قوات الأسد تفقد سيطرتها على معاقلها في ريف سوريا

عمليات القتل دفعت السكان لحمل السلاح.. وخلال أسابيع تشكلت 14 جماعة مقاتلة

عناصر من الثوار السوريين سيطرت على سيارة للشرطة في حلب أمس (أ.ف.ب)
TT

وصلنا في وقت متأخر إلى هذه البلدة الزراعية الصغيرة الواقعة وسط تلال ريف سوريا شرق حلب، حيث فسر غياب المظاهرات بمثابة إشارة ضمنية على دعم حكومة بشار الأسد.

لكن ما إن بدأت المعركة في مايو (أيار) حتى انتهت سريعا، على الأقل وفق معايير الثورة التي تدخل شهرها الـ17. واحتفل سكان البلدة باقتراب انتصارهم شبه الكامل على القوات الموالية للنظام بعد هروب آخر حامية للجيش من المدينة يوم الأحد، لنفاد إمداداتها من الغذاء وانخفاض معنويات جنودها.

وبذلك، أصبحت مدينة «الباب» أبعد نقطة في الرقعة الريفية الممتدة جنوبا من الحدود التركية نحو مدينة حلب تخرج عن سيطرة الحكومة خلال الأسابيع القليلة الماضية.

ألقى انحسار سلطة النظام في هذه المحافظة الشمالية بظلاله على المعارك الهادفة إلى السيطرة على مدن حمص ودمشق، وانضمت إليهم مدينة حلب خلال الأيام القليلة الأخيرة، حيث تشن الحكومة هجوما واسع النطاق لتحرير الأحياء التي تمكن الثوار من السيطرة عليها في الأيام الأخيرة.

وبرغم أن قوات الأسد سخرت كل مواردها لتعزيز قبضتها على الأحياء السكانية الرئيسية، فإنها لا تزال تواصل خسارة نفوذها في المناطق الريفية جراء سلسلة من المعارك غير المحسومة التي لم تبد قاطعة بعد، لكن ذلك يبدو أنه يعطي زخما للثوار. قصة معركة الباب، إحدى الجبهات التي تجاهلتها حرب تدور رحاها في جبهات عدة، تشير إلى أن سيطرة الحكومة كانت أكثر هشاشة مما كان يعتقد البعض، وأن ذلك اتضح بشكل كبير خلال الأسابيع القليلة الماضية.

هذا الجزء من البلاد، الذي كان من المعتقد أنه محايد في الصراع، والذي تهيمن عليه الأغلبية السنية، دفعت عزلته عن الصراع في المناطق الأخرى الحكومة على التمسك بمزاعمها بأنها لا تزال تحظى بتأييد قطاعات واسعة من السكان غير العلويين.

يشير عمار عثمان (29 عاما) ناشط في اتحاد تنسيق مدينة الباب وضواحيها إلى أن تأخر محافظة حلب في اللحاق بركاب الثورة يعود بشكل كبير إلى إصرار الحكومة على منعها من القيام بذلك، لا لعدم رغبة أبنائها في ذلك.. وتعتبر حلب بسكانها، الأربعة ملايين نسمة، أكثر محافظات سوريا (الـ14) من حيث تعداد السكان والثراء، وقد وهبها موقعها على الحدود التركية ميزة استراتيجية تتجاوز دورها كمركز تجاري وزراعي في البلاد.

ويقول عثمان، الذي قضى 45 يوما في السجن العام الماضي لمشاركته في تنظيم المظاهرات: «كان النظام قويا للغاية هنا. فنشروا كثيرا من القوات الأمنية، لأنهم يعلمون أنهم لا يستطيعون تحمل خسارة حلب».

في 20 أبريل (نيسان) تسارعت وتيرة العنف في المناطق الأخرى، وبدأت محافظة حلب في التحرك، ليتغير كل شيء في مدينة الباب. في ذلك اليوم فتحت القوات الموالية للأسد نيرانها على المظاهرة التي أقيمت هنا للمرة الأولى لتقتل سبعة أفراد، وكان من بين القتلى عمار النجار (20 عاما)، طالب الهندسة الذي قاد المظاهرات السلمية في المدينة.

وبكى والده كمال الأسبوع الماضي بشدة وهو يتذكر وفاة ابنه، قائلا: «لم يكن يطلب سوى الحرية من الاستبداد، كان ذلك سلاحه الوحيد».

ويشير ياسر أبو علي، المتحدث باسم الثوار في المدينة إلى أن عمليات القتل دفعت سكان المدينة إلى حمل السلاح، وفي 20 مايو (أيار)، كانت جماعة «أبو بكر الصديق» الأولى التي تعلن عن تشكيلها. وخلال أسابيع تشكلت 14 جماعة أخرى. هذه الجماعات التي تحمل أسماء مثل «شهداء الباب» و«كتيبة الأنصار» و«كتيبة سلمان الفارسي» تصف نفسها جميعا بأنها جزء من الجيش السوري الحر، لكنها لا تتمتع باتصالات رسمية مع قيادة الجيش، في جنوب تركيا.

ويقول أبو علي: «نحن نعتمد على أنفسنا. فكل ما نمتلكه هنا اشتريناه بأموالنا الخاصة أو استولينا عليه من النظام».

لكن الثوار حشدوا ما يكفي من الأسلحة والذخيرة لشن هجوم لطرد القوات الحكومية من المدينة. وتوج هذا الجهد بتحرير مكتب البريد، الذي كان الأخير ضمن سلسلة المؤسسات الحكومية التي تسقط في قبضة الثوار، نظرا لتمركز قناص تابع للنظام على سطح المبنى إلى أن قتل بقاذفة آر بي جي على يد مقاتلي الجيش السوري الحر.. اللحظة التي وصفها وخلدها الكثيرون من أبناء مدينة الباب على «يوتيوب».

اندلعت احتفالات أهالي المدينة البالغ عدد سكانها 175000 نسمة، واحتشدت مجموعات الثوار في المباني الحكومية والمدارس والمؤسسات الأمنية التي تمت السيطرة عليها في الأيام السابقة، لرفع أعلام الثورة السورية وإقامة مقر جديد.

لكنه كان نصرا غير مكتمل، ففي الطرف الجنوبي للمدينة لا يزال معسكر الجيش معززا بشكل يصعب على الثوار المسلحين بالأسلحة الخفيفة السيطرة عليه. يوجد في المعسكر ما يزيد على 100 جندي، أقل عددا من الثوار الذين تزيد أعدادهم على 1000 مقاتل، لكنهم مسلحون بدبابات ومدفعية وقذائف هاون، ويحصلون على دعم من المروحيات الحربية، التي استخدمت بشكل متكرر خلال تراجع قبضة النظام على المناطق البعيدة.

على مدار الأسبوعين التاليين، قتل 75 شخصا خلال قصف المسلحين لمدينة الباب بالدبابات وقذائف الهاون، التي تعد خسارة كبيرة في هذا المجتمع الصغير في مثل هذه الفترة القصيرة. وفر أكثر من 50000 شخص من سكان المدينة إلى القرى النائية أو الحدود التركية التي تبعد 50 ميلا. أما من فضلوا البقاء في المدينة، فلا يعلمون إلى أين ومتى ستسقط قذائف المدفعية المقبلة؟! ارتفع صوت أميرة رجب، والدة عمار النجار، بالدعاء أثناء سقوط قذيفة هاون بالقرب من منزلها الأسبوع الماضي في إشارة إلى بداية يوم جديد من القصف، ثم انفجرت في البكاء.

لكن بينما كانت المدينة ترتعد فرائصها خوفا، كان هناك سيناريو أكثر إحباطا يتضح في معسكر الجيش الذي كانت تطلق منه القذائف. ففي يوم الجمعة سعى قادة المعسكر إلى التفاوض حول معبر آمن لرجالهم ومعداتهم. وافق الثوار، ثم أعدوا لهم كمينا دمروا خلاله دبابة وأجبروا البقية على العودة إلى القاعدة.

وقال أبو بكر، قائد الثوار الذي يرأس كتيبة أبو بكر: «لقد ارتكبوا كثيرا من المذابح، وقتلوا كثيرا من أبناء المدينة، ولن نسمح لهم بالهرب. نحن في حالة حرب، إضافة إلى ذلك، نحن لا نثق بهم. فربما يطلقون النار علينا».

وأوضح جنديان منشقان عن الجيش قبل يومين أن الطلب كان حقيقيا. فقد انقطع المعسكر المحاصر بالثوار عن العالم الخارجي، ونفد الطعام الموجود لدى الجنود. أما من أصيبوا في المصادمات فلم يتمكنوا من إجلائهم للعلاج. ويقول خليل اليوسف، الذي تسلق سياجين محيطين بالمعسكر ووصل إلى الثوار بعد التفاوض على خروجه مع ابن عم له في الجيش السوري الحر في دمشق: «الجنود هناك خائفون للغاية».

وفي وقت مبكر من صباح الأحد، وخلال نوم الثوار بعد محاولة فاشلة خلال الليل لإطلاق صواريخ محلية الصنع على المعسكر، شق الأفراد الناجون من الحامية طريق هربهم، وتكفلت المروحيات الحربية وطائرات مقاتلة بتغطية عملية الهروب.

هبت المدينة مرة أخرى، ونزال الثوار إلى الشوارع وهم يقودون دبابة وقطعة مدفعية وكميات كبيرة من الذخيرة التي خلفها الجنود الفارون، وأطلقوا النار في الهواء ابتهاجا، لكن بصورة متقطعة، لأنهم قالوا إنهم يخشون من نفاد الذخيرة.

وخلال ساعات عاودت المروحية الظهور وبدأت في إطلاق الصواريخ لتتوقف الاحتفالات ويسارع أهالي المدينة إلى داخل منازلهم مرة أخرى.

* خدمة «واشنطن بوست»