السلفية التونسية.. «جهادية» تعبر عن حالة سياسية وليس تيارا

واقعها الحركي يعيش حالة من التشظي الواضح بغياب القيادات «الكاريزمية»

راشد الغنوشي يتوسط الأعضاء المنتخبين الجدد لحزب النهضة في تونس (رويترز)
TT

أبرز ملامح الصعوبات التي تواجه الزائر لتونس، لمحاولة فهم الحالة السلفية التونسية، هو غياب أنماط التمظهر السياسي، كأحزاب ذات تاريخ عريق، باستثناء حزب التحرير، الذي سنأتي على سرد مراحل بنائه السياسي داخل تونس.

غير أن الأكيد أن السلفية التونسية، ذات خصوصية في هويتها التي صنعت خارج تونس في كل مكان مأزوم بصراعه الآيديولوجي، ثم عادت لتحاول الاندماج في الحالة التونسية الجديدة، بمعنى أنها كان تقفز دوما لمراكز الصراع المسلح، في أفغانستان، واليمن، والعراق، وهذا ما يفسر طابعها الجهادي، حيث لا يوجد حضور ظاهر لحركات سلفية «علمية» كما هو المعتاد في أقطار عربية أخرى.

السلفية «الجهادية» التونسية في واقعها الحركي تعيش حالة من التشظي الواضح، فلا قيادات «كاريزمية» تجمع هذا الطابع الحركي وتنظّر له وتنظم مطالبه وخطواته، وهذا ما يظهر جليا في تفاوت مواقف هذه الجماعات من دعاوى بعض رموز «الخطابة» التونسية. فضلا عن حديث الكثير من القوى السياسية التونسية، عن اختراقات كبيرة يعيشها أفراد الحركات السلفية من قبل أحزاب أخرى مثل النهضة، وبعض القوى اليسارية، والبوليس الأمني، إضافة إلى بعض عصابات تهريب الخمور والمخدرات.

مع التنبيه أن كل هذا الصوت العالي لهذه الجماعات لا يمثل إطلاقا حجمها على الأرض، حيث لا يتجاوز عددهم في تقديرات المختصين من الباحثين التونسيين ستة ألاف فرد، موزعين على مناطق مختلفة.

والحال، أنه لفهم الحالة السلفية التونسية لا بد من الاسترسال قليلا في سرد تاريخي لتمثلات هذه السلفية في الذاكرة السياسية لتونس.

أولى بدايات تداول خطر الحراك السلفي «الجهادي» في تونس كانت في عام 2006، بعد كشف السلطات الأمنية التونسية معسكرا للتدريب في جبل «طبرنق» جنوب العاصمة التونسية. وكان يشرف عليه بعض القيادات التونسية التي تلقت تدريبها في الجزائر مع جماعة «السلفية للدعوة والقتال». وانبثقت منها لاحقا «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». انتهت مواجهة الجيش التونسي لهذه الخلية في المعسكر بقتل قياداته والقبض على البقية.

الباحث المتخصص توفيق المديني، مؤلف كتاب «تاريخ المعارضة السياسية التونسية.. من النشأة إلى الثورة»، وهو أحد أهم الكتب التي تشرح التاريخ السياسي لتونس بتفاصيل دقيقة، يقول «بعد عشرة أيام من المعركة الأولى، ألقي القبض على باقي عناصر المجموعة. ومن ضمن القياديين السلفيين العاملين في تونس اليوم سيف الله بن حسين الذي يتزعم تنظيما يعرف بـ(أنصار الشريعة)، وهو تلميذ للأردني أبو قتادة وينسب إليه أنه أدار معسكرا لتدريب المغاربيين في أفغانستان قبل اعتقاله وسجنه في تونس. واستطاع بن حسين وعناصر مجموعة سليمان مغادرة السجن بعد الثورة ليشكلوا مجددا جماعات ضغط ركزت نشاطها في البدء على المناطق الحدودية مع ليبيا لمؤازرة اللاجئين. ومنعت فرقا موسيقية ومسرحية جاءت للترفيه عنهم من تقديم أي عروض. والأرجح أن السلفيين الجهاديين التونسيين جزء، لا يتجزأ من شبكة دولية، فتسمية (أنصار الشريعة) هي نفسها التي يعمل تحت لوائها أيضا السلفيون القاعديون في اليمن».

في مدينة سوسة، التي تحظى بحضور لهذا النوع من الجماعات، شهدت كلية الآداب حادثة لافتة نشرتها الصحف المحلية. كانت عبارة عن تهجم واقتحام مجموعة من السلفيين للكلية، بحجة أحقية منتقبة في التسجيل، انتهت بالاعتداء على سيارة المدير العام للكلية.

ولكن ما الخلاف الجوهري الذي يفرق بين أنماط السلفية التونسية، وحزب النهضة الإخواني الذي يشاركهم ذات المرجعية الأيديولوجية؟ يقول رئيس جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عادل العلمي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» حول مساحات الخلاف التي تصنع المشكلات «مبدئيا في شقها السياسي، ولم تظهر على السطح هذه الخلافات من النهضة، إلا عندما أخذوا دورا في دواليب السلطة، وأبرز الخلافات هو عدم الحسم فيما هو تشريع، والمجاهرة بالكبائر والمنكرات، مثل بيع الخمور، وعدم محاربة العري في الشوارع والسفور، فهذه المظاهر لا تدل على أننا مسلمون حقا. وهناك تخوف كبير ونحن على أبواب شهر رمضان الكريم من السماح بالمجاهرة بالإفطار دون رادع من السلطة».

العلمي الذي التقته «الشرق الأوسط» في بهو أحد الفنادق التي كانت تضع الموسيقى الكلاسيكية، بدا هادئا وبلحية كثيفة مهذبة بعناية، يرتدي القميص والبنطال، ولكن يضع على رأسه القبعة التونسية المميزة، وكان حريصا على تبيان رفضه لكل أشكال العنف مهما كانت المبررات.

ويزيد «وعود النهضة كانت بأنها تعيش متطلبات مرحلية سياسية، غير أننا غير مرتاحين لعدم تنصيص حزب النهضة الحاكم على أن الشريعة مصدر وحيد للتشريع، وكسلفيين لن نتنازل عنه».

في الطريق إلى جامع «الزيتونة» الأشهر في العاصمة، يمر المتوجه له عبر «زقاق» طويل ومزدحم مليئة جنباته بالمحلات الشعبية، والباعة بهتافاتهم المميزة، وقليل من السياح. حتى تصل إلى هذا الجامع العريق المميز بساحته الواسعة ونقوشه الإسلامية ذات الطابع الأندلسي المميز. في إحدى جنبات هذا الجامع، تجمع خمسة شبان في حلقة لتدارس القرآن الكريم بعد صلاة الجمعة، بدوا جميعا بلحاهم وبزاتهم المميزة للجماعات السلفية.

في «دردشة» جانبية مع «الشرق الأوسط» حول تصورهم لتونس الجديدة بعد «الثورة» أجمعوا على أن «الإسلام الحقيقي يجب أن يسود في تونس الجديدة» وأنهم لا ينتمون لأي حزب سياسي أو تنظيم يقوم بأعمال عنفية. ولكن واحدا منهم فقط ذكر أنه يتبع الشيخ الخطيب الإدريسي، أحد شيوخ السلفية التونسية.

فمن هو الخطيب الإدريسي؟ يقول المديني «سجن الإدريسي ما بين عامي 2006 و2009 بتهمة الإفتاء بالقيام بعمليات جهادية، وعدم الإبلاغ عن جريمة إرهابية. وينشط أتباعه في مواقع التواصل الاجتماعي، وتجد في (فيس بوك) صفحة رسمية تحمل اسمه. وقد دعا إلى احتجاجات على قناة نسمة الفضائية وحصرها في المحافظات. وحذر من التوجه للعاصمة، والاستدراج للتكسير والحرق. بيد أن السلفيين نظموا مظاهرة كبيرة جابت شوارع العاصمة بعد صلاة الجمعة للتنديد بمحطة نسمة، تحت شعار الشعب يريد الخلافة الإسلامية، وأحرقوا في المساء منزل مديرها».

وكتبت الأكاديمية التونسية آمال قرامي في صحيفة «النهار» مقالا، ذكرت فيه «إن السلفيين ليسوا كتلة واحدة. و(حزب التحرير) الذي لا يزال محظورا، حاضر في المشهد السياسي عبر شعارات المظاهرات لإقامة (دولة الخلافة) و(تطبيق الشريعة). أما ما يسمى بالسلفية الجهادية فلا تتوانى في استخدام العنف، لا وقت لديها للحوار مع الآخر، وغايتها تطهير المجتمع من العلمانية».

والحال، أن هذا الفصل الذي اتبعته قرامي بين «حزب التحرير» وبقية الفصائل السلفية الجهادية، يطرح تساؤلا حول مقاييس الاختلاف بين جمهور الحركتين.

وبالعودة للمديني، الذي تعد كتبه السياسية أحد أهم المراجع لفهم تاريخ الحراك التونسي سياسيا، يقول في كتابه «تاريخ المعارضة التونسية» في نبذة عن حزب التحرير قبل دخوله تونس «يعتبر الأردني تقي الدين النبهاني المنظر الرئيس لحزب التحرير، من خلال الكتب التي ألفها، ولعل أبرزها، كتاب (نظام الإسلام) والذي ربما صدر لأول مرة تحت اسم «طريق الإيمان»، وهو أهم كتب الحزب، إذ يستغرق تدريسه للأعضاء الجدد في الحزب قرابة العامين، إضافة إلى كتب (النظام الاقتصادي في الإسلام)، (نظام الحكم في الإسلام)، (النظام الاجتماعي في الإسلام)، (الدولة الإسلامية)، (أسس النهضة)، و(الشخصية الإسلامية)».

ويزيد حول دخول أدبيات هذا الحزب لتونس «تأخر تأسيس فرع لحزب التحرير في تونس حتى أوائل الثمانينات من القرن الماضي. على يد الداعية محمد فاضل شطارة الذي انتمى للحزب إبان دراسته في كولونيا بألمانيا العربية. وعندما عاد لتونس، بدأ سلسلة اتصالات سرية مع بعض الشخصيات الإسلامية لضمها إلى الحزب، حتى عقد الاجتماع التأسيسي للجنة المحلية».

سعت قيادات هذا الحزب إلى «اختراق المؤسسة العسكرية، بهدف غرس خلايا تنظيمية في صفوف الجيش، واستقطاب عناصر من الضباط الكبار لتكوينهم تكوينا إسلاميا».

وتم لاحقا «تقديم عناصر حزب التحرير إلى المحكمة العسكرية التي حكمت بالسجن 8 سنوات على عدد من المتهمين العسكريين، وخمس سنوات على أحد عشر متهما مدنيا، من بينهم محمد جربي زعيم حزب التحرير في تونس».

جدير بالذكر هنا، أن الغالبية العظمى من الأطياف السلفية ذات خلفيات، لا تنتمي للسلفية «العلمية» التقليدية الموجودة في السعودية مثلا. ولا تملك أي مراجع دينية خليجية تنظر لحراكهم السياسي.

شكري بلعيد، وجه يساري تونسي معروف (ستفرد الصحيفة حلقة كاملة لنقاش اليسار التونسي)، وهو محامٍ من أهم المرافعين في المحاكم كمحامي دفاع عن أفراد منتمين للسلفية، وتولى ما يقرب 90 في المائة من ملفات المطلوبين أمنيا منهم.

يؤكد على أن السلفية التونسية أضحت «ساحة مستباحة، من عديد الأطياف السياسية، حتى غدت خارجة عن السيطرة السياسية».

ويشرح بلعيد «هناك سلفية ذات انضباط كبير في أدبياتها التي تنتمي للقاعدة، سلفية إصلاحية، وسلفية مخترقة من قبل حزب النهضة، وسلفية مخترقة من قبل بعض الأجهزة الأمنية، وسلفية مخترقة من قبل أجهزة مخابرات دولية».

ويتهم بلعيد حزب النهضة بدفعه السلفية «تحت عنوان حماية المقدسات، وإطلاق يد السلفية وتمكينها من منابر الجوامع، بهدف التصوير في خضم الفوضى السياسية، بأن هناك يمينا متطرفا دينيا متمثلا في السلفية ويسارا متطرفا، فيما هو يقف في المنتصف بمظهر وسطي. الآن النهضة وجد نفسه لا يسيطر إلا على جناح بسيط من الحالة السلفية، كون السلفية التي تتحرك على الأرض مخترقة من عصابات الخمور وترويج المخدرات. حتى إن بعض الجماعات التي تخصصت في حرق الأماكن والمحاكم، لها ماضٍ تليد في تهريب الخمر خلسة».

وهذا ما يؤكده العلمي، أيضا مشيرا إلى أن «هناك فئات محسوبة على السلفية، فيما هم أصلا منحرفون وخريجو سجون وقضاياهم في السرقات والاغتصابات معروفة. وجدوا ضالتهم في هذا التيار المتشدد، وتغلب عليهم القسوة لأنهم مجرمون. ووجدوا في هذه الفوضى متنفسا مع الإخوة السلفيون، لأن طابع التشدد يجمعهم. وبعضهم بقوا تجار خمور دون رخصة ويتخفون ويندسون بين أفراد الحركة السلفية».

وكانت «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» إحدى أعرق المنظمات الحقوقية المستقلة في شمال أفريقيا. حذرت على لسان رئيسها عبد الستار بن موسى من أن «المجموعات السلفية العنيفة والخارجة عن القانون، والفالتة من العقاب، تصول وتجول لتنشر الرعب وتعنف ماديا ومعنويا النساء والمثقفين والصحافيين والمبدعين والنقابيين والسياسيين ومناضلي حقوق الإنسان. وتعتدي على الحريات الأكاديمية وعلى المؤسسات التربوية، ودور العبادة ومقرات النقابات والأحزاب السياسية، مع ما رافق ذلك من توظيف للدين وتكفير للمواطنين».

الأكيد أنه حتى منابر الجوامع، لم تعد تحت سيطرة خيارات الحكومة بالكامل، فحالة الفراغ السياسي جعلت بعض الجوامع تصدر خطباء للمنبر ذوي خلفيات حركية تاريخية معروفة، وإن كان بالقوة.

وهناك حادثة لا بد من روايتها، حول منابر الجوامع التي لم تعد تخضع لرقابة حكومية فعلية، وإن كان بعض المراقبين يراها تعبر عن صراعا داخل القوى السياسية الحاكمة، يروي القصة المديني «الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، والحزبيون المشاركون في الائتلاف الحكومي، تصدوا جميعا لما قام به الداعية المصري وجدي غنيم الذي جال في طول البلاد وعرضها، لينشر من على منابر المساجد التابعة لوزارة الأوقاف برئاسة وزير (نهضوي) خطابا قسم الشعب التونسي إلى كفار ومسلمين، وسخر من النشيد الوطني، وأجاز ضرب النساء وختانهن، وسمح برفع السلاح في وجه الدولة. كما اعتبر سيادة الشعب كفرا وضلالا والحرية الشخصية باطلة وفاسدة، وأجاز إقامة حد الردة على من يمارس حرية التدين. وشوهد برفقة غنيم الحبيب اللوز، النائب في المجلس التأسيسي والقيادي في حزب النهضة». (ستفرد الصحيفة حلقة خاصة عن حزب النهضة).

حالة الصراع الداخلي هذه تجلت في تعليق الغنوشي بحسب رأي المديني «اعتبر الغنوشي أن المشكلة لا تتمثل في هذا الداعية بل في الإعلام الذي يثير الفتنة، بل قال أحد وزراء النهضة إن تونس مفتوحة للآراء كافة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فيما وصف الرئيس التونسي المنصف المرزوقي غنيم بـ(الجرثومة)، وبعدها انطلقت مسيرات متضادة بين السلفيين والعلمانيين».

الأكيد أن الحركة السلفية «الجهادية» في تونس، في طور التشكل دون برنامج واضح حقيقي، ولكنه فاعل على الأرض كممارسات عنفية، ولكن يغيب عنها التمظهر السياسي السلمي الذي يشارك في صناعة القرار في المستقبل السياسي لتونس.

وحالة التشظي على مستوى القيادات كملمح رئيسي، تجعل من الصعب السيطرة الكاملة على ردود أفعالها، كونها بلا قيادات موحدة يمكن التفاهم معها، وإن كان يرى مهتمون آخرون أن جميع أفراد «الحالة» السلفية هم مرصودون أمنيا، ويمكن تحجيم خطرهم أمنيا في حال وجود الرغبة السياسية من صناع القرار. ولكن يبقى مستقبل تونس مجهولا في هذا الجانب، خصوصا مع توارد أنباء متقطعة عن اكتشاف كميات سلاح مهرب من الجوار من وقت للآخر.