثوار يتناولون وجبة طعام
TT

كان يتحدث عن ثمار المشمش التي لوحتها الشمس مع شقيقه المنفي خارج البلاد على «فيس بوك»، حين سقطت قذيفة مدفعية بالقرب من المكان الذي يوجد فيه مع مجموعة تابعة للجيش الحر في ريف حمص. تعرض هو لإصابة طفيفة، وكذلك عدد من رفاقه. واستأنفوا سير حياتهم «الاستثنائية» في البساتين بعيدا عن عائلاتهم، حيث لكل شيء نكهة أخرى، ممزوج بمرارة فقد الأصدقاء الذين يستشهدون الواحد تلو الآخر، ولا يجعله مستساغا سوى نيل الشهادة على «أمل الانتصار». يقول محمد لشقيقه المنفي عبر «فيس بوك»، وتلطيفا للأجواء يحدثه مطولا عن وجبة برغل أعدها الشباب، لكنها احترقت بسبب كثرة القذائف حولهم، لكنهم في النهاية تناولوا البرغل المحروق. في اليوم السابق في فترة هدوء نسبي صباحا تناولوا «مامونية حلبية» المكونة من السميد والسكر، وعندما استغرب شقيقه إعداد هذا الإفطار قال محمد «هذه وجبة لا تحتاج لجهد ووقت في تحضيرها كما لا تحتاج برادا لحفظها».

يعتمد مقاتلو الجيش الحر والثوار في الميدان على المعلبات التي لا تحتاج لتبريد وعلى الخضراوات الطازجة، لعدم توفر ثلاجات غالبا ولانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، وأكثر الأكلات التي يحضرونها أيام الهدوء النسبي تلك المتقشفة بالمواد وبالجهد، من الوجبات التي اشتهر بها الريف السوري وتعد على عجل «برغل مع بندورة، وجزمز، وبيض مع بندورة، وبطاطا بجميع أشكالها». هذا عندما يكون الحصول على خضار متيسرا، أما في حالات القصف الشديد والحصار فيتم الاعتماد على المعلبات التي سبق لهم تخزينها.

ويقول ناشط إعلامي في مدينة حمص أقام فترة طويلة مع الجيش الحر، إنه في الأحياء الواقعة تحت سيطرة الجيش الحر، يوجد مطبخ لكل 3 شوارع، وهناك مجموعات متفرغة للطبخ، شيف ومساعدون، ويعدون وجبة غداء بقدور كبيرة وبكميات تغطي حاجة سكان الشوارع الثلاثة من مدنيين ومقاتلين، ويعتمدون على البرغل والأرز والدجاج كمواد أساسية في وجبات الغذاء اليومية، أما وجبتا الإفطار والعشاء فعادة تكونان من «الحواضر» معلبات حلاوة مرتيلا جبنة، يتم توزيعها. ويقول الناشط الإعلامي «لكن هذا الترف لا يتوفر في حالة الحصار الشديد، ويتم الاعتماد على المعلبات فقط».

الناشط الإعلامي الذي تنقل في عدة أحياء ثائرة في حمص خلال الشهر الأخير تحدث عبر «سكايب» لـ«الشرق الأوسط» عن كيفية حياة المقاتلين فقال: «إنهم لا يرمون أي شيء من الطعام، وتتم عملية تدوير له مثلا إذا تبقى برغل لليوم الثاني يقوم الشباب بإضافة بندورة إليه فيغدو طبخة طازجة، وإذا كان هناك فائض من الخبز اليابس ممكن أن يطهو إلى جانبه كشك، وهكذا مع باقي المواد الأخرى، يقوم الشباب باختراع وصفات بحسب المواد المتوفرة بحيث لا يتلف أي شيء». وعما إذا كانوا يستعينون بخبرة النساء من أقاربهم في هذا المجال يجيب الناشط بسخرية «مجتمع الثوار والجيش الحر ذكوري بالخالص.. لا وجود فيه للنساء نهائيا». ويشير إلى أن أحد الثوار المدنيين وهو ناشط في الحقل الإعلامي مرتبط بعلاقة حب مع ناشطة معروفة لجميع زملائه، لكنه عندما خطبها على أمل الزواج بعد الانتصار، حظر على زملائه التواصل معها عبر (سكايب). ويقول الناشط «بتنا نستأذن منه كي نلقي عليها السلام مع أننا كلنا شلة واحدة في الجامعة ونعرفها قبل أن يتعرف هو عليها».

الشباب من الجنود المنشقين والثوار المدنيين الذين التحقوا بالجيش الحر، يعيشون منذ نحو عام بعيدا عن عائلاتهم ويحملون أرواحهم على أكفهم ويتنقلون من مكان إلى آخر من حي إلى حي، ومن بيت إلى بيت، ومن بستان إلى بستان. ويقول الناشط الإعلامي «لا يستقر المقاتلون في مكان محدد.. يتنقلون من موقع إلى آخر». ويتابع «من ستة أشهر لم أزر أمي.. حتى أنني لا أكلمها بالهاتف كي لا تتعرض للمضايقات». أما كيف يعيشون يومياتهم تحت القصف فيقول «اعتدنا القصف وتعايشنا معه وبتنا نعرف كيف نتجنبه.. ونؤمن بأن الموت بيد الله وحده ولكل إنسان أجل.. وقد تستغربون إذا قلنا إننا نشرب الشاي أحيانا في الشارع، بينما تنهمر القذائف في محيط المكان الذي نوجد فيه». ويؤكد «الذي يعايش الموت يوميا ستذهله المعجزات التي تحصل.. كأن تسقط بالقرب منك قذيفة ولا تنفجر، أو أن توجد بمبنى يتعرض لقصف مدفعي شديد ويتهدم أجزاء كبيرة منه ثم تخرج حيا، بينما قد تنال الشهادة على أهون الأسباب وأنت تعبر الشارع برصاص قناص غادر»، لافتا إلى أنه «ليس هناك شيء أحب لقلب الذي حمل سلاحه لنيل الحرية والجهاد في سبيل الله من نيل شرف الشهادة مقبلا في ساحة المعركة».

أما عن النوم فعادة ما يكون بالتناوب؛ مجموعة تنام وأخرى تقوم بالحراسة، أما وقت صد هجوم أو القيام بعملية هجومية فلا أحد ينام، وعندما يستشهد أحد الشباب - والكلام عن مدينة حمص فيقول «إن شخصا واحدا منا فقط يقوم بنقل الشهيد من المستشفى الميداني إلى المسجد ليتم تكفينه والصلاة عليه، وبعد تسجيل الاسم يقوم الشخص ذاته الذي حمله من المستشفى بعملية دفنه. وكل يوم هناك تشييع جنازة، والذي بات جزءا من حياتنا اليومية. وعلى الرغم من ذلك لم نعتد فراق الإخوة الشهداء. لحظات الفراق مريرة رغم ما تحمله من فرح بالشهادة».

«كلنا طلاب شهادة»، هكذا يقول عبد الجبار، وهو اسم مستعار لأحد مقاتلي الجيش الحر في حمص، والذي يؤكد أنه «كلما استشهد أحد منا نشعر بأن النصر بات أقرب، أما ألطف اللحظات فتلك التي نجتمع فيها حول إبريق شاي، ندخن ويحكي كل منا ما لديه. نتناقش في شؤون العمليات التي قمنا بها ومصير الأسرى لدينا وما ننتوي القيام به، لا تخلو الجلسات من مزاح وغناء ثوري لشد العزيمة للتغلب على الحزن الذي يصيبنا لفقد أو إصابة أخ منا أو لنائبة ألمت بأهل أحدنا، تختلط المشاعر وتتشعب الأحاديث». ويتابع ساخرا «من يرَ الدخان المنبعث من مكان وجودنا يخيل إليه أن هناك حريقا هائلا. الجميع يدخن حمراء طويلة»، (الحمراء الطويلة دخان صناعة سورية).

ويصف السوريون سيجارة الحمراء بأنها مخلصة لصاحبها، إذ تنطفئ بمجرد وضعها في المنفضة. ولكن هل الدخان متوفر؟ يروون عن أحد المقاتلين في حمص قوله، إن «انقطاع الطعام بالنسبة له أهون بمائة مرة من انقطاع الدخان». وحصل منذ فترة قصيرة أن افتقد الدخان فما كان من ذلك المقاتل إلا أن قايض الشبيحة على أحد الحواجز على جثة شبيح قتل خلال اشتباك بصندوق دخان حمراء طويلة.

إبراهيم (جندي منشق) انضم للجيش الحر في ريف حمص وتتركز مجموعته في البساتين، يقول إن «أحلى لحظات العمر بالنسبة له عندما يهاجم مع مجموعته حاجزا أو نأسر شبيحة ونغتنم سلاحا وذخيرة، أما إذا حصلنا على مدرعة أو مدفعية فيكون فرحنا كبيرا جدا، وتصبح لجلسة التدخين وشرب الشاي متعة أخرى.. متعة الانتصار». يحلم إبراهيم باليوم الذي «سيسقط فيه النظام بيد الثوار لا بيد المجتمع الدولي». ويأمل إن «لم ينل شرف الشهادة أن يتزوج بعد النصر». وعما إذا كان مرتبطا بعلاقة عاطفية يقول: «الآن لا حب غير حب السلاح وعشق الحرية».

الناشط الإعلامي الحمصي وفي حديثه لـ«الشرق الأوسط» توقف عند الاعتياد على حالة الطوارئ الدائمة وكأنها نمط حياة روتيني، وأعطى مثالا بقوله «حين لا نكون في حالة هجوم أو دفاع أو رصد وتصوير كل واحد منا ينصرف إلى عمل ما، هناك من يحضر الطعام وآخر يتابع الأخبار، وتصفح النت وتفقد صفحته على موقع (فيس بوك) أو (تويتر)، والتواصل عبر (سكايب) وثالث يفضل النوم أو الاستحمام وغسل الملابس، بينما يشرب آخرون الشاي ويتبادلون الأحاديث، وإذا كان وقت صلاة يذهبون إلى جامع قريب للصلاة جماعة أو الصلاة في نفس المكان.. إلخ. وفجأة يبدأ القصف والهطول الكثيف للقذائف، فترى المجموعة تتفرق كل في اتجاه، وما إن يهدأ القصف العنيف المباشر حتى ترى الكل عاد إلى مزاولة العمل الذي كان يقوم به قبل القصف وكأن شيئا لم يكن بعد أن يجري تفقد للجميع لمعرفة إن كان هناك من أصيب أو استشهد». معظم المقاتلين يثابرون على الصلاة إن لم نقل جميعهم يقول الناشط الإعلامي قلة قليلة جدا لا تصلي، والصلاة عادة تكون جماعة في المساجد، وأي شخص من المجموعة يمكنه أن يؤم الصلاة، وعندما لا تكون الصلاة في المسجد متاحة فالصلاة تكون على الجبهة وإلى جوار السلاح. ويضيف الناشط الإعلامي «ليس كل أفراد المجموعات ملتزمين بأوقات الصلاة. هناك شباب يجمعون الصلوات، وقد يوجد ثوار علمانيون من المدنيين بين المقاتلين، وممكن أن نرى سلفيا ملتحيا إلى جانب شاب مودرن، يرتدي شورت وفانلة يؤديان الصلاة معا، وكثيرا ما تحصل نقاشات حامية تنطوي على خلافات كبيرة، يخفف وطأتها بعض الطرافة وتقبل المزاح. الكل متفق على هدف واحد وهو تحرير البلاد من نظام الطاغية الفاسد». وعن السلفيين يشير الناشط الإعلامي الذي أمضى 3 أيام معهم في أحد أحياء حمص القديمة المحاصرة إلى أنهم «ليسوا منغلقين، كما يشاع عنهم، بل هم منفتحون ومعظمهم اتجه للسلفية خلال أيام الثورة». ويؤكد أنه لم يقابل هناك رجال دين سلفيين بالمعنى التنظيمي، وإنما رأى «رجالا متدينين سلفيين، وكانوا قبل الثورة رجالا مدنيين، أطباء، مهندسين محامين، صيادلة، لديهم تدين شعبي تقليدي بعد الثورة تحولوا إلى السلفية والتشدد الديني». ويتابع «أحدهم كان تاجرا وفقد كل ما يملك، كما استشهد عدد كبير من عائلته، كان أكثرنا صلابة وشجاعة، وكان يقول لنا إن قوته وثباته نابعة من إيمانه بالله فهو وحده المعين».

يمضي المقاتلون إذا لم يكن لديهم عملية ليلهم على أصوات القذائف، وإذا سأل أحدهم عن الوضع قال «لا شيء. الأمور جيدة ولله الحمد»، لكن ماذا عن أصوات القصف التي تسمع «لا شيء يهم.. طقطقة يومية عادية»، هكذا يجيب.