المهاجرون العائدون يعززون الطبقة الوسطى في المكسيك

مكسيكيو أميركا حولوا بلداتهم في بلدهم الأصلي إلى مدن عصرية بفضل الحوالات

مهاجر سابق في أميركا يعمل في متجر جزارة خاص به بعد عودته إلى بلدته في المكسيك
TT

على مدار عقد كامل، ظل رجال هذه البلدة يتجهون شمالا صوب أرض الدولارات، مخالفين بذلك قوانين الهجرة الأميركية، للعمل في حفر أحواض السباحة في مدينة ممفيس وفرم اللحوم في شيكاغو. كان هؤلاء الأشخاص يعتبرون أجانب غير شرعيين في الولايات المتحدة الأميركية، لكنهم أصبحوا الآن في وطنهم الأصلي أصحاب مشاريع جديدة يستخدمون مليارات الدولارات التي حصلوا عليها «على الجانب الآخر من الحدود» لخلق طبقة متوسطة في المكسيك. ويقول لويس دي لا كالي، الخبير الاقتصادي المكسيكي، إن هؤلاء المهاجرين «قاموا بعمل سيئ ليتمكنوا من القيام بآخر جيد».

وبينما كانت تذهب معظم الحوالات النقدية المرسلة إلى بلدة إلنورتي لمساعدة الأسر الجائعة على البقاء على قيد الحياة، تؤكد استطلاعات الرأي الآن أنه كلما زادت فترة بقاء المهاجر في الولايات المتحدة، زاد احتمال استخدام الحوالات النقدية التي يرسلونها في افتتاح الأعمال الجديدة أو شراء المنازل أو معدات المزارع أو حتى دفع المصروفات الدراسية.

وانطلاقا من بلدة سانتا ماريا ديل ريفوجيو، وهي البلدة التي يقطنها 2.500 شخص وتقع في ولاية غواناخواتو في وسط المكسيك وتحولت من منطقة ريفية إلى حضرية، كان الشباب يسافرون إلى الولايات المتحدة سعيا وراء الحراك الاجتماعي الذي لم يتمكنوا من إدراكه في وطنهم الأم. بدأوا بإرسال الأموال إلى عائلاتهم في المكسيك، بينما قرر الكثيرون منهم العودة مجددا إلى وطنهم بعد تباطؤ نمو الاقتصاد الأميركي. وللمرة الأولى منذ 40 عاما، وصل عدد المهاجرين الصافي في المكسيك إلى صفر، حيث تساوت أعداد المواطنين المكسيكيين الذين سافروا إلى الولايات المتحدة مع هؤلاء الذين عادوا منها في العام الماضي. ويتوقع خبراء الهجرة أن تعود موجة الهجرة إلى الشمال مرة أخرى مع تعافي الاقتصاد الأميركي مجددا، ولكن من المحتمل أيضا أن يبقى بعض المهاجرين العائدين في البلاد، نظرا لتوافر المزيد من الفرص الكبيرة في المكسيك.

في بلدة سانتا ماريا، قامت الدولارات التي وفرها المهاجرون من عملهم في الولايات المتحدة بتحويل هذه القرية الفقيرة إلى مدينة ذات أرصفة مشاة رائعة ومقاهي إنترنت وصفوف من المنازل المكونة من طابقين والتي ترتفع على نفس التلال التي كانت ترعى فيها الماشية الهزيلة في الماضي. ويقول روبرتو ماندوجانو (50 عاما) الذي عاد إلى بلدته وافتتح متجرا للأدوات المنزلية منذ خمسة أعوام: «انظروا إلى هذا المكان، لقد تحول إلى مدينة تقريبا. لم يكن هناك أي شيء من هذا القبيل في البلدة عندما سافرت».

ينتمي ماندوجانو إلى مجموعة سكانية جديدة في المكسيك، هي الطبقة الوسطى الآخذة في الزيادة والتي يملك أعضاؤها منازل خاصة وسيارات ويقضون إجازات. وتنظر هذه الطبقة إلى الولايات المتحدة باعتبارها نموذجا ومثلا أكثر من كونها دولة مستغلة.

غادر ماندوجانو، الذي ولد في أسرة مكونة من 10 أشقاء، سانتا ماريا وعبور نهر ريو غراندي في سن السابعة عشرة. تمكن من العثور على عمل في شركات تنسيق المناظر الطبيعية وفي مشاريع إقامة الطرق السريعة، حتى حصل على رخصة للعمل كسباك في نهاية المطاف. أما الآن، وبعد أن عاد إلى المكسيك، فإنه يشارك في بعض سباقات الماراثون في عطلات نهاية الأسبوع ويملك متجرا مليئا بالبضائع (يسمى «متجري المنزلي الصغير»)، فضلا عن حصوله على الإقامة الدائمة الأميركية (غرين كارد) التي تمكنه من السفر إلى تكساس في أي وقت شاء و«على متن طائرة»، كما يقول ماندوجانو بكل فخر.

يعيش نحو 12 مليون مكسيكي (نحو 15 في المائة من القوة العاملة في المكسيك) في الولايات المتحدة، سواء بصورة قانونية أو غير قانونية، وفقا لمركز «بيو هيسبانيك سنتر»، حيث يؤكد الباحثون أنه كلما طالت فترة إقامة المهاجرين في الولايات المتحدة، مكنتهم الأموال التي يجنونها من الانتماء إلى طبقة اجتماعية أعلى من طبقتهم.

وعلى الرغم من ذلك، تؤدي هذه الحوالات إلى خسائر جمة على المستوى الأسري، تتمثل في غياب الآباء والزيجات المتوترة والأسر المتهاوية. ويؤكد خبراء التنمية أنه يجب استبدال الاعتماد على الحوالات المالية في المكسيك باقتصاد قوي قادر على خلق المزيد من فرص العمل، مضيفين أن نمو الطبقة الوسطى في البلاد والتي تعتمد على الهجرة هو إشارة إلى ضعف، وليس قوة، الاقتصاد المكسيكي.

وفي بلدان أميركا الوسطى مثل غواتيمالا والسلفادور، والتي تعتمد بصورة أكبر على الأموال المرسلة من الولايات المتحدة، أدت الحوالات المالية إلى افتتاح مزيد من الأعمال ونشأة طبقة متوسطة وليدة في البلاد، ولكن الكمية الأكبر من هذه الأموال تذهب إلى المكسيك. وعلى مدار العقد الماضي، ارتفعت قيمة الحوالات التي يرسلها المكسيكيون العاملون في الولايات المتحدة من 3.7 مليار دولار في عام 1995 إلى 25 مليار دولار في عام 2007.

واعتمادا على أحدث البيانات الاجتماعية والاقتصادية، هناك شريحة من المكسيكيين ليست بالقليلة، لم تعد إلى الطبقة الفقيرة وإنما إلى الطبقة المتوسطة، مما يشكل تغييرا ديموغرافيا هائلا في هذا البلد الذي كان 80 في المائة من سكانه يعيشون تحت خط الفقر في عام 1960. لا تبدو الطبقة المتوسطة في المكسيك مثل نظريتها في أوروبا أو الولايات المتحدة، حيث يكسب أعضاؤها أموالا أقل بكثير. ويعتبر المواطنون الذين يقبعون في الدرجات الدنيا من السلم الاجتماعي أكثر عرضة للخطر، حيث إنهم أقل تعليما وكثير منهم عاطلون عن العمل ومن دون أي رعاية أو تأمين صحي أو حتى معاشات. ونتيجة لاستمرار عدم المساواة في المكسيك، ستظل الطبقة المتوسطة أقرب دوما إلى الطبقة الفقيرة منها إلى الطبقة الثرية في البلاد.

وتعتبر الحوالات النقدية أحد العوامل الكثيرة التي تؤدي إلى تعزيز نمو الطبقة المتوسطة في المكسيك. ففي ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، واجهت المكسيك سيلا من الأزمات: مثل الزلزال العنيف الذي ضرب العاصمة وتأميم البنوك والانخفاض المفاجئ لقيمة البيزو وحركة التمرد المسلحة التي شهدتها ولاية تشياباس. وفي الأعوام الـ15 الماضية، تمكنت البلاد من ترويض التضخم، في الوقت الذي يقل فيه عدد الأطفال في كل عائلة بصورة كبيرة وتقوم العائلات باستثمار الكثير من الأموال في هؤلاء الأطفال.

وزادت القدرة التنافسية والمناطق الحضرية في المكسيك بشكل كبير، بينما انخفضت أسعار معظم السلع الاستهلاكية مع افتتاح الكثير من الأسواق. وعلى مدار الأعوام الـ20 الماضية، قامت الحكومة المكسيكية ببذل الكثير من الجهود، التي لم ترق بعد إلى مرتبة الكمال، لتوفير شبكة أمان اجتماعية لدعم قطاعات التعليم والرعاية الصحية والمواد الغذائية. ثم يأتي بعد ذلك دور سيل الحوالات النقدية المرسلة إلى البلاد عبر شركة «ويسترن يونيو (حزيران)».

قام العمال المكسيكيون بتحويل 23 مليار دولار تقريبا إلى بلدهم في العام الماضي، وهو الرقم الذي يفوق إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي قامت بها كافة الشركات متعددة الجنسيات في المكسيك. ويتساوى إجمالي الحوالات المالية في المكسيك في الوقت الحالي مع العملات الأجنبية التي توفرها صناعة السياحة وقطاع البترول في البلاد.

ووفقا لبعض الدراسات، فإن نصف عدد سكان المكسيك، البالغ عددهم 112 مليون نسمة، لهم قريب يعيش في الولايات المتحدة، كما أن واحدا من بين كل خمسة مكسيكيين لديه قريب يرسل الحوالات المالية بصورة منتظمة إلى المكسيك، أي أن متوسط الحوالات النقدية التي تم إرسالها إلى المكسيك في مايو (أيار) الماضي يبلغ 329 دولارا للفرد.

وزاد التطبيق الصارم لقوانين الحدود على الجانب الأميركي من تكلفة الهجرة وجعلتها بعيدة عن متناول المواطنين الفقراء في المكسيك الذي لا يستطيعون دفع آلاف الدولارات للمهربين. وأظهرت دراسة قام بها مصرف التنمية للبلدان الأميركية أن 43 في المائة ممن تلقوا تحويلات مالية من الولايات المتحدة وصفوا الوضع الاقتصادي لعائلاتهم في المكسيك بـ«الجيدة إلى الممتازة»، بينما أكد 24 في المائة فقط أن أوضاع عائلاتهم الاقتصادية سيئة أو شديدة السوء.

ويقول فيرناندو مونيز، أحد أصحاب المشاريع في سانتا ماريا والذي سافر إلى الولايات المتحدة للمرة الأولى عندما كان في سن الـ15 من عمره وعمل في بناء المنازل في أريزونا: «أشعر براحة كبيرة لوجودي هنا وسط عائلة وفي بلدي». يملك مونيز المنزل الذي يعيش فيه، من دون أي ديون، بعد أن تمكن منذ عدة أعوام من افتتاح متجر صغير ومقهى للإنترنت يحتوي على 8 أجهزة كومبيوتر وإنترنت عريض النطاق من الأموال التي ادخرها خلال فترة عمله في الولايات المتحدة. ويقوم مونيز، الذي عاش والده فقيرا ومات فقيرا على الرغم من سفره المتكرر للولايات المتحدة للعمل في قطاع الزراعة: «يبلغ ابني 6 سنوات من العمر ويعرف جيدا كيفية استخدام الكومبيوتر، بينما لم أتعلم أنا استخدام الكومبيوتر حتى بلغت من العمر 28 عاما. كم كنت أود أن يراني أبي في هذا الوضع».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»