ليل الرعب في العاصمة.. وأهل الشام يحللون «لغة الرصاص»

انشقاق حجاب يخترق تجهم الأيام الدمشقية بعاصفة من النكات

علم الثورة السورية يرفرف عاليا في حي ركن الدين بالعاصمة السورية دمشق أول من أمس (رويترز)
TT

نجح نبأ انشقاق رئيس الوزراء السوري رياض حجاب المفاجئ في اختراق الأجواء المتجهمة في العاصمة دمشق، فرغم ارتفاع معدل كثافة التواجد العسكري والأمني في الشوارع، وزيادة عدد الحواجز الإسمنتية على مداخل الحارات المحيطة بالقصر الجمهوري في المهاجرين وتجمع سيارات الإسعاف والحافلات والسيارات في محيط المقار الأمنية، فإن الابتسامة ارتسمت على وجوه السوريين المصابين بالملل والكآبة من حالة الترقب والرعب التي طالت كثيرا.

أمين، وهو ناشط يسكن في الصالحية قريبا من أحد أكبر المقرات الأمنية، قال: إنهم استفاقوا يوم أمس على «انتشار عشرات حافلات 24 راكبا المعروفة بباصات الأمن وسيارات ستيشن وسيارات إسعاف، وعشرات الجنود وعناصر الأم بالعتاد الكامل بدت وجوههم عابسة، وكأنما مصيبة حلت بهم».. وجاء ذلك في غضون استمرار حملة المداهمات منذ يوم الخميس الماضي في الأحياء الممتدة على سفح قاسيون (الصالحية العليا)، مثل ركن الدين، الشيخ محي الدين، الشيخ إبراهيم، المهاجرين، العفيف، والجسر الأبيض، والطلياني.

بالإضافة إلى ذلك عاشت تلك الأحياء «حالة توتر جراء الإطلاق المدفعي من جبل قاسيون باتجاه جوبر وعين ترما وقدسيا والهامة»، بحسب ما قاله السكان.

أبو محمد، من سكان المهاجرين (شمسية)، قال: «إن أهل سكان الجبل لم يعد يرعبهم صوت الإطلاق المدفعي، لقد حصل ذلك في البداية.. لكنهم باتوا الآن يصعدون إلى الأسطح لمعرفة أين تلقى القذائف المارة من فوق رؤوسهم». ويسخر من زوجته أم محمد التي «لا تكل ولا تمل من صعود السلم والنزول كل يوم عشرات المرات لمراقبة حركة القصف والانفجارات في المدينة، حتى أنها أصيبت بألم في الساقين والمفاصل»، ويصفها بأنها «تارة كمتنبئ الأحوال الجوية، وتارة أخرى كمعلق رياضي» حتى أنها - كسائر السوريين - اكتسبت خبرة في ترجمة أصوات إطلاق النار.. «فتقول هذا صوت إطلاق مدفعي من قاسيون من جهة ركن الدين وذاهب باتجاه جوبر، وذاك صوت مدفع من جانب الجندي المجهول باتجاه قدسيا، أما إطلاق النار فهو آت من منطقة الحرش وهكذا. وعندما تلتبس عليها الأصوات، تهرع إلى الهاتف لتسأل معارفها في المناطق الأخرى عن الأوضاع عندهم وعما إذا كانوا يسمعون ما تسمعه من أصوات».

وبينما تلك هي حال أبو محمد وزوجته، وضع شباب حماصنة قائمة بمصطلحات صوتية للتعريف بطبيعة إطلاق النار، فيقولون مثلا صوت «دج ج ج» للتعبير عن قذيف مدفع.. أما «بوووووووووبم» فتستخدم للانفجار، وهي تختلف عن «بوووووووووووووف» التي هي تعبير عن سقوط صاروخ. وللرصاصات يستخدمون «طق طق طق»، و«بوووووو بوووو» لرشاش «بي كي سي»، إضافة إلى «بف بف بف» للتعبير عن الـ«آر بي جي».

في زحمة ترجمة الأصوات يتبدد الوقت ويقل الخوف والقلق، ويشير أبو محمد إلى أن «يوم السبت كان حافلا منذ الصباح، حتى أن أم محمد لم تجد وقتا لتحضير طعام الإفطار».

ويصف أمين في حديث لـ«الشرق الأوسط» أصوات الإطلاق المدفعي يومي الجمعة والسبت بأنها كانت تهز المهاجرين ويسمع صداها في كل المدينة، إلا أن يومي الأحد والاثنين كانا هادئين نسبيا، لكن الانتشار الأمني في الشوارع والأحياء «كثيف جدا».

في البداية اعتقد البعض أن المداهمات الجارية في حيي المهاجرين وركن الدين على سفح قاسيون هي السبب، أو ربما التفجير الذي حصل داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون، علما بأن المداهمات باتت أمرا اعتياديا كما أن الانفجار في التلفزيون كان صغيرا جدا، ولم ينشغل به سوى وسائل الإعلام الرسمية، حيث لم تحدث أي أضرار تذكر.

لكن سرعان ما اتجهت الأنظار نحو نبأ انشقاق رياض حجاب رئيس الوزراء ووزيرين وثلاث ضباط لم يكشف عنهم، والذي نزل كالصاعقة على مؤيدي النظام، بينما تنسم منه المعارضون مؤشرا عن قرب الانفراج وسقوط النظام، لتهب مع النبأ عاصفة من النكات والتعليقات الساخرة، خلخلت حالة الكمد العامة جراء الاستنفار الأمني الشديد وسماع أصوات إطلاق النار وأبواق سيارات الإسعاف. وعودة سيارات الشبيحة والمؤيدين للنظام إلى الانطلاق في الشوارع بسرعة كبيرة مع أغاني وهتافات التأييد للرئيس الأسد.

وكتب المعارض فايز سارة على صفحته في موقع «فيس بوك» معلقا على انشقاق حجاب «صرنا سفور وبلا حجاب».. واستهزأ ناشط معارض آخر «بعد الحجاب قرر النظام أن يحارب... بالبكيني»، بينما تساءل آخر «لو أعرف الشيخ المندس اللي كتب له هذا الـ(حجاب) لأبي رقبة!!!»، وأبو رقبة هي إشارة يقصد بها الأسد.

من جانبه عبر الناشط أمين عن فرحه بانشقاق رئيس الوزراء باعتباره «صفعة لنظام ليس لديه أي مقدسات»، وقال: إن «الشبيحة يقومون باستفزاز سكان دمشق بكل وقاحة وصلافة، ويوم أمس قام الشبيحة المنتشرون في شارعنا الواقع ضمن سوق تجاري مكتظ بالناس في منطقة محافظة بتناول الطعام والشراب وسط الشارع دون أي مراعاة لمشاعر الصائمين والشهر الكريم».

واستدرك أمين بالإشارة إلى أن الجنود المنتشرين على الحواجز في محيط المدينة وفي المناطق الخطرة لا يقومون بما يقوم به الشبيحة، بل تراهم «خائفين ومرهقين وجائعين وعيونهم بالكاد تفتح بسبب قلة النوم والقلق، كأنما يتعمد النظام ترك المساكين من جنوده في مرمى نيران الجيش الحر؛ أما الشبيحة فينتشرون في الأحياء المحافظة والراقية ليستفزوا الناس مع أن الخوف يقض مضاجعهم».

ويتوقف أمين عند حادثة مضحكة ومبكية جرت قبل أيام، وتشير إلى حجم الرعب عند النظام وشبيحته. ويقول إن جيرانا له «شعروا بالملل من البقاء الطويل في المنزل، فقرروا التنزه بالصعود إلى سطح البناء، وكانت الشمس لا تزال حادة فقاموا بنشر حصيرة كستارة من أشعة الشمس ورشو الماء لترطيب الجو. وبينما هم يقومون بذلك بدأت طائرة مروحية تحوم فوقهم، ولم يعيروا لها انتباههم باعتباره شيئا اعتياديا.. لكن بعد قليل فوجئوا بعشرات الجنود يحاصرون البناء، ويطلبون من جميع الرجال النزول بصمت وإحضار بطاقاتهم الشخصية لتسليم أنفسهم!!». ويضحك أمين شارحا كيف أمضى الرجال عدة ساعات «يشرحون للجنود ما كانوا يقومون به، ويوضحون أن الستارة ليست سوى حصيرة لدرء حر الشمس، وليست ساترا لإطلاق النار».

لذلك يقول أمين إن «نبأ انشقاق رئيس الوزراء نزل بردا وسلاما»، رغم «المخاوف من رد فعل النظام واحتمال ازدياد جنونه والقيام بمزيد من العنف والقصف». أما دينا، فهي سيدة من أصول حلبية تعيش في حي القصور القريب من ملعب العباسيين، حيث يوجد أكبر تجمع للشبيحة وقوات الأمن ومقر المخابرات الجوية، وهو أحد أكبر وأخطر الأجهزة الأمنية السورية.

وتقول دينا إن حي العباسيين ومحيطه تحول إلى «ثكنة عسكرية منذ نحو عام، وكل الطرق المحيطة به مغلقة بحواجز إسمنتية»، وتضيف أن «كل يوم نحن على موعد مع مسلسل الليل المرعب، فما أن تصل الساعة إلى العاشرة ليلا حتى تبدأ أصوات إطلاق النار والاشتباكات والقصف المدفعي، وذلك حتى ساعات الصباح.. وتمتد الأصوات من العباسيين إلى القصور إلى حي التجارة والعدوي». وتشير إلى أنه يوم السبت «انفجرت قنبلتان صوتيتان في حي العباسيين حيث يسكن شقيقها، وتسببت بمقتل شخص فر مع أولاده من بلدة عربين القريبة إلى منزل أهله في العباسيين، حيث سقطت القنبلة عليه مباشرة وأصابت أطفاله بجروح».

وتلفت دينا إلى أن هذه الحوادث «تحصل عادة في أوقات غير متوقعة.. فقد سقطت القنبلة قبيل موعد الإفطار تماما، وهي اللحظة التي تكون فيها المدينة قد بدأت تدخل في حالة سكون تام».. وتؤكد بسخرية: «اعتدنا على المفاجآت حتى لم نعد نفاجأ، بل صار الهدوء يرعبنا.. وصباح أمس كان هادئا، صرت وعائلتي نطلب من الله أن يسترنا من هذا الهدوء المريب».. وعندما «ذاع نبأ انشقاق حجاب تنفسنا الصعداء ونحن نضع أيدينا على قلوبنا متوجسين من القادم».