أفغان لا يريدون رحيل الأميركيين

قلقون من تردي الأمن وتلاشي خدمات كثيرة توافرت مع وجود القوات الأجنبية

قروي في بلدة كرز (مسقط رأس الرئيس كرزاي)، حيث يعاني السكان نقصا كبيرا في الخدمات (واشنطن بوست)
TT

في هذه القرية المبنية بالطوب اللبن، موّلت الأمم المتحدة بناء جدار صخري على طول مجرى النهر للحفاظ على الطريق من الغرق خلال الفيضانات. ودفعت الولايات المتحدة المال لشراء الأسمدة لحقول القمح، بينما دفع حشمت كرزاي، ابن عم الرئيس، ما يقرب من 70.000 دولار من ماله الخاص لتوصيل خطوط الكهرباء.

لكن بصمات الحكومة الأفغانية غير واضحة على الإطلاق في هذا المكان، رغم كون قرية كرز مسقط رأس الرئيس حميد كرزاي. ويقول عبد العلي، شيخ القرية: «لم تفعل الحكومة أي شيء».

كرست الولايات المتحدة سنوات من الجهود ومليارات الدولارات لتحسين الخدمات الأساسية في المناطق الريفية الأفغانية. وإذا كان على القيادة الأفغانية أن تضرب بجذورها في مكان ما، لكانت كرز، المنطقة الزراعية الواقعة على مشارف مدينة قندهار التي لا يزال يقطنها أقارب وقبيلة الرجل الذي حكم أفغانستان خلال عقد من الحرب، هي المكان الأمثل لذلك.

بيد أن ما يتضح بشكل صارخ في مجال الإغاثة هو غياب الحكومة مع بدء انسحاب القوات الأميركية. فمع رحيل هذه القوات، حاملين معهم المصدر الرئيسي للحوافز الاقتصادية، يشير المسؤولون الأميركيون والسكان إلى أن أكثر ما يثير قلقهم هو أن الانسحاب سيخلف وراءه حكومات محلية ضعيفة تفتقر على الأغلب إلى الموارد والسلطة. وهذا القصور في التقدم الحكومي يتضح بشكل يومي في كرز، حيث يصطف المزارعون على طول الطريق إلى باب حشمت كرزاي.

لا يملك حشمت كرزاي منصبا حكوميا، لكن أهميته في القرية تأتي من مكانته كزعيم قبلي ثري وغني ومن علاقته بالرئيس. فكان يملك في السابق شركة أمنية خاصة، «آسيا سكيورتي غروب»، التي كانت تقوم بتوفير الأفراد لحماية القواعد الأميركية، ويؤجر حاليا قطعة أرض لفندق بالقرب من مطار «الناتو» في قندهار.

تمتلئ ساحة منزل كرزاي بمواطني القرية لعرض لائحة جديدة من المشكلات التي يقولون إنهم لا يجدون من يستمع إليها في دواوين الحكومة. ويطالب الجميع بتوفير الكهرباء لمضخات الري ومشفى لرعاية أبنائهم المرضى أو معلومات عن أقاربهم الذين اعتقلتهم القوات الأميركية.

تساءل حشمت كرزاي، وهو يشير إلى مواطنيه: «أين نذهب؟ وعلى باب من نطرق؟ هذا ما يثير ضجر الأهالي في قندهار. حاول أن تذهب لمقابلة حاكم الإقليم، لن تتمكن من ذلك. حاول مع رئيس الشرطة أو العمدة؟ ربما يتطلب الأمر شهرا كي تتمكن من ذلك». ويضيف: «هناك فجوة كبيرة بين السكان المحليين والحكومة. كيف ستتغلب على تلك الفجوة؟ لم أتمكن من معرفة ذلك إلى الآن».

يذكر أنه بحلول سبتمبر (أيلول) المقبل، سيتراجع عدد القوات الأميركية في قندهار والولايات القريبة منها إلى 13.500 جندي، من أصل ما يقرب من 20.000 كانوا هنا في أبريل (نيسان) 2011. نظرا لتحول المعارك الدامية التي دارت رحاها مع طالبان خلال السنوات القليلة الماضية، في مدينة قندهار ووادي آرغانداب القريب، إلى أقصى الغرب، حيث حقول الألغام في المناطق الريفية من مقاطعات زهاري وبانجواي.

وعلى الرغم من تغير موقع العنف، فإن القوة الكلية للتمرد لا تزال على حالها، بحسب الميجور جنرال جيمس هاغنز، القائد الأميركي العام في إقليم قندهار. وأشار إلى ثقته بأن الجنود والشرطة الأفغانية قادرون على السيطرة على المعارك مع طالبان. لكن هاغنز قال إنه غير متفائل بشأن قدرة الحكومة على تلبية متطلبات المواطنين - المسؤولية التي يقول إن عليهم القيام بها تجاه أفغانستان للإبقاء على التمرد بعيدا.

وخلال لقاء أخير مع حاكم قندهار توريالاي ويسا، أشار هاغنز، إلى أنه سلم الرسالة بأن الأفغان في حاجة فورية إلى عون حكومتهم. وقال: «قلت له إن الأفغان لا يدعمون الحكومة الأفغانية. لماذا لا يدعمونها؟ لأنكم لا تقدمون لهم الخدمات، ولا تصغون إلى شكواهم، يجب تحقيق مستوى معين من الحكم». وأضاف هاغنز: «في النهاية، فإن الأمن سيكون بقدر قيمة الحكومة القادرة على توفيره ودعمه».

خلال السنوات الأخيرة، أنفقت الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات في قندهار في محاولة لتوفير هذه الخدمات نيابة عن الحكومة الأفغانية. ويأتي المصدر الرئيسي لمياه الري من خزان المياه في سد دهلا خارج مدينة قندهار، التي قالت الولايات المتحدة إنها ستدفع ما يقرب من 200 مليون دولار لتوسعته، لأن الطمي يغطي ثلثه. ويأتي الكثير من كهرباء المدينة من محركين بقدرة 10 ميغاوات التي تتطلب مساعدة أميركية سنوية بقية 50 مليون دولار لدفع تكلفة الوقود. لكن تلك الإعانة يتوقع أن تتوقف في وقت ما في منتصف العام المقبل، وهو ما سيجبر الأفغان إما على خفض استهلاك الكهرباء أو رفع الرسوم.

ويخشى الأفغان من تداعي اقتصاد الحرب، الذي ازدهر مع عقود حلف «الناتو» لبناء وإمداد مطار قندهار، المعروف باسم «كاف»، مع رحيل القوات والمال. ويقول حشمت كرزاي: «90 في المائة من اقتصاد قندهار يعتمد على مطار قندهار. لكن، ما الذي سيحدث عندما يجف نهر المال؟».

وبغض النظر عن المخاوف بشأن الأمن، يشير القرويون في كرز إلى أنهم قلقون بشأن الاقتصاد. فهذه القرية الفقيرة لا تحظى بالكهرباء أو مستشفى، وموارد المياه تصلهم بشكل متقطع لري مزارع الكروم الخاصة بها. وداخل قميصه يحتفظ كرزاي بورقتين تحمل أسماء 25 شخصا كان يأمل أن يحصلوا على الأسمدة المجانية التي تأتي ضمن برنامج الزراعة الذي تموله الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وهذا التغير الطفيف الملموس الذي لوحظ في كرز خلال العقد الماضي - حائط حفظ المياه، و6 ملايين دولار لبرنامج الوظائف، وجسر صغير وبئر صخرية - جاء عبر المساعدات الأجنبية.

ويشير القرويون في كرز إلى أن صعود حميد كرزاي إلى الرئاسة لم يجعل قريتهم أفضل حالا عما كانت عليه في السابق، إذ لم تجر هناك أية أعمال بناء كبيرة، كما أن الكثير من المنازل التي انهارت خلال الحرب السوفياتية في الثمانينات، لم تبن مرة أخرى. ويقول أحمد الله، أحد زعماء القرية: «الكثير من الشباب الآن عاطلون عن العمل». وقد شاهد الكثير من الشباب العاطلين عن العمل يقضون ساعات فراغهم في تدخين الحشيش. وإذا جف ينبوع رواتب العمالة اليومية الذي تمده الولايات المتحدة عندما تغادر القوات، فإن بريق طالبان سيزداد قوة.

المسؤول المحلي عن كرز هو آماد الله نزاق، حاكم مقاطعة داند. وقد أعطاه زعماء القرية قائمة بمتطلباتهم تمثلت في طرق مفروشة بالحصى بقنوات تصريف ومضخات يدوية للآبار ومستشفى ومدرسة ابتدائية وأكواخ جديدة لتجفيف العنب إلى زبيب. ومكتب نزاق نفسه يعمل بالكهرباء التي تمولها الولايات المتحدة، ويشير إلى أنه لا يملك القدرة على كل مطالب هؤلاء القرويين الفقراء.

ظل إيجاد موظفين للعمل في هذه المكاتب مشكلة لسنوات، وبشكل خاص عندما بدأت طالبان عمليات استهداف منهجي للمسؤولين المحليين في قندهار. وحتى الآن، لا تملك الحكومات المحلية وحكومات الأقاليم ميزانيات ولا تجمع أية ضرائب، وعوضا عن ذلك يأتي المال من كابل عبر الوزارات المختلفة. وقال نزاق: «كيف يمكن أن نجمع الضرائب من أناس لا يملكون شيئا، في الوقت الذي لا نقدم لهم فيه أي شيء؟».

حتى إن البعض ممن تضرروا بصورة شخصية من الوجود الأميركي يبدون قلقا من عواقب رحيلهم. وجاء عبد الله، (40 عاما)، الذي يعمل تاجر سيارات، إلى منزل حشمت كرزاي ليسأل عن أخويه اللذين اعتقلتهما القوات الأميركية الشهر الماضي. وقعت الغارة خلال جنازة والد عبد الله، عندما دخلت القوات الأفغانية إلى مسجد واعتقلت أخويه وسلمتهما إلى نظرائهم الأميركيين الذين كانوا ينتظرون بالخارج. وقال كرزاي: «هذا هو ما يوفر المناخ المناسب لطالبان. هذا الرجل قد يتحول في النهاية إلى طالبان. تخيل لو أن هذا حدث لك؟».

لكن برغم ذلك، لا يبدي عبد الله سعادة برحيل القوات الأميركية. عندما اندلعت الحرب، كان عبد الله سائق شاحنة فقير يتقاضى 200 دولار شهريا لنقل الزبيب جنوب أفغانستان. وقد استفاد من الازدهار الذي شهدته البلاد وقت الحرب وأصبح تاجرا لشاحنات البضائع التي تنقل إمدادات «الناتو» إلى القواعد العسكرية، وأصبح دخله الآن عشرة أضعاف ما كان يتقاضاه في السابق. ويقول عبد الله: «أنا سعيد للغاية بوجودهم هنا. كان النشاط التجاري طيبا خلال السنوات الخمس الأخيرة. أنا قلق للغاية بشأن ما سيحدث عندما ترحل القوات الأجنبية».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»