الروس بين مطرقة البقاء وسندان الهجرة

المظاهرات الحاشدة الأخيرة منحت كثيرين الأمل ودفعتهم إلى التراجع عن حزم حقائبهم

ناديجدا تولوكونيكوفا (وسط) أثناء نقلها إلى المحاكمة بتهمة التظاهر ضد حكم الرئيس بوتين في موسكو أمس (رويترز)
TT

زاد النضال السياسي الذي تشهده روسيا في الوقت الراهن من حدة التوتر القائم منذ أمد بعيد بين الداخل والخارج، وبات الروس بين مطرقة البقاء وسندان الرحيل، فما أن يغادر الروسي وطنه حتى يشعر بالعذاب والحنين، وما أن يظل في روسيا حتى يشعر بالإحباط واليأس.

«لن يحدث شيء جيد»، بهذه الكلمات اليائسة بدأت ماريا بارونوفا، 28 عاما، وهي أم لطفل لم يتعد ربيعه الخامس بعد، حديثها. وكانت بارونوفا قد فكرت في الرحيل عن روسيا، قبل أن تعدل عن قرارها بعدما أصبحت معارضة سياسية نشطة وحتى بعدما تم اتهامها بالتحريض على العنف في مظاهرة في السادس من مايو (أيار) الماضي. وأضافت بارونوفا: «أنا روسية حتى النخاع، ولذا من الأفضل لي أن أظل هنا».

ووفقا لأحدث استطلاعات الرأي والآراء السياسية، كان الشباب والليبراليون يفكرون في الهجرة منذ عام مضى، ولكن الوضع تغير خلال فصل الشتاء عندما خرج عشرات الآلاف للتظاهر في الشوارع مطالبين بانتخابات حرة ونزيهة من جهة، ومعارضين للرئيس فلاديمير بوتين من جهة أخرى. شعر الروس بالأمل بعدما خرجوا للشوارع واعترضوا بصوت مرتفع بعد سنوات طويلة من الصمت المطبق، ولكنهم بدأوا الآن يفقدون هذا الأمل بعدما بدأت السلطات الروسية تشدد قبضتها على الأمور بدلا من أن تتعامل مع المواطنين بقدر أكبر من الحرية.

وبدأت القوى الموالية للرئيس بوتين تحط من قدر المعارضة، وتتهمها بالعمالة وإقامة علاقات مع كيانات خارجية، وخير مثال على ذلك أنه قد تم تصوير قادة المعارضة الروسية أثناء زيارتهم للسفير الأميركي في روسيا مايكل ماكفول والتنديد بهم في نشرات الأخبار التي تذاع على التلفاز الروسي. وصرح بوتين بأن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون قد أعطت إشارة البدء لاندلاع احتجاجات معارضة ضده. وعلاوة على ذلك، تم سن قانون يتهم أي منظمة غير حكومية تحصل على أموال من الخارج بالعمالة، كما تم اتهام المدون الروسي الشهير أليكسي نافالني، الذي كان قد أمضى نصف سنة دراسية في جامعية «ييل» الأميركية، بالتحريض على تنظيم المظاهرات في روسيا. وقام التلفاز الروسي بعرض صورة جواز سفر كندي لبيوتر فيرزيلوف، وهو زوج إحدى المعتقلات في روسيا، كدليل على أنه يريد تفكيك روسيا!.

وردا على اتهامه بالتحريض على تنظيم احتجاجات، كتب نافالني على مدونته الأسبوع الماضي يتهم رئيس لجنة التحقيق ألكسندر باستريكين بإقامة علاقات ومصالح تجارية مع جمهورية التشيك، وهو ما يعد مخالفة للقانون في نظر المسؤولين الروس.

ومنذ سنوات طويلة، يقوم رجال الأعمال الروس البارزون بشراء عقارات في لندن ونيويورك، تحسبا لعدم القدرة على الإقامة في روسيا، كما هاجر العلماء الروس إلى الغرب بحثا عن فرصة. وعلى الرغم من ذلك، تحاول السلطات الروسية أن تصور أن أي شيء يحدث بالخارج يعني عدم الولاء لروسيا.

وإذا كان الأميركيون يستمدون وطنيتهم من المثل العليا التي وضعها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة والألمان يستمدون هويتهم من عِرقهم، فإن الروس يستمدون إحساسهم بالوطنية من أرض روسيا نفسها، ويكفي أن الروس البيض الذين خسروا الحرب الأهلية الطاحنة التي شهدتها روسيا في عشرينات القرن الماضي ضد الجيش الأحمر أو البلاشفة، حملوا معهم صناديق صغيرة مليئة بالتراب الروسي عندما تركوا البلاد. وقام الكاتب ألكسندر سولجينتسين ببناء منزل في المنفى في ولاية فيرمونت الأميركية، وليس في وطنه، وعاد إلى روسيا بعدما سقط الشيوعيون الذي كانوا يعذبونه.

وثمة جانب مهم للغاية وهو أن الاختلاف بين حكومة بوتين والحكومة السوفياتية يكمن في أن بوتين يعطي الروس حرية الرحيل عن البلاد، وهو ما يعد صمام أمان مهم للروس؛ حيث تقول الحكومة للمواطنين إن أي شخص غير سعيد في البلاد أو غير راض عن أحواله يمكنه الذهاب إلى المطار والسفر إلى الخارج.

وترى بارونوفا، التي تم تحذيرها من إمكانية إلقاء القبض عليها الشهر الماضي بسبب ضلوعها في احتجاجات السادس من مايو وأفرج عنها بعد تعهد رسمي يلزمها بعدم القيام بذلك مرة أخرى، أن السلطات تعمل على تخويفها حتى تترك روسيا وتسافر للخارج، وتضيف: «ولكن لماذا؟ أنا لا أفكر في ذلك مطلقا».

وبعد أن قامت بارونوفا بجمع الأموال لمساعدة ضحايا الفيضانات في مدينة كريمسك، تم اتهامها على مدونات مجهولة الهوية بسرقة تلك الأموال. وبعد ذلك، حاولت الشرطة إيجاد دليل على تورطها في علاقة مثلية، كما تلقت كثيرا من التهديدات بالقتل حتى قررت الرحيل، ولكن إلى مكان جديد داخل موسكو.

وقد حاول الروس البيض، الذين استقروا في باريس ونيويورك، خلق ما تصفه بارونوفا بروسيا الوهمية، ولكنها تؤكد أنها لن تقوم بذلك أبدا، مضيفة: «لا أريد أن أذهب إلى بروكسل وأقرأ كتبا مثيرة. إننا في خضم شيء ما في الوقت الراهن».

كانت بارونوفا تود الرحيل عن روسيا عام 2010، ولكن إجراءات انفصالها عن زوجها أدت إلى تأجيل الرحيل. وقد رحل جميع أصدقائها في الجامعة، عندما كانت تدرس الكيمياء، عن روسيا منذ وقت طويل. وتلمح بارونوفا إلى السبب الذي جعل المعارضة الروسية عاجزة عن المضي قدما بعد بدايتها الرائعة خلال الاحتجاجات التي قامت بتنظيمها في شهر ديسمبر (كانون الأول)، قائلة «إننا نعمل بمفردنا، ولا نملك الذكاء الكافي، ويعود السبب في ذلك إلى صورة أساسية إلى غياب الاحترافية في روسيا بعدما هجرة الأشخاص الأكفاء من البلاد».

أما رفيقة بارونوفا، أناستاسيا ريباتشينكو، فهي غير قادرة على اتخاذ القرار النهائي، سواء بالبقاء في روسيا أو الرحيل؛ حيث أعلنت في وقت مبكر من الشهر الماضي أنها ستطلب اللجوء السياسي إلى ألمانيا، ولكنها تراجعت الأسبوع الماضي، وكتبت على موقع «تويتر» تقول إنها ألغت تلك الفكرة وسوف تبقى في روسيا.

ينتمي فيرزيلوف، 25 عاما، إلى جماعة «فيونا»، التي تعني الحرب، التي تقوم بتنظيم أعمال استفزازية ضد السلطة. ومن المعروف أن فيرزيلوف متزوج من ناديجدا تولوكونيكوفا، 22 عاما، وهي إحدى أعضاء فرقة «بوسي رايوت». وقد تم اعتقال تولوكونيكوفا في مارس (آذار) الماضي مع اثنين آخرين من أفراد الفرقة بتهمة الإقامة في كاتدرائية بموسكو وأداء أغنية مناهضة للرئيس بوتين. وبدأت المحاكمة يوم الاثنين، وأنكر الثلاثة تهمة الشغب الموجهة ضدهم.

وقال فيرزيلوف إنه «حصل على جواز سفر كندي بعدما قضى ثلاث سنوات في إحدى المدارس المتوسطة بمدينة تورونتو الكندية»، ويعتقد فيرزيلوف أن التركيز على قضية جواز السفر ما هو إلا محاولة لتشويه صورة أفراد الفرقة المحبوسين، الذين أدى اعتقالهم واستمرار حبسهم إلى موجة كبيرة من التعاطف، ولذا تحاول السلطات تصويرهم على أنهم خطرون للغاية على أمن روسيا، وأنهم يعملون من أجل المصالح الكندية.

ويرى فيرزيلوف أن هذه القضية سوف تأتي بنتائج عكسية في نهاية المطاف وتؤثر تأثيرا سلبيا على السلطات الروسية. وأضاف فيرزيلوف: «تعد القضية برمتها خير دليل على الفظائع التي يود بوتين القيام بها، ولكنه تخطى جميع الحدود. إن كل خطأ ترتكبه الحكومة يقربها من نهايتها. والنتيجة التي نود جميعا تحقيقها هي تغيير النظام». وفي حالة تغيير النظام، لن يكون هناك أي مشكلة في أن يحمل فيرزيلوف الجنسيتين الروسية والكندية في آن واحد!.

* خدمة «واشنطن بوست» - خاص بـ«الشرق الأوسط»